رئيس التحرير : خالد بن حمد المالك

أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 2nd September,2001 العدد:10566الطبعةالاولـي الأحد 14 ,جمادى الآخرة 1422

مقـالات

فن القراءة علمٌ لا يدرَّس في المدارس!!
بقلم: إبراهيم بن عبدالله السماري
القراءة وسيلة من أهم وسائل التعلم.. وهي زاد الفكر ومادة عمله؛ إذ هي ذات تأثير قوي في توجيه هذا الفكر وفي تنمية مداركه وفتح الآفاق أمامه ليسبح في ملكوتها ويفسر دقائقها ويتأمل غاياتها.
ومن أجل هذه الأهمية البالغة للقراءة صارت علماً له أصوله وأسسه بل وأسراره التي تجعل هذه القراءة تجمع بين المتعة والفائدة، وتحقق أعلى درجات الاستفادة من حيث العمق ومن حيث التأثير في النفس وفي الغير.
ويمكنني الجزم بأن نوعية القراءة تتأثر بأهدافها وغاياتها والآثار المرومة منها ونوعية المادة المقروءة.
أما عن هدف القراءة والغاية منها فإن المسلم حين يقرأ القرآن الكريم فإنه يثاب على مجرد القراءة بنيّة العبادة. فقد روى الإمام الترمذي رحمه الله في سننه في كتاب فضائل القرآن عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»
وقراءة القرآن الكريم تنطبق عليها جميع أنواع القراءة؛ حيث فيه المحكم الذي يفهمه كل أحد بمجرد قراءته، وفيه المتشابه الذي لايعلمه إلا الراسخون في العلم «... منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخر متشابهات» سورة آل عمران الآية7.
وكذلك حين يقرأ المسلم كتب الحديث النبوي الشريف وكتب السيرة المطهرة أو حين يقرأ كتب الفقه. بل حين يقرأ أي كتاب طلباً للعلم النافع مخلصاً النية فهو في عبادة وقراءته حينئذ تكون قراءة تعبدية في حين أن الغربي مثلاً حين يقرأ في كتاب«ما» فإنه يقرأ من أجل الاطلاع لمتعة التسلية أو الفائدة فحسب.
أما عن نوعية المادة المقروءة فإن قراءة الصحيفة تختلف عن قراءة الكتاب العلمي. وقراءة كتب التاريخ تختلف عن قراءة كتب الفلسفة. وقراءة كتب الرياضيات تختلف عن قراءة كتب الأدب، وهكذا مما هو معلوم بالمشاهدة والتجربة ولايخفى على ذي لب وبصيرة. في حوار دار بيني وبين الأخ يوسف بن محمد العتيق حول القراءة تلاقت تصوراتنا حول كثير من النقاط وبحكم شغفه التراثي أشار إلى أن القراءة التراثية لعلمائنا تتميز بأنها تجمع بين النظر والصوت في حين أن قراءة الغربيين تقتصر على النظر فحسب. وأنا أؤيد كلامه لأنني أرى أن القراءة الأفضل هي التي تخاطب أكثر من حاسة من حواس الإنسان في وقت واحد.
وعندما طرحتُ إشكالية المقارنة بين القراءتين التراثية والغربية في السرعة ذكر الأستاذ العتيق أن من القراءات التراثية قراءة الضبط والتصحيح التي يقرأ فيها التلميذ على الشيخ كتاباً كاملاً أو نحواً منه في مجلس أو عدة مجالس ويقتصر الشيخ على تصحيح الأخطاء اللغوية وما يقع في الكلمات من تصحيف أو تحريف الخ.. فهذه القراءة سريعة جداً بدليل أنه ورد كثيراً في كتب التراث أن بعض التلاميذ قرأ صحيح البخاري وغيره من المطولات في ثلاثة مجالس أو نحو ذلك.
والذي أود التنبيه إليه هو أن علماءنا الأعلام من خلال أمهات كتبهم لم يتجاهلوا أهمية القراءة في طلب العلم، ولم يتركوها هملاً بدون أسس وضوابط تعلي قيمتها وتعتصر رحيقها وتضاعف فوائدها. وقد قيد بعض العلماء المسلمين منذ عصور متقدمة فوائد القراءة وطرق الاستفادة منها من حيث أسلوب التعامل ومن حيث الوقت ومن حيث الاستعداد البدني والذهني ونحو ذلك.
وأجد ضرورة داعية للإشارة إلى ماذكره العلماء من ضرورة التنبه إلى عدم الاقتصار في طلب العلم على النظر في الكتب فحسب وإنما الطريق الأسلم والأنفع هو الجثو على الركب أمام الأشياخ في حلق العلم. ولذا قالوا:«من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه».
وسبب هذه المقولة في رأيي أن الكتاب كائن ذو طبيعة تفاعلية. بمعنى أنك تتفاعل معه فيؤثر فيك وتؤثر فيه، ولكن المؤكد أن تأثيره فيك أقوى من تأثيرك فيه؛ لأن تأثيرك لايتعدى الجلد الظاهر من خلال التعليقات والتقميشات وتسجيل الشذرات يميناً ويساراً أعلى وأسفل الصفحات. أما تأثيره فيك فيتسرب إلى أعماقك. وقد يملك القدرة على تغيير أفكارك وربما التأثير في معتقدك.
وتفاعلك مع الكتاب قد يقتصر على طلب التسلية فحسب وربما تبحث عن اكتساب معلومة أو معلومات ظاهرة. وقد يتطور تفاعلك معه إلى فهم كل مافيه وقد تفهم بعضه فيجرك فهم البعض إلى محاولة التعمق في فهم الباقي أو تأمله. وقد لايتيسر لك هذا الفهم بدون معلم متبحر في علمه فحينئذ يكون الاقتصار على الكتاب دون الرجوع للشيخ والمعلم سبباً للخطأ والخطل. وهذا مشاهد في الواقع ولاسيما في أيامنا هذه حيث يكثر العلماء الجهال كما كان يسميهم الإمام الآجري في كتابه النفيس«أخلاق العلماء».
يعرّف بعض الغربيين القراءة بأنها:«فن إمساك كل أنواع المعلومات على أفضل وجه ممكن» ولكن هذا التعريف لايقف عند حدود قراءة المكتوب بل يمكن أن يشمل الاستفادة من كل وسيلة اتصالية مرئية أو مسموعة أو سمعبصرية كالإذاعة والتلفزيون والإنترنت والأقراص الممغنطة والمدمجة قراءة وهكذا..
ولتنوع طرق القراءة فإنه يمكن تحديد المقصود بكل نوع بما يشير إلى طبيعته الاتصالية. وعلى هذا يمكن مثلاً تعريف قراءة الكتب والمجلات ونحوها بأنها: «فن إمساك كل أنواع المعلومات المكتوبة على أفضل وجه ممكن».
والكتابة مهارة مركّبة من عدة مهارات أدواتها الظاهرة واحدة وهي القلم والحبر والكلمات. والكلمات والألفاظ كما يقول عنها الجاحظ في كتابه الرائع «البيان والتبيين» منثورة لكل أحد وإنما يختلف الناس في صياغتها وتشكيلها. فالحروف لن تزيد على ثمانية وعشرين حرفاً ولكن صياغة وصناعة هذه الحروف تختلف من صائغ لآخر.
ويشبّه آخر الكتابة بالكرة والكاتب بلاعب الكرة. فالكرة واحدة والفاعل في الحالتين بشر ولكن القدرة على قذف الكرة في إتقانها وجودتها وقوة تأثيرها تختلف من لاعب للاعب!
هناك من يقرأ بشكل واسع يقرأ كل شيء يستطيع الحصول عليه لكنه لايقرأ بشكل جيد، لأن مهارات القراءة لديه لاتحقق له جودة الفهم. ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله«ت728ه» عن الفلاسفة:«إنهم أوتوا عقولاً ولم يؤتوا فهوماً»!
والقراءة عملية مرحلية بمعنى أن كل مرحلة تبنى على أساسات المرحلة السابقة فيقوى البنيان ويتماسك أكثر وقد تتداخل هذه المراحل لشدة الارتباط بينها. فالمرحلة التمهيدية تقتصر على رؤية ظاهر الحروف دون حاجة إلى فهم المدلولات وحقائقها وتشعباتها.
بعد ذلك تأتي المرحلة التفحصية وهي تأخذ عمقاً أكبر من مجرد الصورة الظاهرة للحروف؛ لأنها ترتبط بالوقت المخصص لإنجاز القراءة وبالتالي تتحقق لها معرفة سطحية للموضوع المقروء دون تعمق في مدلولاته وغاياته وإشكالاته.
المرحلة الثالثة هي المرحلة التحليلة والاستنتاجية التي ينتج عنها إثارة أسئلة ومحاولة الإجابة عليها من خلال النص المقروء لتفسير بعض النقاط التي تستطيع أن تضيء الغاية من ذلك النص.
المرحلة الرابعة هي القراءة الموجهة أو القراءة المتخصصة التي تركز على فهم أكبر قدر من المعلومات والفهم والاستنتاج والتحليل حول موضوع معين من خلال النص المقروء.. وهذه أصعب مراحل القراءة وأدقها وأكثرها فائدة؛ لما تتطلبه من التركيز القوي ومن المهارات لإتقانها. وهي المرحلة الحاسمة في عملية القراءة.
المرحلة الخامسة من مراحل القراءة وهي مرحلة منفصلة عن المراحل السابقة ولذا يمكنني تسميتها مرحلة مابعد القراءة تلكم هي مرحلة القراءة النقدية وهي تعتمد على التركيز الشديد في قراءة النص والتدقيق الأشد في فهم مراميه وإشكالاته اللغوية والبلاغية.
وهنا قد يثار إشكال، فبعض الناس يظنون أن القراءة النقدية أسهل من الكتابة ويعللون ذلك بأن الهدم أسهل من البناء. ولكني أؤكدمن واقع تجربة أن هذه النظرة خاطئة وأن القراءة النقدية قد تكون أصعب من الكتابة ولكن بشرط أن تكون القراءة النقدية قراءة جادة وهادفة إلى بناء نص قريب إلى الكمال الموضوعي والبنائي والجمالي فيما يتعلق بالموضوع وبالأسلوب وبالتركيب اللفظي. ومن هنا يسهل ملاحظة أنها عملية بناء وليست هدماً!.
يضاف إلى ذلك أن القراءة النقدية تتطلب مهارات مختلفة عن مهارات الكتابة ومختلفة عن مهارات القراءة العادية. ولذا فليس غريباً أن نجد أشخاصاً برعوا في القراءة النقدية لكنهم عندما يكتبون كتابات غير نقدية يخبو بريق كتاباتهم، والعكس كذلك فإننا نجد كتّاباً متميزين لكنهم عندما يكتبون نقداً تصيبك الدهشة من بدائية معالجتهم للموضوع وعدم قدرتهم على إيصال المعلومة الصحيحة للقارئ.
وبعد تصفح المراحل الخمس للقراءة وما بعدها هناك سؤال ملحٌّ يطرح نفسه هو:
هل القراءة تنمي العقل؟
المؤكد أن القراءة الجيدة تنمي العقل؛ لأنها تحرك ساكنه وتصعصع مدركاته فتنشطه بالتفكير المنطقي والفوائد المتنامية. وهذه عملية تدريبية للعقل تنميه كما تنمي التدريبات الرياضية جسم الرياضي.
إذا كان الأمر كذلك فلا يكفي أن نكثر القراءة فقط ولكن علينا أن نتخيّر مانقرؤه لأنه زاد الفكر والعقل.
وبالله التوفيق،،
alsmariibrahim@hotmail.com

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved