| الثقافية
الكاتب هو «رفيق شامي»
والمدينة هي «معلولا»
الكاتب والمدينة سوريا اللحم، والطابع. لكن «رفيق شامي» هاجر بعيداً عن وطنه منذ سنوات طويلة، وعاش في ألمانيا، وتعلم لغتها، واقترن بامرأة من هناك، وحمل الجنسية الألمانية، ومع ذلك فهو يردد «أنا ابن معلولا».
والمدينة هذه سورية، تقع قرب مدينة دمشق، ولد بها الكاتب في عام 1946م، وأحب عالمها الشامي الفريد، وفي دروبها قضى الطفولة البسيطة، دون أي مشاكل كبرى تذكر، هي طفولة عادية قد لا تجعل المرء يتذكر المعاناة التقليدية التي تتمركز في كتابات الكثير من الكتاب في رواياتهم.
وأهم ما يميز الطفولة ، والصبا المبكر، أن رفيق شامي كان شديد الشغف بالقراءة: لماذا لا نطالع كل شيء، طالما أن العالم متسع بالمعرفة؟ وبالفعل فإن الشاب لم يدرس الأدب لأنه لم يكن يحتاج ذلك بل تخصص في دراسة الكيمياء ، وتخرج في كلية العلوم جامعة دمشق وذلك عام 1968م، وبعد حصوله على الماجستير قرر السفر إلى المانيا الشرقية للحصول على الدكتوراه في نفس التخصص لكنه لم ينس شغفه الشديد بالقراءة خاصة في الأدب.
وقرر الإقامة في المانيا، ولم يستطع مقاومة نفسه في الوفاء للكيمياء، ودخل عالم الأدب بكل قوة ففي عام 1980م أسس رفيق شامي جماعة أدبية حمل اسم «ريح الجنوب»، وبدأت رحلته مع الأدب تزداد عمقاً وتواصلا ورحلته مع الكيمياء تتقلص ونشر مجموعة من الكتب تتضمن الروايات والقصص القصيرة مكتوبة باللغة الألمانية من بينها:
«أساطير أخرى»، عام 1982م، «الحمل يرتدي فروة الذئب»، عام 1983م، «حفنة من النجوم»، عام 1987م، «حكايات من معلولا»، عام 1988م، و«صندوق العجائب» عام 1990م «الشجرة الطائرة»، عام 1991م، ثم «الكاذب الصادق»، عام 1992م.
ويعتبر رفيق شامي من أبرز الأدباء العرب الذين يكتبون باللغة الألمانية، وهو كاتب موهوب، وقد نشرت أعماله باللغة الألمانية في ألمانيا، سويسرا، والنمسا كما ترجمت كتبه إلى اللغة الهولندية، وإلى اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة. ونال العديد من الجوائز الأدبية في المانيا، لكن الغريب أن أيا من هذه الأعمال لم يترجم إلى اللغة العربية، رغم أن الكثير من هذه الروايات تدور أحداثها في مدينة معلولا السورية.
فرغم أن الكاتب يعيش في المانيا منذ بداية السبعينات، فإنه لا يمكن أن ينسى ربع قرن عاشها في المدينة. وهي المدينة التي توقف عن زيارتها أو النزول إليها رغم إنها مسكن الأهل، فهناك يعيش الخلان، وتكمن الذكريات الجميلة خلف البيوت ووراء البنايات، وفي النواصي وعند المقاهي، التي لا تزال تبث نفس العبق والروائح.
وأهمية الحديث عن مدينة «معلولا»، أنها جزء من الشام وأن قارئ الأدب العالمي قد يسمع عن مدينة دمشق، لكن بفضل كاتب مهاجر من طراز «رفيق شامي»، صارت مدينة أدبية عالمية، حيث يكتب عنها قائلاً في كتابه : مدينة معلولا: استفدت من مدينتي الصغيرة الأرامية «معلولا» التي لم تزل تتكلم لغة السيد المسيح. ومن مدينة دمشق العريقة التي كان عمرها ألف عام عندما تأسست المدينة العريقة.
إنه يقصد بالطبع أن دمشق كانت موجودة في التاريخ، حتى قبل تأسيسها بعشرة قرون. كما أنه يربط بين «معلولا» وبين العاصمة دمشق. فهناك طرق معبدة تربط بينهما، وسكان «معلولا»، يشعرون أنهم نائمون في أحضان جبال الشام، حيث تبدوان وكأنهما الأم ووليدتها كل منهما قريبة من الأخرى يربطهما الحبل السري وهو يقول في رواياته:
«في المهجر تتحول مدن الطفولة إلى مدن للأحلام وينابيع الشوق، ويتحول غبارها إلى لآلئ وتفيض أزقتها المظلمة بأنهار من الأضواء الذهبية.
وهل هناك كاتب تغزل في مدينته، التي لم يعد يعيش في دروبها مثلما فعل رفيق شامي، الذي يفخر أن اسمه «شامي»، مرتبط جغرافيا باسم المنطقة التي تربى فيها ودمشق التي تخرج من جامعتها؟
الاجابة تكمن في المقام الأول في الغربة التي فجرت ينابيع الابداع عند الكاتب فأراد أن يعبر عن حنينه الجارف للمدينة. فجعلها نبع الذهب، ذهب الذكريات، وذهب المشاعر الفياضة. ليس ذهب البريق المعدني من الخارج، ولكن الشيء الغالي القيمة الذي يزداد اصالة كلما عايشناه.
لقد فجر فيه الحنين الكاتب الموهوب، وهو في الأساس كيميائي يفهم الحياة من خلال معادلات، وتفاعلات بين العناصر مؤكدة. لقد حول حنين شامي تجاه المدينة الصغيرة إلى يوتوبيا كبيرة، فما عرفه في مدينته تفتقر إلى المدن الكبرى، سواء في سوريا أو المانيا أو الدول التي زارها. فقد تكون «معلولا»، في الواقع مدينة أقل لمعانا، وبريقا لكنها صارت تبرق في أعماق ابنها الذي رحل عنها. وصارت مسكناً أبدياً للأحلام، والأطفال الأكثر براءة.
وهذه نقطة بارزة في كتابات الحنين، انها كتابات يجتر فيها الكاتب طفولته، وماضيه البعيدين اين الخروج إلى العالم لأول مرة، والاحتكاك بالعالم. والتطلع نحو الجبل الذي خرجت المدينة من ابطه.
هو ثالوث بالنسبة للكاتب، يتمثل في وجوده على قيد الحياة، قادر على التذكر وفي وجود المكان، والقدرة في الكتابة عنه، لذا تحولت المدينة الصغيرة معلولا إلى مسوح ونقاء وسمو قد لا تكون بنفس السمات في الواقع لكن كل براءات الدنيا تتوحد معاً. بالمدينة باعتبارها بكراً، فهي لم تصب بأمراض التلوث التي نعرفها عن المدن الكبرى، ولم يكن الحنين هنا مرتبطا بطوبوية فكما أشرنا فإن الحياة، في «معلولا»، لم ترتبط بأحداث جسيمة وليست هناك الأم عظيمة كامنة في الأعماق. مما سهل كثيراً على الكاتب أن يحولها إلى يوتوبيا. فالناس في «معلولا»، لا يموتون، بل يعيشون أبداً، طالما أنهم موجودون في ذاكرة المؤلف، يراهم مثلما كانوا في طفولته، يلتصقون بالأماكن التي ظلوا فيها دوما، لأنها جزء منهم.
فالمدرس في المدرسة وبائع الحلوى في الشارع فوق رصيف بعينه، هذا البائع الذي كان يمنح الطفل «رفيق»، المزيد من القطع اللذيذة الطعم كلما اشترى منه.
إنهم أشخاص خالدون موجودون دوما ملتصقون بالجدران، والذاكرة، ويزدادون لمعاناً، وبريقا كلما توغلت الغربة في أعماق المؤلف. وليس الأشخاص هم من يمتثلون وحدهم في الذاكرة الخالدة، بل إن للأماكن نفس القدسية، مثل فناء المدرسة، الذي كان مزدحماً بالأصوات، وزقزقة الصغار، وتحية علم الصباح، والأناشيد الوطنية عن الوحدة بين مصر وسوريا.
ليست هناك صور محددة الأشخاص في هذا النوع من استجلاب ماضي «معلولا» ولكنها أيضا الأصوات الخارجة من الأعماق تتوحد معا، لتصنع خليطا خاصاً بالكاتب وماضيه، ما أجمل صياح التلاميذ في الفناء، والفصول، فهو أشبه بزقزقة الفراخ الصغيرة، لكن ترى من يشبه الآخر صراخات التلاميذ أم زقزقات الفراخ الصغيرة؟
ويكتب الروائي السوري رفيق شامي، المقيم في ألمانيا: ان المرء كلما مرت به السنون، يحس أكثر بالمدينة التي تربى فيها وقضى سنوات طفولته، وتبرز الشخصيات التي كدنا أن ننساها. فمن الصعب الآن أن نمسك بالذكريات، لقد تلاشت منذ فترة طويلة خاصة أن الكاتب كان قد قلل مثلما أشرنا من عودته إلى معلولا قبل تأليف روايته حكايات من معلولا.
قرر أن يعود إليها فقط فوق صفحات روايته كي يقرأ الناس في اللغات التي يكتب بها وتترجم إليها أعماله أجمل الحكايات التي دارت في معلولا، ذات يوم.
وأهمية الحديث عن هذا الكاتب أن الأدباء العرب الذين يكتبون باللغة العربية، قليلو العدد، وذلك بالمقارنة بالمبدعين الذين يكتبون بلغات أخرى منها الفرنسية، والإنجليزية، ولعل وجود العديد من الكتاب، والسينمائيين الأتراك، والايرانيين الذين يبدعون مباشرة باللغة الألمانية قد شكل ظاهرة خاصة لدى «رفيق شامي»، فنشر كتابه عن مدينته.
ولا شك أننا أمام كاتب موهوب في المقام الأول لكن من الواضح أن مسألة الهجرة والبعد عن مسقط الرأس، قد أجج الشعور بوهج الكتابة. وساعد على ان نرى كتابة أخرى باللغة الألمانية، وهو مكسب كبير، لأن «رفيق شامي»، لو كان قد عاد إلى وطنه ما ترك مثل هذا النص الذي كتب النقاد عنه أنه شديد الثراء، ليس بالطبع في لغته الألمانية لكن في حسه العربي تجاه المدينة.
والجدير بالذكر أن الكاتب لم يصبغ ذكرياته بالأحداث السياسية الساخنة التي عرفتها دمشق، ومعلولا في سنوات الجمر التي كان فيها هناك مثل التحولات السياسية والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ثم الوحدة بين مصر وسوريا، والانفصال وبالطبع عدوان يونيو 1967م.
لا يعني هنا أننا أمام كاتب غير مسيس، ولكن «رفيق الشامي»، كان يهدف، في المقام الأول أن يكتب عن اليوتوبيا التي تسكن داخله، لا شك أن الذكريات المرتبطة بالطفولة والمدن الصغيرة والروابط الأسرية المتماسكة هي عناصر تساعد بكل قوة على إعادة تشكيل الماضي ليكون أقرب إلى اليوتوبيا، وهكذا كانت مدينة معلولا السورية.
مدينة طوبوية في الأدب العالمي.
|
|
|
|
|