| وَرّاق الجزيرة
قال الاستاذ الدكتور احسان عباس في كتابه فن السيرة:
القدرة على الاحساس بالتاريخ، كسائر المزايا الانسانية، موطن للتفاوت بين الافراد ومجال تتباين فيه الجماعات، وقد يقنعنا اشبنجلر، وهو يحاول ان يثبت هذه الميزة لامة كالمصريين القدماء، وينفيها او يقلل من اثرها في عالم الحضارة الكلاسيكية اليونانية، فالامة التي تحرق جثث رجالها، ولا تعنى بتسجيل اعمالهم، واذا مضى على وفاة احد عظمائها ستون سنة لم تستطع ان تحقق ان كان ذلك العظيم شخصية تاريخية او خرافية، لهي امة فيما يراه اشبنجلر ضعيفة الاحساس بالتاريخ، كذلك كانت الامة اليونانية تتخذ تماثيلها من ابطال الاساطير، ولم يحاول اي عظيم فيها ان يكتب مذكرات تعين عينه الداخلية على تركيز شيء من وجوه التجربة، فلم يحدثنا سقراط نفسه عن حياته الذاتية بشيء ذي قيمة، وليس عند افلاطون تطور واع للافكار والمبادئ، وكتبه ليست الا نظرات متباينة من زوايا مختلفة..
قلت: والذي يتأمل كلام الدكتور احسان عباس ثم ينظر في نتاج علماء المسلمين في جانب السيرة الذاتية لاشك انه سيجد لدينا نماذج مشرقة في هذا الجانب المهم من التعريف المشروع بالنفس واعطاء الآخرين خلاصة التجارب العلمية والحياتية في صور تدعو الى الفخر.
ولعل ما تميز به ما كتبه سلفنا في مجال السير الذاتية انها ليست خارجة عن فئة واحدة من الناس، بل قد كتب فيها العالم الشرعي، والعالم المؤرخ، وعلماء النحو، وكذا القادة العسكريون، ورجال السياسة، وغيرهم من المشاهير والوجهاء، فأصبحت سيرهم الذاتية تخاطب الكثير من محبي كتب التراث الآن على مختلف تخصصاتهم، ووظائفهم واهتماماتهم.
ولعل من الطريف والجميل في الوقت نفسه ان بعض علماء الفقه، وعلماء التفسير وهم اهل تخصص ذكروا شيئا من الاحكام الفقهية والمباحث العلمية المرتبطة بحديث الشخص عن نفسه، وما يتربط به، وهذا ان دل على شيء فانما يدل دلالة كبرى على العناية بهذا الموضوع في تراثنا.
اما ما كتبه العلماء في السيرة الذاتية فيمكن ان يصنف الى قسمين:
القسم الاول: ما كتب استقلالا من اجل هذا الموضوع «الحديث عن النفس» في كتاب مستقل، او ضمن كتاب خاص بالتراجم، فتجد العالم اوالاديب او المؤرخ او السياسي يكتب كتابا يبين فيه سيرته العلمية، وبعض اخباره الخاصة، وهذا القسم من المصنفات دخل فيه الكثير من اهل العلم والفضل فأهدوا للمكتبة مصنفات نفيسة،هي في غاية الاهمية والطرافة، ومنهم من يترجم لنفسه ترجمة مستقلة ضمن كتاب عام في التراجم، فيختم الكتاب بذكر ترجمته انتظاما مع العلماء الذين ترجم لهم، ومنهم من يضع ترجمته عند الحرف الخاص به.
القسم الثاني: ما كتبه العالم عن نفسه في تضاعيف كتاب ضخم، او موسوعة مطولة.
ولعل مثال ذلك ما فعله الحافظ ابن حجر العسقلاني «ت 852ه» في كتابه العظيم فتح الباري، فتجد انه في بعض الاحيان يشير الى حادثة حصلت له شخصيا، اذا عرضت مناسبة توجب له الكلام فيها.
ومن ذلك على سبيل المثال فقده أحد كتبه وبعدها عن عينه، وهو بحاجة لها، حيث قال عن احد الاحاديث النبوية التي هو معني بجمع طرقه وتتبعها: وكنت خرجته في جزء من طرق نحو الاربعين نفساً عن الاعمش فغاب عني الآن، ولو امعنت التتبع لزادوا عن ذلك.
قلت: وهذا الحديث هو حديث ابن مسعود الذي يطلق عليه حيث الصادق المصدوق.
والذي احب ان اشير اليه هنا ان الساحة العلمية الآن لا تخلو من عدة دراسات تتحدث عن ما كتب في السيرة الذاتية استقلالا ومناهج اصحابها فيها، ولا شك ان هذا امر حسن ويخدم كل باحث ومهتم في التراث.
وهذه الدراسات قدمت الكثير للباحثين في الجانب العلمي لهذا الفن من التراجم، وبعضها لا يخلو من امثلة مهمة.
ولكن الذي احب ان اشير اليه هنا هو: الدعوة الى اخراج السير الذاتية التي كتبها العلماء والمصنفين في غير مظانها او بطريقة غير مباشرة، وكم هذا الامر سيقدم لنا الكثير من الفوائد.
ولعله لا يخفى على اي طالب علم انه في بعض الاحيان حينما يكتب شخص عن سيرته الذاتية في كتاب مستقل للحديث عن النفس فإنه سيكون مستعدا لذلك وسيكون كلامه يحمل نوعا من الرسمية، وهذه صفة لا يسلم منها كثير من الناس.
اما حينم يكون الكلام على النفس ضمن حادثة تاريخية او بحث فقهي او مشاهدة شخصية فان الامر سيخرج بعفوية تامة، وسيضفي فوائد اخرى عن المترجم له.
وهنا مثال آخر: الحافظ ابن كثير الدمشقي المؤرخ والمفسر المعروف، من يتأمل في كتابه البداية والنهاية يجده في بعض الاحيان يذكر بعض القصص التي جرت له مما يصب في سيرته الذاتية، وهي في غاية الاهمية لمن اراد ان يدرس الجانب الانساني والعائلي عند الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله.
ومثل هذا الكلام ينسحب على عصري الحافظ ابن كثير الا وهو العلامة ابن القيم، فهو يذكر في كتابته الكثير من التجارب الشخصية في جوانب كثيرة منها ماهو طبي ومنها ماهو في علاج بعض الامراض النفسية، وهذه القصص والاخبار كلها تصب في جانب استخراج سير العلماء من كتبهم.
وبعد كتابة ما تقدم يهمني ان اوضح بعض المسائل ذات الارتباط بما سبق:
«1» الكثير من العلماء والادباء والمؤرخين لم يكتبوا سيرهم بشكل مستقل، لاسباب كثيرة، ولعل من ابرزها الورع واحتقار الذات، لكنهم بشكل غير مباشر دونوا الكثير من اخبارهم وما حصل لهم، من حوادث شخصية وعامة في بطون كتبهم المطولة.
«2» الغريب ان بعض الباحثين ترجموا لعلماء كبار، واعتمدوا في ترجمتهم على مصادر متفرقة من كتب التراجم ممن بعدهم، على ان هؤلاء العلماء ممن تطرق للحديث عن نفسه في كتبه، فلو تحمل هذا الباحث القراءة في بعض كتب من يترجم له لاستخرج بعض الفوائد المهمة عن هذا المترجم له.
«3» من فوائد هذه السير الذاتية التي هي في غير مظانها: ان العالم قد يذكر بعض كتبه التي الفها، ولا شك ان ذكر العالم لكتابه هو اعلى درجات التوثيق كما بينه اهل العلم في مبحث توثيق النصوص.
«4» لعل من الطريف معرفته ان معرفة سير بعض العلماء الذاتية البحتة، يعين على معرفة تأليف العالم لبعض كتبه، كوفاة قريب، او زواج لاحد افراد الاسرة، او ان احد ابناء هذا العالم يتوجه توجهاً غير مرض، فما يكون من العالم الا ان يتفاعل مع هذا الحدث بتأليف كتاب او تصنيف رسالة تناقش هذا الموضوع.
وختاما :
ادعو اخواني الباحثين والمهتمين الى جمع وتقييد اخبار العلماء التي كتبوها عن انفسهم في تضاعيف كتبهم التخصصية، ولاشك ان حركة التدوين هذه ستخرج لنا الكثير من الكتابات الجادة التي ستثري الساحة، ولست مبالغا اذا قلت ان بعض الباحثين سيقف على نصوص مهمة في هذا المجال، وسيجد الجديد والمفيد.
|
|
|
|
|