| شرفات
عينا هذا الشاب عاشقة للورق الاصفر.. لخطوط الاجداد.. لرائحة عتيقة تأتي من زمن بعيد.. هشام عبدالعزيز اصغر محقق للتراث في مصر، ورغم انه لم يتجاوز الثلاثين بعد ، الا انه يعكف بدأب شديد على المخطوطات، يزيح بيديه ركام التراب والنسيان، ليتألق وجه التراث من جديد. اثار ضجة شديدة حين حقق «الف ليلة وليلة بالعامية المصرية». ودون ان يبالي بالهجوم والسخط مضى يحقق: تاريخ مكة الإعلام بأعلام بيت الله الحرام النساء في ثلاث مخطوطات..
ولأنه يمتلك «المشروع» و«الرؤية» استوقفته الجزيرة في هذ الحوار المضيء والكاشف:
التراث وخطر التجاهل والعولمة
باعتبارك احد الشباب الباحثين في حقل التراث العربي.. لماذا اخترت هذا الدرب الصعب؟
وما اهمية تحقيق التراث حالياً؟
في تصوري ان التراث العربي الذي يبلغ حوالي خمسة ملايين مخطوطة منسوخة باللغة العربية، لم يقرأ بشكل كامل الى الآن، ولا يستطيع أحد من الباحثين الجادين ان يجزم حتى بأن «عُمد» هذا التراث العربي قد قرئت. فما قرىء من هذا التراث هو ما خرج على يد محققي هذا التراث وناشريه الذين نشروا ما يعبر عن آرائهم وما لا يصطدم بالمؤسسة الثقافية أو السياسية. اي ان هناك ما يعادل ثلاثة ارباع هذا التراث لم يحقق بعد. اما عن اهمية تحقيق التراث، فإنه لا يخفى على اي باحث جاد مدى اهميته للبحث العلمي.
فتحقيق التراث كاشف عن تجليات خافية لثقافتنا العربية همشت احياناً بفعل فاعل واحيانا بحسن نية لاعتبارات مختلفة اهمها: وجود صفوة او نخبة من المثقفين يهاجمون التراث الشعبي مثلاً، كذلك وجود «وصاية» من بعض المثقفين على العقل العربي بمالا يتيح الفرصة للنبش في جذور هذا التراث. لقد شعرت بان هذا التراث مهمل، وان اغلب الشباب اما يذهب الى الابداع الادبي او الترجمة، على حين ان معرفتنا بذاتنا لن تبدأ الا من التراث.. فماذا نترجم؟ وماذا نبدع؟ وكيف نبدع؟ لن يتحقق هذا التساؤل الا بمعرفة حقيقية بهذا التراث والا يصبح فعلنا الثقافي في فراغ!!
وما القيمة التي تراثها لتحقيق التراث في ظل اندياح الثقافات تحت شعار ما يسمى بالعولمة؟
إن العولمة في نهايتها كتعريف هي توحيد للثقافات المختلفة في زي واحد.. ومقولة ان العالم في ظل ثورة الاتصالات اصبح «قرية صغيرة» مقولة خادعة لانه في هذه القرية الصغيرة يجب ان نتساءل: اي ثقافة من هذه الثقافات المتعددة تسود؟! وبالتالي يصبح من حق كل شعب ان يبحث عن ثقافته وتراثه الخاص به، وبالتالي فإن تحقيق التراث هو تحد اساسي لثقافات العالم الثالث.. هذا العالم الذي يمتلك تاريخاً ويحاول الامساك بالحاضر. العالم الذي يريد له الآخرون ان يهمش وان يجتث من جذوره حتى يفقد مصداقيته وينقرض ان لم يع اهدافه وماذا يريد؟ وحجم ما يواجهه من تحديات.
اذن تحقيق التراث بمثابة اضافة او سلاح يقاوم ما تفرضه ثورة الاتصالات من اندياح «وتميع».
عولمة «طيبة» وعولمة «شريرة»
ربما يكون للعولمة ولثورة الاتصالات جوانب تكنولوجية تضيء وتساعد في تحقيق التراث؟
لاشك ان ثورة الاتصال والتكنولوجيا اصبحت تساعد الباحث في الحصول على ان مخطوطاً في اية لحظة، من خلال شبكة «الانترنت» لكن لا داعي للتفاؤل كثيراً بهذا، لكن التعامل مع الانترنت للحصول على المصادر وخاصة المخطوطات يمر بثلاثة مستويات: اولاً: مصدر او معلومة متاحة مجاناً.. ثانياً: معلومة متاحة بثمن باهظ يفوق قدرات شباب الباحثين وخاصة في العالم الثالث، والمستوى الثالث: ان تكون المعلومة غير متاحة على الاطلاق خصوصاً لباحثي العالم الثالث.. فمثلاً هناك مخطوطة ابحث عنها منذ اربعة اعوام واعرف اين توجد.. وجميع بياناتها، وهي مخطوطة «رفع الاصر عن كلام اهل مصر» ليوسف المغربي وهي موجودة في مكتبة سان بطرسبورج.. ومع ذلك لم اجدها على موقع المكتبة سواء بالمجان او بثمن.. اهمية المخطوطة في كونها تتحدث عن اللهجة المصرية في القرن الحادي عشر فكيف لا تتاح لنا؟ اذن ثورة الاتصالات لا تخدم بالدرجة الاولى الا اصحابها، من اجل هيمنة نمط ثقافي معين على العالم، واعاقة اي تطور للانماط الثقافية الاخرى.
جيل الشيوخ وجيل الشباب
اذا عدنا الى الوراء قليلاً لنقارن بين جيل المحققين حالياً وجيل الرواد.. كيف نرى تلك المقارنة بين الجيلين؟
جيل الرواد على أهمية ما صنع وما انجز في مجال تحقيق التراث الا انه انجز في وجه واحد من اوجه التراث المتعددة.. فنادراً ما نجد تحقيقاً لمخطوط من تراث الشيعة مثلاً. ففي الغالب سار التحقيق من خلال قوالب معروفة ومحددة، وان كنا لا نستطيع ان ننكر اهمية ما أنجز من كتب موسوعية في تلك الفترة.. من هنا يصبح التحدي امام جيل الشباب من المحققين على قلتهم ان يبحثوا عن التنوع والثراء في تراثنا العربي! فكما ان الحاضر مليء بالمتناقضات فكذلك الماضي.. وعلى من يتصدى لتحقيق التراث ان ينطلق من نقطة اساسية هي حياده التام، لانه ليس كل الماضي جميلاً وليس كله قبيحاً.
يفهم من هذا السياق ان عملية التحقيق ليست مجرد نقل ولكنها تحتاج الى مناخ من الحرية مثلها في ذلك مثل اية مغامرة ابداعية؟
التنوع الذي اكتشفته من الاحتكاك المباشر بالمخطوطات يؤكد ان اسلافنا كانوا اكثر منا حرية في التعامل مع القلم.. فمثلاً ابن قتيبة في عيون الاخبار يقول «فاذا مر بك حديث فيه إفصاح ووصف فاحشة فلا يهلنك التخاشع على ان تصعر خدك وتعرض بوجهك» هذه العبارة تؤكد على ما تمتع به ابن قتيبة من مناخ حرعاشه مع نفسه اذ إن اخطر انواع الرقابة والقمع هو ما يمارسه الكاتب على نفسه فينتج سياقاً مرتبكاً ومشوشاً واذا نظرنا الى كثير من العلماء والمؤرخين سنجد ان الرازي والسيوطي وابن قتيبة وغيرهم قد عالجوا دون تحرج او خوف موضوعات شديدة الحساسية نخشى نحن حالياً الاقتراب منها. فاذا لم اتعامل كمحقق مع هذه النصوص بموضوعية وفي مناخ حر فهذا يخرجها من السياق التاريخي الحقيقي ويضعها في سياقنا نحن، فننظر الى السيوطي كإمام له مؤلفات في السنة فحسب وهكذا نجتزئ انجاز مثل هذا الرجل ونفقده قيمته الحقة.
أدوات لطريق صعب
من خلال خبرتك في التعامل مع المخطوط ما اهم الادوات التي يحتاجها المحقق وما الصعوبات التي تصادفه؟
يحتاج المحقق الى جانب السمات الاساسية لأي باحث الى معرفة دقيقة بالسياق التاريخي والاجتماعي لما يحقق، والابتعاد الوجداني عما يحقق، فليس بالضرورة ان يحقق النص الصوفي محقق صوفي مثلاً، فربما يؤدي انغماس المحقق في نص يميل اليه وجدانياً الى فقد حالة التجرد وعدم الالمام «بالانحرافات الخاصة» لكل نص، لانه سيحرص بشكل او بآخر قولبة النص وفق رؤية ذاتية.
بالاضافة الى حاجة المحقق للتراث الى دعم كبير من المؤسسات لانه لا تزال هناك نصوص ضخمة لا يمكن ان يحققها الباحث اياً كان بمفرده.. فمثلاً هناك تفسير للقرآن الكريم بعنوان «سواطع الإلهام» يعتبر على جانب كبير الاهمية للباحثين في علم اللغة لانه مكتوب بالاحرف المهملة في اكثر من سبعمائة صفحة، وهذا الحجم الكبير يحتاج الى مؤسسة ترعاه.
تحقيق التراث الشعبي
من خلال ثلاثة كتب نشرت يتبين ان مشروعك كمحقق يعنى بالجانب المهمش او الشعبي او ما يسمى بالمسكوت عنه.. لماذا هذا المجال؟
بالنسبة لمفهوم «التراث الشعبي» يجب ان نشير الى ان جزءاً كبيراً من تراثنا هو تراث شعبي.. فاذا غضب الامام محمد عبده في بدايات القرن الماضي من كثرة طبع السير الشعبية لأبي زيد الهلالي وعنترة لانها مليئة بالوهم والمغالطة التاريخية، انه من الافضل توجيه الناشئة الى كتب التاريخ المعتبرة مثل تاريخ ابن خلدون او مروج الذهب للمسعودي.. فقد غضب دون ان يسأل نفسه عن سر اقبال العامة على قراءة مثل هذه الكتب! مع العلم بأن ابن خلدون في مقدمته اتهم المسعودي نفس اتهامات الامام محمد عبده لكتب التراث الشعبي!!! مثل هذه المواقف تؤكد على أهمية التراث الهامش وما تم ابعاده رغم انه يضيف في تكوين صورة واقعية لثقافتنا العربية في الماضي بما يسهم في معرفتنا بأنفسنا.
اذا اخترنا الف ليلة وليلة التي حققها عن العامية المصرية كنموذج للتراث المهمش..
كيف كانت هذه التجربة وما ردود الفعل حولها؟
نص الف ليلة وليلة هو نص شعبي باللهجة العامية التي افترضنا انها مصرية. يحمل هذا النص تحديين عند تحقيقه
انه سرد بدون شهرزاد، حيث ان السارد مجرد راو على مقهى. اما التحدي الثاني فيتمثل في لغة المخطوط التي افترضنا انها عامية مصرية. فعدم وجود شهرزاد في النص جعل البعض يرى اننا اقحمنا النص على ألف ليلة وليلة المعروفة.
ربما يكون هذا النص مجرد تحريف ما لألف ليلة وليلة الاصلية؟
في البداية لا يوجد نص محدد يمكن الاحتكام اليه باعتباره النص الاصلي لالف ليلة وليلة، فثمة نسخ هناك في أماكن ومكتبات مختلفة على مستوى العالم تزيد عن الف وخمسمائة نسخة باللغة العربية فحسب.. اي ان الف ليلة مجرد اطار يتمتع بقدر كبير من السماح بدخول وخروج الحكايات دون قيود، وبالتالي فهي اشهر كتاب عربي مر بمراحل مختلفة من التحريف على مر العصور.. فاذا كان النص الذي حقق بالعامية المصرية تحريفاً، فان النص الشائع ايضاً تحريف لنص سابق وهكذا.
تحقيق تراث الحجاز
شاركت مع مجموعة من الباحثين في قراءة التاريخ السياسي والجغرافي للاماكن المقدسة في الحجاز.. فما الدافع وراء تلك المشاركة؟
كان هذا المشروع الضخم لإنجاز وتحقيق مجموعة كبيرة من المخطوطات التي الفت حول الاماكن المقدسة وتاريخها.
وبالفعل شاركت في تحقيق «تاريخ مكة» للازرقي. و«شفاء الغرام بأخبار بلد الله الحرام» للفاسي. وحققت بمفردي كتاب «الاعلام بأعلام بيت الله الحرام» للنهرواني.
وكانت سعادتي بالغة ان اؤصل ضمن زملائي لقداسة هذ المكان الذي يؤمه ملايين المسلمين..
ومثل هذه المشاريع تجعلنا نكتشف تميزنا وخصوصيتنا كثقافة لها طابعها المهم والمتفرد.
|
|
|
|
|