تربطني بالشاعر الأديب الشيخ عبدالله بن إدريس، صلة مودة تمتد جذورها الى خمسة وأربعين عاما.
وقد بدأت تلك الصلة الودية عندما كان أحد البارزين في نادي الكليتين، إلقاء وإدارة، وكنت أحد طلاب المعهد العلمي، ثم كان من لطفه وحسن ظنه بي أن جعلني بين من تحدث عنهم في كتابه شعراء نجد المعاصرون.
ومواقف الشيخ عبدالله الوطنية، التي هي مواقف كل غيور من أبناء أمتنا العربية المسلمة، معروفة محمودة، وكان مما جادت به مشاعره النبيلة مقالته التي نشرها في صحيفة الجزيرة الغراء يوم الثلاثاء 2/6/1422ه بعنوان :« أين الغضبة الإسلامية الفاعلة؟».
ولقد أشار الشيخ عبدالله في تلك المقالة الى أنه سأل في مقالة سابقة عما فعلته منظمة المؤتمر الإسلامي تجاه التحدي اليهودي في فلسطين لمشاعر المسلمين، الذين هم ربع سكان المعمورة من البشر. وقال: إن المنظمة لم تجب عن سؤاله «حتى كأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد». ثم ختم مقالته بقوله:
« لو دعت الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وزراء خارجيتها لاجتماع طارئ (وكل الاجتماعات الرسمية العربية والإسلامية طارئة، ولله الحمد) لمناقشة ما يحدث الآن على أرض الواقع الفلسطيني لكان ذلك أجدى من عقد قمة عربية».
ومشاعر أبي عبدالعزيز مشاعرنبيلة. وطرح القضية طرحا إسلاميا له ما يبرره.. ولقد أثبت تاريخ أمتنا أهمية الشعور الديني في مواجهة الصهاينة ولعل من أبرز الشواهد على ذلك الأعمال البطولية التي قام بها «الأخوان المسلمون» عام 1948م ثم الأعمال الباسلة التي قامت بها المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، مدعومة من القوى الجادة المدركة بأن الحقوق التي استلبها الصهيونيون لا يمكن أن تعاد إلا بالمقاومة الواعية الفاعلة فكان ما كان من هرب هؤلاء بالطريقة التي هربوا بها مما رفع معنويات شعبية كادت القيادات التي فضلت العيش الذليل، تقضي عليها.أما الكفاح العظيم المنقطع النظير الذي يقوم به الآن شعب فلسطين فمن الواضح أن طليعة القائمين به هم المنتمون الى الحركات الإسلامية.
ولذلك أصبحوا الهدف الأول لأعمال التصفية الإجرامية الصهيونية المدعومة من قبل أمريكا معنويا وتسليحيا وتمويليا.
وأعود الى سؤال الشيخ عبدالله الموجه الى الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي لأقول: إنه سؤال وجيه، وإن عدم إجابتها عنه وجيه أيضا ذلك أنها قد كفيت مؤونة الاجابة فقد تنبأ أحد شعراء أمتنا العربية باحتمال طرح مثل هذا السؤال قبل أن تؤسس المنظمة المهيبة بأزمان وأزمان، فتطوع بالإجابة نيابة عنها قائلا:
لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن تنادي
ومبدع المثل النجدي المشهور ا ختصر مدلول هذا البيت، فيما بعد بقوله :«صياح مقبرة».
لكن ماذا لو أجابت الأمانة العامة للمنظمة عن سؤال الشيخ عبدالله واستجاب وزراء خارجية الدول الإسلامية لطلبها، فاجتمعوا؟
عندما أحرق أحد الصهاينة ما أحرق من المسجد الأقصى قبل أكثر من ثلاثين سنة كانت أوضاع العرب والمسلمين، قيادات وشعوبا، أفضل بكثير من الآن. وعقدت منظمة المؤتمر الإسلامي اجتماعات طارئا كالعادة لقادة الدول الإسلامية في الرباط. وقد عبر الشاعر عمر أبو ريشة، رحمه الله، عن رؤيته لذلك الحدث بقوله:
خافوا على العار أن يمحى فكان لهم
على الرباط لدعم العار مؤتمر
وقد لا يوافق ذلك الشاعر العظيم كثيرون في رؤيته لذلك المؤتمر ولو كان حيا وشاهد اللقاء الصحفي بعد اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير فماذا سيقول؟
على أن تتبع سيرة المنظمة العطرة خلال عمرها المديد ماذا يجد؟
كان انعقاد مؤتمر الرباط رد فعل لإحراق شيء من المسجد الأقصى، وهو حدث برغم حساسيته لا يقارن سوءا بما يجري الآن للمسجد.
وما حدث، ويحدث، للمسجد الأقصى حدث، ويحدث، مثله للقضية الفلسطينية بكل أبعادها لقد كانت بداية التنازلات العربية إلغاء قرارات مؤتمر الخرطوم بقبول شرعية وجود الدولة اليهودية على الأرض التي اغتصبتها في فلسطين، والمطالبة بإنهاء احتلالها لما احتلته سنة 1967م فقط.
ثم مضى مسلسل التنازلات، الذي كان من أكبر أسبابه بعد خرق سفينة الموقف العربي بعمل صلح منفرد مع تلك الدولة إقدام صدام على ارتكاب جريمته الشنيعة الغبية باحتلال الكويت.فقد كان من نتائج تلك الجريمة المدمرة أن أصبح العرب في موقف لا يتيح لهم فرصة التحرك خارج ما تريده أمريكا.
فكان مؤتمر مدريد الذي نسيت قراراته الآن، ثم كان اتفاق أوسلو، الذي كانت بنوده شاهدة على قوة طرف من المتفقين ودهائه وعلى ضعف الطرف الآخر ورضوخه. ومع سوء هذا الاتفاق فإن بنوده التي تقيد الطرف الضعيف الراضخ لم تنفذ.
وبالعودة الى منظمة المؤتمر الإسلامي فإن المرء يجد أنها عقدت مؤتمرا في طهران بعد قيام الانتفاضة العظيمة، وقد سمع المتابعون لجلساته العلنية كلاما كان مقبولا في مجمله، ولكنهم لم يسمعوا بطبيعة الحال ما قيل في جلساته المغلقة التي كان من ضمن ما ورد فيها تعليق لرئيس أكبر دولة إسلامية، من حيث العدد، على تلك الانتفاضة.
فقد قال عنها: هذه أعمال صبيان ستنتهي في بضعة أيام ولم يكن ذلك التعليق غريبا ممن اعتاد أن لايثق إلا في مستشفيات دولة الصهاينة لعلاج أمراضه.
ولم يكن غريبا، أيضا، أن يفضل بعد أن رفضه ممثلو شعبه اللجوء الى بلاد شريكة هذه الدولة في جرائمها ضد الشعب الفلسطيني بدلا من الذهاب الى فلسطين المحتلة لأنه يخشى أن تتضاعف عوامل تحطيم معنوياته برؤيته استمرار ما وصفه بأعمال صبيان ستنتهي في بضعة أيام.
كان جديرا بذلك الرئيس المحترم أن يتعلم من أحبته الصهاينة شيئا من بعد النظر خلال علاجه لديهم ليفهم ما تعنيه الانتفاضة. لقد أدرك أدهى قادتهم السياسيين وأخطرهم، بيرس، أبعادها. فهرع بعد ثلاثة أيام فقط من بدايتها الى أوروبا مستنجدا زعماءها أن يبذلوا جهودا لإيقافها، لكن الانتفاضة لم تتوقف رغم فداحة التضحيات، مدركة مدلول قول الله تعالى :« إن يمسسكم قرح فقد مسَّ القوم قرح مثله»، وإن ما فقده اليهود المحتلون من الأنفس على أيدي أبطالها أنكى عليهم مما فقدوه في حروبهم السخرية مع العرب كلهم، بل لو لم يكن من تأثيرها إلا نشر الهلع في قلوبهم وتكبيدهم خسائر اقتصادية لم يعتادوا على تكبدها لكفى.
على أن المؤلم حقا وإن لم يكن مستغربا أن يوجد من قادة العرب من يسعون لايقاف الانتفاضة رغم نتائجها الايجابية بالنسبة للقضية الفلسطينية، وذلك، على الأرجح، مخافة ازدياد التعاطف الشعبي العربي والإسلامي معها بحيث يمكن أن تهتز كراسيهم التي هي القضية الجوهرية بالنسبة لهم.
وكان حافظ، رحمه الله، يقول:
أنا لولا أن لي من أمَّتي
خاذلا ما بتُّ أشكو النُّوَبا
أمَّة قد فتَّ في ساعدها
بغضها الأهل وحبُّ الغُرَبا
وعلى أية حال، فإن منظمة المؤتمر الإسلامي شأنها شأن بعض المنظمات العربية والإسلامية الرسمية أثبتت أنها لا تعدو أن تكون «مثل التبنة على الجحام»، كما يقول المثل المحلي. إن عملية استشهادية واحدة أعظم وأبلغ أثرا من القرارات التي اعتاد الجميع أن يسمعوها منمقة العبارات خالية مما قد لا تستسيغه سيدةأكثر القيادات المكبلة بأصفاد الخوف.
ولأن القادة العرب والمسلمين إلا من ندر منهم لا يثقون بالله، ثم بقدرات أمتهم الذاتية، فإنهم اعتادوا أن يهرعوا الى مجلس الأمن الدولي ذليلين آملين أن يجدوا حلا لنكباتهم، مع علمهم الأكيد أن ذلك المجلس تسيره أمريكا وفق إرادتها التي لا تخرج قيد أنملة عن إرادة الصهاينة. ولعله لم يبعد عن الصواب من قال عنهم: