| الثقافية
هل وظيفة النقد هي الإضاءة أم «التضبيب»؟ وإلى أي مدى يمكن للنص أن يحتمل اسقاطات «إذا لم أقل حماقات»، الناقد ومزاجيته وتعسفه؟. أنا لست في موقع يمكنني من وضع الاجابات الشافية الكافية. على أن ما يغيظ فعلاً، هو ذاك التعارض بين سلطوية النص وسلطوية الناقد، التعارض الذي كثيراً ما جعل من النص أولى ضحاياه بل وتعداه إلى القارئ أيضاً. وما يغيظ أيضاً، ضمن الأشياء الكثيرة، هو ذلك التشابه بين الناقد، أي ناقد عربي، ومعلقي مباريات المصارعة في «التلفزيونات»، العربية فلكي يفوز «هولك هوجان» على «أندريه العملاق»، لابد في البداية أن يضرب «أندريه العملاق»، السيد «هوجان»، ضرب غرائب المصارعين، لينقلب بعد ذلك السيد «هوجان»، على «أندريه العملاق»، فيسدد كل الديون بكل ما يملك من عزم وفرح معاً.
وانطلاقاً من هذا يقوم الناقد فيدبج عبارات المديح والإطراء أولاً، ثم ينعطف بعدها إلى قاموس الهجاء والقدح والذم وما شابه، لا أقول أن على الناقد الجزم والقول بأن «.. هذا كتاب، «لو كتب بماء البصر لصار عبرة لمن اعتبر» ثم يهلل ويكبر بميلاد كاتب جديد ومبدع لا يشق له غبار أو العكس. لكن ما هو ملاحظ حقاً أن الجميع يتقيد بالمفهوم التقييمي وليس التقويمي، وبالتالي فإن النص حين يؤخذ ويمدد على طاولة النقد يتم تشريحه هو والكاتب والقارئ سوية لتختلط الأوصال وتضيع المقاييس.
قد يسأل القارئ ببراءة ملغومة .. ماذا تريد من النقد إذن يا أستاذ؟! أنا شخصياً لا أعرف في الوقت الراهن، لكني أعرف أيضا أن ما أريده لم أجده حتى الآن، ولندلف إلى الموضوع من بابه الأمامي:
يجمع الكتاب والمبدعون كلهم على أن الممارسة النقدية هي عملية ضرورية للاتزان الابداعي المقدم في كل مكان وزمان، ذلك أن النقد يعد بمثابة الدعامة الأصيلة والأساسية من دعائم الحركة الثقافية، والناقد في هذه الحال يشكل ثالثة الأثافي لبناء العمل الثقافي المتميز، بعد المبدع والمتلقي، كما يقر الجميع أيضاً أن مهمة الناقد ذي النزعة الحيادية تتجلى بفض التشابك الدائر بين سلطوية الابداع وفوضوية التلقي، وذلك من خلال نقده الأصيل والموضوعي.
ولا يختلف أحد ممن أقروا أهمية الممارسة النقدية ولا من الدارسين أو المهتمين، بأن هذه الممارسة تعاني من إشكالية صعبة جداً بل وصفها البعض بأنها تعيش فيما يشبه الانتكاسة الحقيقية إلى جانب التسطيح والبعثرة للجهود الكثيرة، والتي غالباً ما تفتقر إلى التنسيق والعمق والوضوح.
فإذا كان النقد هو مهنة «نخبوية»، أي مهنة الصفوة من الكتاب المبدعين القادرين على فهم خصائص وتجليات العملية النقدية، فإن كثيرين هم النقاد في وطننا العربي الذين يفتقرون إلى الوسائل والآليات التي تمكنهم من تكريس أنفسهم ووقتهم بشكل فعال وايجابي لهذه العملية المعقدة، والأدهى من ذلك أنهم كثيراً ما يعتقدون أن مثل هذه المهنة لا تختلف بقليل أو كثير عن مهنة التعليم أو الصحافة بل هي امتداد لها، حسب رؤية بعضهم، وبالتالي فهي لا تحتاج إلى تفرغ تام أو مساحة زمنية واسعة.
ولعل هذه النظرة بجانب غيرها من التجليات التي أفرزتها الساحة الثقافية العربية عموماً، انتجت ثلاثة أنواع من العاملين في الحقل النقدي: فضم النوع الأول نقاداً يتعاملون مع المسألة النقدية تعامل الجاهل المدعي فتجدهم يلجأون إلى خلق تبريرات نقدية خطيرة وإيهامات أخطر ويعمدون إلى نسف النصوص الفنية بحجج ما أنزل الله بها من سلطان.
فيما ضم النوع الثاني هؤلاء الذين ألبسوا أنفسهم جلباب »الشللية»، فتميزت جعبتهم بعدم احتوائها على «ما يسمن أو يغني من جوع»، سوى تصورات وخيالات «الشلة»، واتفاقها على تلميع وتمجيد فلان على حساب علان.
أما النوع الثالث من النقاد فقد درج على الاقتباس من المدارس النقدية الغربية والسير في ركبها، بل والدفاع عنها أيضاً، وقد أخذه الاستعلاء الموهوم مأخذاً لم ير من خلاله أن الحركة النقدية العربية لا تملك الأسس والقواعد التي انطلقت منها تلك المدارس الغربية، فساهم بذلك ونتيجة هذه التبعية العشوائية، في تعميق الفجوة بين المبدع والمتلقي.
والعجيب في هذا النوع من النقاد أنه لا يمل الحديث عن مدارس «البنيوية والحداثة وما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية وغيرها»، علماً أن أياً منهم أو كلهم مجتمعين، إن شئت عاجزون عن إضواء أي عمل ابداعي عربي تحت لواء أي من هذه المدارس والاتجاهات. ذلك أنها أي الاتجاهات النقدية الغربية لم ترتبط في ذهن القارئ العربي بحركات أدبية وأعمال عربية معروفة تبرر هذه التنقلات، أو القفزات النقدية، من الكلاسيكية إلى ما بعد الحداثة، وبالتالي تشكل مرتكزاً لها في الأعمال الإبداعية الأدبية.
وفي ظل كل ما أفرزته وتفرزه الساحة الأدبية، ثمة فئة من النقاد المخلصين في عملهم، والمؤمنين بأن الممارسة النقدية رسالة ذاتية نابعة من احساسهم بقيمة النص وقيمة العمل الابداعي، كعمل يخاطب الإنسان والحضارة والقيم الأصيلة التي تشيع في أي مجتمع على اعتبار أن العمل الإبداعي ليس مجرد لغة مكتوبة، أو تجسيد لشعور ما، بل هو عالم متكامل، أو قل خلاصة عالم .. خلاصة حياة بأبعادها الثلاثة، وقد جسدت بلغة، هذه اللغة «الحية»، يضيرها كثيراً التجريح ويقتلها التشريح الذي يفتقد الركائز الموضوعية التي تضفي عليها قيمة جديدة، وهذا يؤكد أن الممارسة النقدية العلمية ضرورة وأداة مهمة في دفع الحركة الأدبية إلى الأمام ووسيلة من وسائل التغيير الثقافي والجمالي في تقويمها للأعمال الابداعية، وهنا مكمن الصعوبة التي تواجه النقاد، فالثقافة الواسعة وحدها لا تكفي إن لم ترفدها بديهة نشيطة وموهبة متحفزة ودقة في كشف رموز النص ومستوياته التركيبية والفنية. وغير ذلك سيظل النقد الابداعي العربي في مأزقه الإجباري، شأنه في ذلك شأن كل مجالات الابداع الأخرى في وطننا الكبير. وهذه نتيجة أو محصلة لأسباب كثيرة تتعلق، ليس بانعدام الحوار النقدي كما يرى البعض وحسب، وإنما لها أسباب أعمق من ذلك بكثير.. أسباب تمتد إلى تربيتنا المدرسية ومناهجنا التعليمية سواء في المدرسة أو الجامعة وعلاقتنا بمقررات هذه المناهج وبمناهج البحث العلمي والباحث نفسه، إلى جانب غياب التشجيع وآليات البحث الصحيحة، وغير ذلك من أسباب قد تجعل من موضوعنا هذا موضوعاً آخر قائماً بذاته.
إسماعيل الحسين
|
|
|
|
|