من اللفتات النقدية الفخمة قولٌ لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني (390 456ه) وبينه وبين ديك الجن 155 سنة يذكر فيه لديك الجن حضوراً أدبيّاً، وتأثيراً مع سوء حظ في شهرته، فإنه لما فرغ من طبقة أبي نواس قال: « وأما طبقة حبيبٍ والبحتري وابن المعتزِّ وابن الرُّومي: فطبقة متداركة(1): قد تلاحقوا، وغطّوا على من سواهم، حتى نُسي معهم بقية من أدرك أبا نُواس كابن المُعذل، وهو من كبار المحدَثين وصدورهم المعدودين.. غمره حبيبٌ ذِكراً واشتهاراً.. وكأبي هِفان أيضاً: أدرك أبا نواس، ولحق البحتري، فستره.. وكذلك الجَمَّاز، وللجماز يقول أبو نواس:
سقِّنِي يا بن أذينٍ
من سُلافِ الزَّرجونِ
وديك الجن وهو شاعر الشام لم يُذْكَر مع أبي تمام إلا مجازاً، وهو أقدم منه، وقد كان أبو تمام أخذ عنه أمثلة من شعره يحتذي عليها، فسرقها»(2).
قال أبو عبدالرحمن: التعاصر، والسبق الزمني، بعقد أو عقدين: لا علاقة له بالاستواء في الكفاءة الشعرية.. وكل من ذكرهم كابن المعذل والجماز وديك الجن.. إلخ: لم يُنسوا، بل هم في ذاكرة المؤرخين والأدباء، وشعرهم مروي مستشهد به.. ولكن أدبهم المذكور غير المنسي دون أدب الأعلام كأبي تمام والبحتري.. ولا مقارنة بين شعر ديك الجن القليل ببحر أبي تمام مجدد عصره، حتى يُنْعى حظُّه بأنه لم يذكر مع أبي تمام إلا مجازاً!!.
وأمَّا أخْذ أبي تمام عن ديك الجن على سبيل السرقة أمثلة يحتذي عليها: فدعوى عارية جداً، فأين تلك الأمثلة من شعر ديك الجن التي سرقها أبو تمام؟!!.. ثم إن أبا تمام حامل مشعل الحداثة في عصره، فإذا كان ديك الجن وأنَّى لفقر ديك الجن أن يرفده !! من رواده : فلابد من تتلمذ تاريخي طويل الأمد مسجل، ونماذج شعرية موروثة مروية معروف فيها السابق واللاحق.. والمشهور لقاءات لديك الجن بأساتذة جيله لا تسرُّ.. قال ابن رشيق: «حُكي أن دِعْبل بن علي ورد حمص، فقصد دار عبدالسلام بن رغبان ديك الجن، فكتم نفسه عنه خوفاً من قوارصه ومُشارَّته، فقال: ما له يستتر وهو أشعر الجن والإنس، أليس الذي يقول:
بها غيرُ مَعْذولٍ فداوِ خُمارها
وصِلْ بعشيَّات الغَبوق ابتكارها
وَنَل من عظيم الرِّدْف كلَّ عظيمةٍ
إذا ذُكرت خاف الحفيظان نارها؟!
فظهر إليه، واعتذر له، وأحسن نُزُلَهُ.. ثم تناشدا، فأنشد ديك الجن ابتداء قصيدته:
كأنها ما كأَّنهُ خلل الخلة
(م م) وقفُ الهلوك إذْ بغما
فقال له دعبل: أمسك عليك، فوالله ما ظننتك تُتمُّ البيت إلا وقد غُشي عليك، أو تشكيت فكَّيْك.. ولكأنك في جهنم تخاطب الزبانية، أو تخبطك الشيطان من المس.. وإنما أراد الدِّيك أن يهول عليه، ويقرع سمعه، عسى أن يروعه ويردعه، فسمع منه ما كره أن يسمعه.. ولعمري ما ظلمه دعبل، ولقد أبعد مسافة الكلام، وخالف العادة.. وهذا بيتٌ قبيح من جهات: منها إضمار ما لم يذكره من قبل ولا جرت العادة بمثله، فيُعذر.. ولا كَثُر استعماله، فيشهر.. مع إحالة تشبيه على تشبيه، وثِقلِ تجانسه الذي هو حشوٌ فارغ لو طُرِح من البيت كان أحْزَمَ، واستدعاء قافيته لا لشيء إلا لفساد المعنى واستحالة التشبيه..وما الذي يزيد بُغامُهُ في تشبيه الوقف وهو السِّوار، ولمَ كان وقف الهلوك خاصةً؟!.. ومعنى البيت أن عشيقته كأنها في جيدها وعينها الغزال الذي كأنه بين نبات الخُلة سِوار الجارية الحسنة المشي، المتهالكة فيه وقيل: الهلوك البغي الفاجرة ، فما هذا كُلُّه، وأي شيء تحته؟؟»(4).
ويذكر ابن رشيق غلبة ظاهرة الرثاء عند ديك الجن.. قال:« لا بد لكل شاعر من طريقة تغلب عليه، فينقاد إليها طبعه، ويسهل عليه تناولها: كأبي نواس في الخمر، وأبي تمام في التصنيع، والبحتري في الطيف، وابن المعتز في التشبيه، وديك الجن في المراثي، والصنوبري في ذكر النور والطير، وأبي الطيب في الأمثال وذم الزمان وأهله..وأما ابن الرومي فأولى الناس باسم شاعرٍ لكثرة اختراعه، وحسن افتتانه.. وقد غلب عليه الهجاء حتى شُهِرَ به، فصار يقال: أهجى من ابن الرومي..ومَنْ أكْثَرَ من شيءٍ عُرفَ به، وليس هجاءُ ابن الرومي بأجود من مدحه ولا أكثر، ولكن قليل الشر كثير»(5).
قال أبو عبدالرحمن: أسلفت أن المرجَّح عدم ضياع شعر ديك الجن في الكلام عن ديوانه.. والشاعر المشهور قد يضيع شيء من شعره، ولكن الجيد يبقى.. وليس الرثاء في شعر ديك الجن بأكثر ولا أبلغ ولا أجود.. وكل ما هنالك رثاؤه للجارية في القصة الأسطورة، والمراثي له في جارية وغلام.. وذلك الرثاء منه الجيد ومنه العادي، وتميزت رثائيات له في الحسين بن علي رضي الله عنهما إحداهن مما تنوح به الشيعة.. وكل ذلك لا يجعل له خصوصية في الرثاء لا كثرة، ولا ميزة معانٍ وأفكار، ولا ظاهرةً أسلوبية.
وقد ينزع الوهم إلى الاعتقاد بأن لدى ابن رشيق نماذج من رثاء ديك الجن لم تصل إلينا، ولكن تصريحه رحمه الله أعفانا من هذا التوهم، لأنه ذكر النماذج التي بنى عليها خصوصية الرثاء عند ديك الجن.. قال: «وأبو تمام من المعدودين في إجادة الرثاء، ومثله عبدالسلام بن رغبان ديك الجن، وهو أشهر في هذا من حبيب، وله فيه طريق انفرد بها، وذلك أنه قتل جاريته وقد اتهم بها أخاه، ثم قال يرثيها:
يا مجهةً جثم الحِمامُ عليها
وجنى لها ثمر الرَّدى بيديها
روّيت من دمها الثرى ولطالما
روى الهوى شفتيَّ من شفتيها
حكَّمتُ سيفي في مجال خناقها
ومدامعي تجري على خدَّيْها
فوحق نعليها.. وما وَطِئ الحصى
شيءُ أعَزَّ عَلَيَّ من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن
أخشى إذا سقط الغبار عليها
لكن بَخِلْتُ على الأنام بحسنها
وأنِفْتُ من نظر الحسود إليها
وقال فيها أيضاً على بعض الروايات:
أشفقتُ أن يرِد الزمان بغدره
أو أُبتلى بعد الوصال بهجره
فقتلته وله عليَّ كرامة
مُلء الحشا وله الفؤاد بأسره
قمرٌ أنا استخرجته من دجْنهِ
لِبليَّتي وزففته من خِدره
عهدي به ميتاً كأحسن نائمٍ
والحزن ينحر دمعتي في نحره
الذي أعرف : «ينحر مقلتي» وهو أصح استعارة.
لو كان يدري الميت ماذا بعده
بالحيِّ منه بكى له في قبره
غُصصٌ تكادٌ منها نَفْسُهُ
ويكاد يخرج قلبه من صدره
والرواية الأخرى أن المتهم بالجارية غلام كان يهواها قتله أيضاً، فصنع فيه هذه الأبيات، فصنعت فيه أخت الغلام:
يا ويح ديك الجن، بل تباً له
ماذا تَضَمَّن صدرهُ من غدره
قتل الذي يهوى وعُمِّر بعده
يارب لا تمدد له في عمره (6)
قال أبو عبدالرحمن: إذن النموذج يائية الديك بوصل الهاء، ورائيته بوصل الهاء.. وروايتهما وقصتهما ونسبة الأولى: كل ذلك محل اضطراب كثير، والمؤكد أن الأولى ليست له كما سلف بيانه، وأن سياق معانيها لا يناسب سياق القصة التي نُسبت إليه..وبعد هذا كله فهي عادية أداءً ومعنى وفكراً وعاطفة، وإنما الإثارة في شناعة الواقعة.. الواقعة تاريخياً، أو أسطورياً.
وأما الرائية بوصل الهاء فحري أن تكون لديك الجن، وأنها في غلام قتله كان يهواه.. وإنما الخرافة في ربط القصيدة بأسطورة الجارية، والزعم بأنه قتله، لأنه كان يهواها!!.. مع العلم أن القصيدة تقول:
أشفقتُ أن يرِد الزمان بغدره
أو أبتلى بعد الوصال بهجره
فهذا هو السبب، ولم يذكر الجارية سبباً، ولهذا رتَّب على منطوقِ هذا البيتِ حادثةَ القتل بقوله: فقتلته.. إلخ.
وليس نحر المقلة بأبلغ كما قال ابن رشيق، لأن الحزن لا يجعل المقلة تنضب من الدمع، بل ينضب مع تمادي الحزن وكثرة البكاء.. على أن الرواية: «يسفح عبرتي»..و بعد هذا فعبارة «ينحر دمعتي» معنى جميل، لأنه لم ينكر الدمع، بل جعله يسيل على نحره بدلالة النحر.. ولا يليق حمل المعنى على تجمد الدمع واغتياله بمعنى أن نحر الدمع تجميده، لأن الجمود لا يليق بالنحر الذي هو إسالة، ولأن الحزن ولا سيما في أول الحدث يُسيل الدمع ولا يجمِّده.
والرائية أجمل من اليائية بلا ريب، ولكنها لم تتخلص من التعبير المباشر بأسلوب فصيح إلى الإيحاء، والبعد الفكري، والتجنيح الخيالي، حتى يكون ديك الجن ذا ميزة ومنهج في الرثاء.
ومن العجيب قول ابن رشيق رحمه الله عن ديك الجن والرثاء: «وله فيه طريق انفرد بها».. ثم علل هذا الطريق والانفراد بقوله :«وذلك أنه قتل جاريته..إلخ».
قال أبو عبدالرحمن: أما الميزة الفنية فقد مضى الكلام عن انتفائها، فلم يبق إلا الواقعة أو الأسطورة: بأنه قتلها غيرة، ثم رثاها.. فهذا ليس منهجا فنياً، ولا ميزة فنية، وإنما هو غرابة واقعة لا شأن لها بموهبة ديك الجن.. وأما إطلاق أوليته في رثاء القاتل قتيله فليس ديك الجن أول من فعل ذلك، بل نُسبت الأولية إلى شاعر أسبق منه بقرون، وهو قيس بن زهير العبسي في قوله:
تعلَّم أن خير الناس طراً
على جفر الهباءة ما يريم
وشعر ديك الجن في جملته حسب الديوان المجمَّع من المصادر، والضميمة من كتاب المستدرك على الدواوين على منهج أبي نواس في الخلاعة والغلمانيات والخمرة والطرديات، وقد أعجب أبو نواس بأخيه ديك الجن في المجون.. قال الصفدي: «واجتمع بأبي نواس لما توجه إلى مصر، وقال سعيد بن زيد الحمصي: دخلت على ديك الجن لأكتب شعره وقد صبغ لحيته بالزنجار وعليه ثياب خُضر، وكان جيد الغناء بالطنبور.. وقيل: إنه كان أشقر أزرق العين، ويصبغ حاجبيه بالزنجار وذقنه بالحناء، ولذلك قيل له: ديك الجن .. ومن شعره:
بها غير معذول فداو خُمارها
وَمِلْ بحبالات الغبوق ابتكارها
ونل من عظيم الوِزر كلَّ عظيمةٍ
إذا ذُكرت خاف الحفيظان نارها
وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغرٍ
ولا تسق إلا خمرها وعُقارها
فقام يكاد الكأس يحرق كفّهُ
من الشمس أو من وجنتيه استعارها
ظللنا بأيدينا نتعتع روحها
فتأخذ من أقداحنا الراح ثارها
مورَّدَةً من كفِّ ظبي كأنّما
تناولها من خده فأدارها
ولما اجتاز أبو نواس بحمص سمع به الديك فاختفى خوفاً منه، لأنه قاصر، فقصده أبو نواس في داره، فاستأذن عليه فأنْكرته الجارية، ففهم المعنى فقال للجارية: قولي له: اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك:
مورَّدَةً من كفِّ ظبي كأنّما
تناولها من خده فأدراها
فلما سمع ذلك خرج إليه وأضافه (7).
قال أبو عبدالرحمن: لماذا لا يطرب أبو نواس مع هذه الخمرية الغلمانية الصارخة؟!.. وليس غرضي الكلام عن شاعرية ديك الجن، وإنما الغرض فخامة النقد حول الميزة المزعومة لمنهجه في الرثاء مع أن النموذج قصيدة القصة الأسطورة!!.
**[
الحواشي:
(1) يعني يتبع بعضها بعضها، وذلك وصف لكل طبقة، فالوصف تحصيل حاصل، وهو فضولي.
(2) العمدة 1/213 214.
(3) وتابع ابن رشيق في عبارته المجملة أمثال الصفدي رحمه الله الذي أخذ بقصة البرنية على علاتها بدون أدنى محاكمة ، فقال في الوافي بالوفيات 18/423 عن ديك الجن:
«أخذ عنه أبو تمام الطائي».
(4) العمدة /391 392.
(5) العمدة 1/487 488.
(6) العمدة 2/808 810.
(7) الوافي بالوفيات 18/423.