| متابعة
الجوانب التي يتناولها الكلام عن عاهل الجزيرة العربية أو المملكة السعوية كثيرة متعددة، يجول بينها الكاتب في عالم واسع من المشاهدات والأخبار ومن الذكريات التاريخية والشعائر الدينية، ولكننا نعتقد أن الكلام عن عاهل الجزيرة العربية نفسه لا يتم ولا يصور للناس صورته الحقيقية ما لم يتناول جانب «الأبوة» منه والجانب الإنساني الحي الذي يتراءى من النظرة الأولى لمن يحضر مجلس العاهل العظيم، ويرى على ملامحه الواضحة إمارات الرضى والغبطة وهو يكلم واحدا منهم أو يراهم حافين به متطلعين إليه، يحبونه حب الأب الودود، ويهابونه مهابة السيد المطاع، وجملة ما يقال في النظرة التي ينظر بها جلالته الى أبنائه أنه يحتضنهم بعينيه، ويشعر بالارتياح الشامل وهم على مشهد منه.
ومكان أصحاب السمو الأمراء في قاعة الاستقبال الكبرى بالقصر الملكي في مكة المكرمة هو أقصى مكان، لأن مقامهم كما قال لهم جلالته محفوظ ملحوظ، والضيوف في المجلس أولى بالتوسعة والترحيب، ولكنهم يجلسون أمامه صفا واحدا على مائدة الطعام، ويقفون على يسار جلالته إذا وقف في عرض أو احتفال.
عرفنا جلالته الى سموهم في القصر الملكي، فلم يتردد همسة واحدة في ذكرهم بأسمائهم على التوالي مع سرعة التعريف وسرد الأسماء ولجلالته ذوق خاص في اختيار الأسماء لأبنائه فيه تجديد أسماء آبائه وأجداده في الأسرة السعودية، أو التفاؤل للسلم والحرب أو الانتماء الى الله.
كان من حظنا في اليخت أن نجاور بعض أصحاب السمو الأمراء الشبان فتفضلوا بدعوتنا الى الجلوس معهم، وشعروا أنني في حاجة الى تعريف جديد فكنت أعقب على كل اسم سمعته بتفسير لمعناه يتضمن التحية والثناء.
قالوا: عبدالمحسن، قلت: عبدالله جل جلاله والمحسن هو الله.
وقالوا: متعب، فقلت: متعب لأعدائه.
وقالوا: مساعد، فقلت: لأصدقائه.
وقالوا: مشعل، فنطقتها بفتح العين وقلت: منار ينير الأبصار، فاستدرك أخوه الذكي الأمير نواف قائلا: بل هومشعل، بل مشعل بضم الميم ليشعل نار الحرب على الأعداء.
قلت: هو كذلك.
ثم عادوا الى التعريف.
فقالوا: طلال، قلت؟ ظلال تظل الآمنين.
فقالوا: نواف وهو أصغر الأمراء الحاضرين سنا، فقلت: ينيف على الأنداد والأقران.
وسموه سريع الخاطر فطن عظيم الثقة بنفسه، فقال في شيء من السرعة والعقاد؟ أيش معنى العقاد؟
قلت: معناها القديم أنه الذي يعقد الحرير.
فقال الأمير عبدالمحسن فيما أذكر: ولكنه يعقد الفصول الآن.
ومما أعتبره تحية لمصر أن أصحاب السمو الأمراء على صغر سنهم وبعضهم لم يبلغ الرابعة عشرة يعلمون الشيء الكثير عن مصر وعلمائها ويتتبعون أخبارها في الصحف والمذياع، ويصححون ما يخطىء فيه بعض الحاشية من الأخبار والأعلام.
ومما اغتبطت به كثيرا أن صاحب السمو الأمير متعب وهو لم يبلغ السادسة عشرة بعد تفضل فأهدى الي نسخة قديمة من جريدة «الحرم» لصاحبها الشاعر الفاضل الأستاذ فؤاد شاكر، صدرت قبل مولد سموه بسنة وفيها قصيدة لي وصورة من صوري أيام الشباب كدت أنساها.
وسألني : هل تسرك هذه المفاجأة؟
قلت: كل السرور.
فكتب على الصفحة التي فيها القصيدة :« أقدم للأستاذ الكبير الكاتب الجبار عباس محمود العقاد قصيدته هذه للذكرى» ووقع عليها بهذا التوقيع «متعب بن عبدالعزيز».
وسأحتفظ بهذه التحية بين أنفس الذخائر والذكريات.
وقد تناول أخوه الأمير مساعد نسخة الصحيفة وقرأ منها القصيدة قراءة صحيحة واضحة معقبا عليها بعد الانتهاء من قراءتها بهذه الكلمة الكريمة «معان قوية».
وقد جرى جلالة الملك عبدالعزيز على عادة ملكية رشيدة في تدريب الأمراء على مهام الدولة وأعمال الحكومية، فمن بلغ منهم سن العمل والاشتغال بالمسائل العامة وكل إليه عملا يناسبه، وترقى به من مهمة إلى مهمة في مراتب الكفاءة والاختيار.
وعلى حب جلالته لأبنائه ا لحب الجم الذي يبدو على أسارير وجهه يأخذهم جلالته بالتربية العسكرية في المواقف الرسمية، ويطلب منهم أن يظلوا على استعداد لتلقي أوامره في كل لحظة وبغير تمهيد، فكان أصحاب السمو الأمراء جميعا لا يعلمون من منهم يسافر مع جلالة والده ومن يبقى في نجد أو الحجاز، وجعل بعضهم يسألون كباررجال الحاشية لتشوقهم الى زيارة مصر قائلين أنتم تعلمون ، ولكنهم كانوا أيضا لا يعلمون، وإنما علموا بأسماء الأمراء الذين يصحبون جلالة والدهم في اليوم الأخير.
وكان موقف التوديع على قصر الغيبة في الطريق وفي الديار المصرية موقفا ينم على الحب المتبادل بين الاخوة والأبناء والأعمام، فكان المودعون يلثمون المسافرين وأعينهم مغرورقة بالدموع، ثم يقبل الأصغر يد الأكبر سواء كان من المسافرين أو المودعين.
وتصرفهم وإن صغرت سنهم تصرف الراشدين الذين يعرفون كرامة الإمارة ويعطونها من السمت والشارة..
لما كان الأمير نواف في الولايات المتحدة، طلب أن يقابل الرئيس ترومان في القصر الأبيض، فتلقاه الرئيس في مقابلة خاصة بالترحيب والإكرام، قلت للأمير: ما رأيك في الرئيس ترومان!
فأجاب جوابا يكبر سنه بكثير، وقال: أنا ما اجتمعت بالرئيس غير لحظات، فليس لي أن أقول فيه رأيا من الآراء.
وأخبرني من كان مع سمو الأمير في زياراته للمدارس والجامعات الأمريكية أن الطلبة كانوا يسألونه ويكثرون من الأسئلة فيجيبهم سموه فيما يرى الاجابة .. ولكنه في زيارة من هذه الزيارات قال لهم: ألا أسألكم مرة كما تسألونني؟
قالوا : تفضل.. فسألهم: ما هي حدود المملكة العربية السعودية؟ فوجموا وخلطوا في الجواب. فعاد الأمير يقول: سؤال منتظر لا تعرفون جوابه، وقد أجبت على أسئلتكم فيما يخطر ولا يخطر على البال!
وهم أي سمو الأمراء من أكبر قراء الصحف المصرية بين يومية وأسبوعية وشهرية ومنهم من يشترك في نيف وثلاثين صحيفة، ويذكرون بمقالات فيها نشرت منذ شهور، ويحق للصحافة المصرية أن تعتد بهذه النخبة من القراء الأدباء الأمراء.
أقر الله بهم عين والدهم العظيم، وكتب الخير على أيديهم لرعيته المخلصين.
|
|
|
|
|