| الثقافية
فيما يلي تنشر الجزيرة نص المحاضرة التي ألقاها مساء أمس الدكتور حسن الهويمل بمناسبة تكريم صاحب السمو الملكي الأمير عبداللّه الفيصل من قبل الشيخة سعاد الصباح
«1»
1/1 عندما دخلت قاعة «العقاد» في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عام 1394ه لمناقشة البحث المكمل لدرجة الماجستير «اتجاهات الشعر المعاصر في نجد» كنت أقول في نفسي: كيف يتأتى للمناقشين الوقوف على وجوه النقص في دراسة لا تقع ضمن اهتماماتهم، وكنت مستعدا للدفاع عن الخطة والمنهج، إذ هما مظنة النقاش، ولكن المفاجأة الأكثر إرباكاً: أن يكون المناقشان على معرفة عميقة بالقضايا الفنية والدلالية لدى الشعراء المعاصرين في نجد، اعتمادا على ما يتوقع لنجد ومنها من قيم دينية واجتماعية وأدبية. وأن يكون عندهما تصور لما يجب أن يكون عليه شعراء نجد في ظل أوضاع خاصة، تمنح الشعر سمته وخصوصيته في سياق الشعر العربي المعاصر. ومن ثم وقعت في موقف مربك.
كانت المناقشة والملك فيصل رحمه اللّه في أوج توهجه السياسي والإسلامي، وكان ابنه الأكبر الأمير عبد اللّه حاضر الذهنية العربية وبخاصة في المشهد الثقافي. طال النقاش، واحتدم الجدل حول قضايا تبين لي فيما بعد أنني لست في أكثرها محقا. وكنت قد قلت بالنص: «إذا كان الشاعر النجدي المرحوم محمد بن عثيمين ت 1363 ه زعيم المحافظين، فإن الأمير عبد اللّه الفيصل يعد بحق زعيم الإبداعيين بدون منازع»«1» وأعني بذلك التجديد والرومانسية. ولتأكيد ذلك سقت أطرافا من شعره. ولّما يصدر له آنذاك إلا ديوانه الأول «وحي الحرمان» الذي استقبله عمالقة النقد العربي من أمثال طه حسين «2» ومارون عبود«3» بالدراسة والنقد، ولم أكن يومها مسددا في انتقاء الشواهد التي تعزز ما ذهبت اليه من دعوى الزعامة، على الرغم من وجودها.
وكنت قد سقت لغيره شعرا كثيرا، وبخاصة الشاعر حمد الحجي «4» رحمه اللّه فوقف المناقشان على ما سقت لهما، واستعملا منهج الموازنة وتوصلا إلى أن الشواهد التي اخترتها للشاعر الأمير ليست من عيون شعره، بحيث فاقتها شواهد لداته، ومن ثم فلن يكون الأمير بهذه الشواهد زعيما «بدون منازع» ، وفي سبيل شرعنة الرؤية عولت على ما قاله الدارسون من قبلي، وهم شهود عدول، فهل من اثارة أقوى مما قاله طه حسين ومارون عبود؟ ولما لم أكن موفقا في اختيار الشواهد لفتا نظري إلى إبداعات متألقة للشاعر الأمير، كنت قد عدلت عنها، لأنها قصائد مغنّاة، وانفض سامر المناقشة، وطبع البحث على ما هو عليه، ولقيت من النقد ما لا يُحتمل، ورضيت أن تظل هذه الرسالة الطلابية المتواضعة كما هي محتفظة بتسجيل مرحلة تاريخية من حياتي التي تركتها خلفي لمن أراد أن يجرب أدواته النقدية، وما زلت أعود إلى الشاعر وشعره، حين أدخل قاعة الدرس، أو حين أعلو منصة المحاضرة، أو حين أكتب بحثا، أو أنشئ مؤلفا، أو أناقش رسالة، أو أحكم في بحث عن الأدب العربي في المملكة، واتسع الحديث عنه في رسالة الدكتوراه «النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر»، وها أنذا أعيد قراءته من جديد، بعد أن صدرت دراسات أكاديمية وتطوعية عن شعره «5» ، كشفت عن أبعاد فنية ولغوية ودلالية، وهيأت للدارسين فضاءات معرفية. وفي غمرة الدراسات عنّ لي أن أرصد المسافة الفنية والدلالية واللغوية: بناء وشكلاً بين ديوانه الأول «وحي الحرمان» وديوانه الثاني «حديث قلب» وما بينهما من اقتراب وافتراق، وما مستواهما في السياق الشعري محليا وعربياً، محاولا اكتشاف ما إذا كانت المسافة الدلالية والفنية بينهما بقدر المدى الزماني، أو أن هناك متغيرات وتحولات سبقت الزمن أو تخلفت عنه، بحيث أصبحت الفجوة بعيدة الغور أو قصيرة المدى.
***
1/2 لقد ترك لنا الشاعر الأمير عملين، أكاد أشك أن يكونا كل إبداعاته، والشعراء الذين يمتد بهم العمر، وتتغير عندهم الرؤى والمواقف والتصورات، ليس من المستبعد أن تمتد أيديهم الجائرة فتئد الكثير من الشعر الذي أبدعوه في ريعان شبابهم، مما كان أصدق قيلا في تصوير حياتهم المفعمة بالحيوية وبشيء من اللمم واللّهو البريء. فعل هذا من قبله محمد بن عبد اللّه بن عثيمين ، وفعله من قبلهم جميعا أحمد شوقي، حين أخرج الشوقيات، مما حفز البعض للتنقيب في الدوريات والصحف وتعقب ما هو مفرق في الرسائل الإخوانية، فكان أن جمعت «الشوقيات المجهولة» في مجلدين، لتكون أكثر قولاً وأصدق قيلا وأمتع شعرا من الشوقيات المعروفة. والراصدون لأعمال العمالقة يقفون على موؤدات إبداعية من هذا القبيل، ومن الشعراء الذين تخلصوا من بعض شعر الصبا أبو الطيب المتنبي، إذ وقف على جمع شعره، وندب بعض اللغويين لشرحه.
والشاعر الأمير «عبد اللّه الفيصل بن عبد العزيز 1341ه ..» لم يخرج للناس من شعره الفصيح إلا عملين هما: «وحي الحرمان» صدرعام 1373ه و«حديث قلب» صدر عام 1413ه . وأكاد أجزم بأن الموؤد من شعره يفوق ما أخرجه اليهم. والمسافة الفنية والدلالية واللغوية بينهما تجسد المتغير الذاتي والاجتماعي والتطور الفني والدلالي. فالنص وثيقة تنطوي على سمة العصر وطبيعة الرؤية الذاتية والجمعية، والشاعر في النهاية محصلة ظروف خاصة وعامة، وهو صدى لمؤثرات تكاد تختبئ وراء الكليمات كالبيئة المكانية والزمانية والموقف والموهبة والذكاء والثقافة، ونحن لن نقترف مشقة الحفريات المعرفية لتصور حياة الشاعر واستخلاصها من شعره، فتلك مجازفة نقدية خطيرة وممتعة، وإذ لا نريد أن نفعل مثل ذلك بالقدر الذي يفعله البعض، فإننا في الوقت ذاته لا نريد أن نضرب صفحا عن هذه الرغبة، وعملية التنقيب عن حياة الشاعر في شعره قائمة ومقبولة عند كثير من الدارسين والنقاد، فعل ذلك غير واحد، على أن الشاعر الفذ لحظة المخاض الشعري إنسان آخر مفصول عن ذاته، فهو لا يصنع ولا يتصنع ومن هذه الحالات الاستثنائية طرحت أسطورة «شياطين الشعراء» والمؤكد تنزلها على الأفاك الأثيم وليس الشعراء كلهم كذلك، والرؤية الشعرية قد لا تصطلح مع الرؤية الذاتية خارج الفعل الإبداعي، ولو أننا أخذنا برؤية «النقد النفسي» لكنَّا بإزاء تناقض صارخ بين الوثيقة والسيرة، وهذا «الفرزدق» الشاعر الشهواني الذي لا يحسن العزل، وهذا البحتري الأنيق الشعر الخشن السيرة والمظهر ، وهذا الأصفهاني صاحب الأغاني الذي يتخطفه الكبراء لتفوقه في المنادمة، وتجليه في الرواية، مع أنه يوصف بأقذع الأوصاف في مظهره وطريقة أكله، وهذا العتاهي الشحيح المتزهد في شعره، وهذا ابن أبي ربيعة الغزل الذي أقسم أنه لم يحل إزاره على معصية. ولا أحسبنا منصفين حين نختصر سيرة الشاعر الأمير في ديوانيه ونمارس التماس حياته من شعره على شاكلة فعل «العقاد» و«عزالدين إسماعيل» وسائر النقاد النفسانيين مع طائفة من الشعراء. والعقاد الشاعر والناقد والمفكر لم يستطع المؤاخاة بين حياة ابن الرومي وأبي نواس وما تركاه من وثائق شعرية، وإن تصور ذلك ، وسعى إلى تقريره في ظل تعالقه المستميت مع «المذهب النفسي» في الأدب، حتى لقد سخر طه حسين من إصراره على التقاط حياة الشاعرين من شعرهما، وكذلك يغامر المتعالقون من النقاد مع علم الاجتماع.
ونحن إذ لا نسلم للمختلفين معا، فإننا لا نتصور القضايا الفنية بهذه الصرامة والدقة بحيث لا ينم الشعر عن أخلاق صاحبه، أو يصور وضع المجتمع.
ف العقاد: على أشياء من التوفيق.
و وطه حسين: على شيء من الصواب.
ولو أخذنا عبد اللّه الفيصل وشعره على ضوء إحدى الرؤيتين لبخسناه أشياءه، فرجل تسنم أخطر المسؤوليات وأهم المناصب، وتفوق في المضاربات التجارية لا يمكن اختصاره في شعره، وشاعر رقيق الحواشي صادق التعبير واضح التجربة لا يمكن أن نقطع صلته بشعره ونصفه بالتعمل وقول ما لم يفعل، وبين هذا وذاك تقوم الخيارات الصعبة، ومع هذا فالشاعر لا يمكن أن يقع في سلة الناقد بحيث يكون كما يتصوره، ولكن الناقد يكشف ذاته من خلال النص، وكم من نص إبداعي حمال أوجه تحول إلى مصيدة. وتظل الإشكالية ذات فضاءات لمزيد من الطرح، وحين نقترب من الشاعر ببعض هذه الآليات وتلك المناهج بوصفه موضوعاً تُغيَّب معه الذات لتقوم الممارسة الإبداعية مقامه، ثم نستدعي تلك الوثائق لتجيب على بعض التساؤلات، نجد أننا نتحرك في منطقة حساسة، لم يسلّم بها البعض، ولم يستغنوا عنها. والبراعة في حفظ التوازن. وعبد اللّه الفيصل الذي استهل حياته مضطلعا بأخطر المسؤوليات لا يمكن أن نختصر حياته في إبداعه، كما لا يمكن أن نلغي وثوقية الوثائق، والموضعة للذات من خلال إفضاءاتها الإبداعية تتطلب البحث عن مكونات النص وظروف الأداء، لتصل إلى النص بمجموعة من المفاتيح، ويقوم تساؤل ملح وحساس عن مدى تلاحم الذات سلوكيا مع الأداء إبداعيا، وبخاصة حين نستشعر الطائفتين من الشعراء، كما وصفهم القرآن الكريم، ثم نضع إلى جانبهم طائفة ثالثة، وسّعت على نفسها وأعجبها اللّهو المباح، كما الأنصار الذين قال عنهم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم «يعجبهم اللّهو» وهو لهو بريء مباح لا يعف عنه إلا المتورعون الذين ضاقوا ذرعا بالمطلع الغزلي ل «بانت سعاد» حتى قالوا بانتحاله.
***
1/3 والشاعر الأمير الذي ضرب بسهم وافر في مطارح اللّهو البريء، اقترف الفعل الشعري قبل خمسين سنة، وأصدر ديوانه الأول قبل ثمان وأربعين سنة، وسمى نفسه «محروماً»، وجعل شعره من وحي الحرمان، وهنا يقف الناقد أمام دعوى عريضة، فأي حرمان ذلك الذي فجر موهبة شاب أمير، تقلد أخطر المناصب وأهمها، وعاش عيشة الملوك؟. وصيغة «محروم» اسم مفعول، فمن الذي حرم الشاعر؟ وهل الإبداع الشعري وليد الحرمان المعنوي أو الحسي؟. والشاعر حين وصف نفسه بالمحروم، وصف الحرمان بأنه «لذيذ» كما يقول في إهدائه.
فكيف يلذ الحرمان؟ إنه حرمان من نوع آخر، قد يكون فلسفياًَ ولكن النص الشعري ليس فيه شيء من الفلسفة، بل ولا شيء من التأمل الفلسفي العميق الذي شاع عند الديوانيين والأبلليين والمهجرين وسائر شعراء الشام والعراق المعاصرين الذين تعالق معهم الشاعر. وإذ لا يكون الحرمان معرفيا فقد يكون الحرمان اجتماعيا، فالأمير قد يفرض عليه وضعه الاجتماعي سيرة تتناسب وأبهة الإمارة وهيبة السلطان، ومن ثم يحرم من أشياء يتمتع بها غيره من البسطاء. «الحرمان» في عالم الفيصل إشكالية، أو قل «شفرة» سوف نجتهد في فك مغاليقها، وليس من المهم أن نتفق مع الشاعر أو مع غيره في تصور الحرمان. المهم أن تكون فضاءات النصوص حمالة لدلالات تتناسل بعدد القراء، والشاعر ليس مسؤولا عن تأويلات النقاد، متى اتسعت فضاءات النص، وتعددت دلالاته. الناقد اللبناني الساخر «مارون عبود» أفاض بالحديث عن «الحرمان» ودواعيه حين كتب دراسة مطولة عن ديوان الشاعر الأول، والشاعر الناقد «صلاح لبكي» أدلى بدلوه حين قدم الشاعر إلى قرائه، وآخرون غير هذين كانت لهم تساؤلاتهم الملحة، ولكن المعنى سيظل في بطن الشاعر.
لقد وقف كثير من النقاد والدارسين حول كلمة «الحرمان» وتساءلوا عن طبيعته، وحال بينهم وبين ما يودون الوصول اليه ما كان عليه الشاعر من سعة في الجاه وبسطة في المال وقوة في السلطان، ولو أنهم قربوا النجعة، ونظروا إلى الأمير من خلال بشرية الشاعر ورهافة حسه، بوصفه إنسانا يألم كما يألمون، لقضي الأمر، ولكنهم كلما نظروا إلى زينته وسلطانه بهرتهم أضواء الجاه والسلطان من حوله، فأعشتهم عما تحت أقدامهم، ولا أحسبهم بهذا الشعور سيتفقون على شيء، ومن الخير للفن ألا يتفقوا. إن الوصول إلى قعر الدلالة يعني نضوب النص.
والنص الأكثر ثراء هو النص المراوغ الممعن في الانغلاق والتفلت من إسار الدلالة المتفق عليها، النص الذي يجد فيه كل قارئ استجابة لهمه وتصوره . وما خلد الشعراء إلا بالانفتاح النصي والاحتمال الدلالي، ومن نعم اللّه على الأمير أن كانت إمارته مساعدة على مراوغة النص.
«صلاح لبكي» قال رأيه في أمر الحرمان، ولكنه لم ينه التساؤل، فالشاعر «لا يعرف ما وراء معاملة الناس له. هل يكرمونه لنفسه لأنه إنسان يستحق عن جدارة أو لأنه يتمتع بالمركز الخطير» «6» تلك رؤية لها مشروعية القول، ولكنها لا تحسم الإشكالية، ولا تفك «الشفرة».سيظل «الحرمان» قضية، والشعر وحده الذي يكشف طبيعة الحرمان.
لقد أحس الخليفة العالم المفكر «المأمون» بشيء من هذا الحرمان، فالناس يجاملونه، والندماء يبدون عنده متخشبين لا يتحدثون حتى يريد، ولا يتحدثون إلا بما يريد، لقد ضاق ذرعا بغياب العفوية في التعامل وحضور الهيبة، ولهذا تحايل عليهم، بحيث اختفى عن مجسلهم وفتح «كوة» يسمع منها ما يقولونه في غيابه، وكان يقول «أمتع شيء عندي ما أسمعه من تلك الكوة»، ثم إن دعوى «الحرمان» تستدعي مقولة تراثية «الشعر نكد لا يقوى إلا في الشر» . فمعاناة الحرمان شر على صاحبها، لما تتركه من ألم، وهي حين تكون نكدا، تكون خيرا للمشهد الأدبي وللمتلقي، لأن الشاعر إزاء المواقف الضاغطة يعطي أكثر وأعمق وأجود. فالحرمان الذي ينجز لنا هذا الشعر حرمان إيجابي بالنسبة لنا، ونكد وشر بالنسبة للشاعر. وذلك التفسير الحقيقي لتلك المقولة التراثية التي اختلفت حولها الآراء. والنابغة حين رهب قال عيون الشعر، والمتنبي حين نفاه حساده من بلاد سيف الدولة قال أروع الشعر، والشعراء الذين رثوا أنفسهم كانوا عمالقة في رثائهم. ومن ثم فنحن سعداء في هذا الحرمان الذي اجتاح الشاعر الأمير، لقد ترك لنا شعرا ممتعا يشدو به المغنون، ويتشفى به المهمومون، ويطيل الحديث عنه النقاد والدارسون.
وكم أتمنى ألا ننهي الحديث عن نوع الحرمان وباعثه وألا نتفق على شيء من ذلك، واستنطاق النص يتيح لنا العيش في ظلال الدلالة ولكنه لا يغمسنا فيها، والشاعر حين ينفلت من إسار التوصيل المباشر يتمكن من أسر المتلقي، وذلك ما فعله الشاعر حين وصف نفسه بالحرمان، ولما يحدد نوعه وبواعثه بلغة مباشرة ناجزة.
«2»
2/1 وشعر الفيصل في ديوانه الأول وصف بأنه «هتاف القلب» هكذا قال «صلاح لبكي» في مقدمة الديوان. ويأتي الديوان الثاني «حديث القلب» . فهلا تكون هناك مسافة وهمية نفترضها كما خطوط الجغرافيين والسياسيين بين العملين برغم عشرات السنين التي تفصل بينهما؟ تلك إشكالية أخرى، ينشئها البحث عن الوشائج الدلالية والفنية التي تربط «هتاف قلب» ب «حديث قلب» وهي وشائج قائمة، ومن اليسير استبانتها. والسؤال الأكثر إلحاحا، هل من علاقة بين التسميات والمسميات، أم أن المسألة اعتباطية؟ مثلما جاء ترتيب القصائد في الديوانين، ومثلما جاءت تسمية بعض القصائد، إذ لم تراع في الترتيب ظواهر الشكل، ولا تجانس الموضوعات، ولا التراتب الزمني. وحين نفترض وعيا في التسميات والترتيب أو في أحدهما، نجد أنفسنا أمام روابط خفية تشد العمل بعنوانه والعملين ببعضهما. والخيط السري يشكل تحديا للقارئ الذي يتجاوز الظواهر إلى البواطن، والنص الذي يتولد عن موهبة وثقافة وموقف يتوفر على تجانس شعري ولغة شاعرة توفر النبض والماء كما يقول الجاحظ، وكل هذا لا يتجسد بالشكل النوعي ولا بالبناء اللغوي، إنه نبض خارج الشكل والبناء، ومن ثم فالشعر كالسعادة والحب، يتصورهما الإنسان ، ولا يحققهما بالقول. الشعر امتلاك وسيطرة وتأثير، ولهذا قيل عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأنه شاعر وساحر، لأنه بمعجزته القولية قلب الموازين، وأفشل التحصينات «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه».
الشعر نفاذ روحي يتفلت من حسيته ليكون شيئا آخر، وإن تجسد في القول شكلا وبناء. كما الروح يحملها الجسد ولا يكونها ولا تتراءى من خلاله ولكنه تكون بأعراضها. والشعراء التجاوزيون الخالدون هم الذين يبدعون الشعر ثم يختلف الناس حولهم.
المتنبي حين امتلأ ثقة بشاعريته نام ملء جفونه. هناك نوم الواثق وسهر المتخوف واشتغال المختلفين، وبين هذا وذاك يكون الشعر الحقيقي. وأنا هنا لن أكون شاهد إثبات لتألق الشاعر الأمير، وإنما سأكون باحثا عن سر هذا الحرمان الذي فجر الموهبة وأنتج الشعر، وعن «هتاف القلب» و«حديث القلب» . وعن الخيوط الخفية التي تشكل اللحمة والسدي لهذا العمل الشعري. و«القلب» هو ذلك المفتاح، لقد تكرر في ديوانه الأول قرابة الستين مرة، فيم لم يرد لفظ «العقل» إلا مرة واحدة، وورد «الضمير» و«الفؤاد» قليلا، و«القلب» في لغة الحب غير العقل، وكذلك الفؤاد والضمير. إن هناك علاقة وثيقة بين الشاعر وقلبه من جهة والمعاناة التي اجتاحته في ريعان شبابه من جهة أخرى، إن شيئا ما ينطوي عليه الديوان «وحي الحرمان» ولا أحسبنا قادرين على تقصي المنطويات، ولكننا واثقون من الاقتراب منها وسماع حسيسها، ولا شك أن هناك بقايا بانتظار من سيأتي بعد، والقلب حين يتكرر بهذا القدر يكون وراء ذلك التكرار سر مثير، وهذا التكرار ينطوي على هاجس وخصوصية: هاجس شعوري وخصوصية لغوية. فالشاعر حين تتسم لغته بخصوصية في تكوينات الكلمة والجملة والعبارة والأسلوب، ثم يأتي كل ذلك على شكل شعري مغاير للسائد، يكون الشعر كله ذا خصوصية وتميز، ويتيح أكثر من مرجعية للتفكيك والوصول إلى أدق التفاصيل، ولغة الشعر حين تتوفر على خصوصيات بنائية يكون الشاعر على قدر من التألق. وعبد اللّه الفيصل لم يكن شاعراً غنائياً بالصدفة ولا بالتعمل، ولم تطاوعه اللغة وتمده بالكلمة المغناة إلا لإحساس ذاتي غير مفتعل، والبحور الشعرية الخفيفة الصافية والقافية السلسة الموقعة، كل ذلك لم يكن عن رغبة متعمدة، وإنما كان عن استعداد فطري، فالفرزدق عاشق لا يحسن الغزل، وجرير غزل لم يجرب العشق، أما عبد اللّه الفيصل فعاشق يحسن الغزل، ولهذا رقت حواشيه وعذب إيقاعه وحل القلب محل العقل. والقلب الذي يجيش بالمشاعر والعواطف غير العقل الذي يرتبط بالتأمل والتفكير. لكل هذا أعطت كلمة القلب مؤشرا على طبيعة الشعر.
وإذا أمسكنا بخيط اللغة في الديوان الأول وجدنا سمات لغوية خالصة وسمات جاءت عن طريق اللغة، هذه السمات مؤشرات لما نود الوصول اليه. فالديوان الأول فيه احتدام مشاعر، يقصر فيه النفس الشعري، ويسرع فيه الإيقاع، ليتناغم مع خفقان القلب، ولهذا أصبح شعره غنائيا، يشدو به المنشدون، ويردده المغنون، فالصفاء الموسيقي ونكهة التوشيح وقصر الجمل وقرب المخارج آخت بينه وبين اللحن الموسيقي، فكان عشق المغنين، والشعر عنده عطاء الشباب والربيع والوصال وخوف البعاد. إنه الإشفاق : «الشعر يوحيه الربيع».
وكيف يتأتى له: «... ويد الخريف ... تُذْوي أزاهير الربيع».
وهو حين ينسل من هذه الأجواء، يكون كما هو في رقته وعذوبته وشفافيته، لغة سمحة طيعة سهلة ممتنعة، والقلب ذلك الشفرة الذي في جوفه كل المعاني.
«قلب كئيب». و«أهواء مجمعة»، «لا ينس الحبيب»، و«اللحن ينساب من القلب للقلب» و«الألم يعصف بالقلب» و«القلب وتر يصدح» و«القلب متحطم» «أخرس مأسور محكوم» و«القلب سوى الحبيب لا يرضى به بديلاً» و«هو يسمو بالزهد يسعد ويشقى يشكو ويسلو» «ولا يطيق»، «يهتف، ويمتلئ، ويألف، ويحزن، ويهتاج، ويبتسم، ويجيش، ويعاتب، ويهنأ، ويسكر، ويغرق في النواح» وعلى مدى خمسين مرة أو تزيد يكون للقب شأن مع الحبيب. ولما لم يكن نسق الحياة واحدا، فإن أحوال القلب ليست واحدة، ومن ثم جاء على أوضاع متعددة، والقلب هو ذلك الشاهد العدل للتقلبات والأحوال والظروف التي تعصف بالشاعر، وتجسد معاناته وتجاربه التي كرست مفهوم «الحرمان» وهو لا يريد لأي جزء من جسمه أن يستبد في تجسيد معاناته، وحين يجليها قلبه تكون العذابات أنكى.
***
2/2 والتقصي الدلالي واللغوي والفني والشكلي والإيقاعي يجلي في عمله الشعري وحدة فنية آسرة، فالشاعر يعيش حالة نفسية واحدة وشعورا متجانسا لا يكاد شيء من ذلك يفارقه في كل كلمة، وكم نحن بحاجة إلى استجلاء ذلك الأثر الفني العميق، ما سره؟ وما قيمته في الأداء الشعري؟. لقد تجلت الوحدة الموضوعية في القصيدة الواحدة عند قلة من الشعراء العموديين رشدت عمودية القصيدة، وقل أن نجد الوحدة الموضوعية في الديوان كله، هذه الوحدة نراها مثلا عند ابن أبي ربيعة، ونراها عند سائر العذريين وعمالقة الحب الصوفي، والشاعر عبد اللّه الفيصل لا نستطيع أن نستله كالشعرة من عجينة أولئك، كما لا نستطيع أن نسلكه فيهم دونما استثناء. إن مناجاته لمحبوبته وخصامه معها وثورته عليها تبدي لك العذرية المتصوفة، نرى بعض ذلك عنده في ديوانه الأول، ونرى أمشاجا منه في ديوانه الثاني. والشاعر حين يأسره الحب فلا يفرغ إلا له ولا يناجي إلا من خلاله، يتوحد موضوعه، وتتجانس لغته، وتتشابه صوره، ويتشاكل إيقاعه، ثم تحاز له الوحدة بكل حذافيرها. وأذكر أن الناقد العنيف زكي مبارك أفاض بالحديث عن «الوحدة الفنية» التي يعدها جماع الوحدات: العضوية والموضوعية واللغوية والنفسية والموسيقية، وحين تتجلى تلك الوحدة يكون عالم الشاعر عالما متميزا، يعرفه القراء بسيماه، والشاعر الصادق مع نفسه من يقدم ذاته إلى قرائه فيعرفونها بأسلوبه، وهل أحد ينكر أسلوب الرافعي أو طه حسين أو الزيات؟. وهل أحد ينكر نكهة البحتري والمتنبي وأبي العلاء؟ . ونكاد نقول جازمين: إن عبد اللّه الفيصل في أعماله الشعرية من هذه النوعية التي يعرفها الناس فلا ينكرونها، وقد قيل: «الرجل هو الأسلوب»، والأسلوب امتداد يسلكه القارئ ليصل إلى صاحبه، ومتى كان قاصدا مستقيما هدي القارئ إلى سواء السبيل، وقليل من الشعراء من يمهد الطريق إلى ذاته ودواخلها، ويكون شعره ذا سمة متميزة، والشعراء الأقدمون يفاخرون باللحمة المتميزة ويعيبون التنافر، لقد جاء عند الجاحظ على ما أذكر افتخار أحد الشعراء بإبداعه البيت وأخاه، فيم يقول غيره البيت وابن عمه. وعبد اللّه الفيصل يحقق التجانس والتلاحم والوحدة الموضوعية واللغوية والشعورية والموسيقية، وذلك ما لم يركز عليه الدارسون، وهو سمة تألق ومؤشر صدق فني.
والدراسة النصوصية بأي آلية وعلى ضوء أي منهج، تقرب من الهم والرؤية، وتحدد معالم الخصوصية: إن في اللغة أو في الدلالة، ولكنها لا تمكن منها، فالعملية الإبداعية مراوغة وخادعة، وقديما قيل: «المعنى في بطن الشاعر»، والشاعر بشوارده وأوابده التي يطاردها النقاد ثم لا يظفرون إلا بالأقل، والنص الذي لا يستسلم ولا يذعن لقارئه إلا بعد عناء ومغالبة ليس نصا إبداعياً متميزاً، والشاعر قد يكون ذا مستويين دلاليين: المعنى القريب، ومعنى المعنى، أرهص لذلك الجرجاني وجلاه «ريتشاردز» وجاء شعر الأقلين قريبا وبعيدا في آن، فالبنية الشعرية تقوم على لغة انزياحية إلماحية إيجازية مجازية مكثفة، ذات بعد جمالي بعيدة عن التقريرية والهذر والمباشرة، والشاعر الذي لا يشغل المشهد بشعره، ولا يصعد الخصومات حول شوارده، ولا تحتدم حوله المشاعر، لا يوفر اللذة، ولا يحقق الحضور السوي، وكم طوت الكتب من شعراء يمر بهم الناس مرور الكرام، لا يقفون عندهم، وإن مروا بهم لسبب ما فإهم لن يعودوا اليهم مرة ثانية، والنادر من الشعراء من يصطحبه الناس، ويوصف شعره بالسيرورة، فهو على كل لسان، يستجيب للأحداث والمواقف، وكأن قائله ينوب عن الناس في الجمجمة عما في نفوسهم، ولك أن تتذكر «عواطف جائرة»«7» التي عرفها الناس فيما بعد «بثورة الشك» ولك أن تقرأ:
أكاد أشك في نفسي لأني
أكاد أشك فيك وأنت مني
ثم لك أن تحاول أن التخلص منها ومن أثرها. إنك لن تستطيع ذلك، هذه القصيدة تحفر لنفسها في الأعماق، وتمثل أقصى حد من السيرورة.
والشاعر الذي أبدع هذا اللون من الشعر بوزن خفيف ولغة حب راقية وإيقاع داخلي مكثف وجدل عقلي مقنع، شاعر يشد الناس اليه ، ويجر أقدام النقاد إلى أفيائه ويحرضهم على نفسه.
والشعر النفّاذ إلى القلوب هو ما يكون تعبيرا عن موقف أو تجسيدا لتجربة، يتخفف بقوله الشاعر عن معاناة أمضته أو حدث أقلقه، وهو حين يكون ذاتياً أو غيريا لا يتألق إلا حين يفضي به إلى الناس موهوب مجرب عميق الرؤية بعيد الغور شمولي الثقافة، والعطاء مع هذه الحالة وبتلك المواصفات يعلق في نفوس القراء مثلما علقت انتفاضات المتنبي، وسينية البحتري، وروائع إقبال المترجمة من الأردية «شكوى .. وجواب شكوى» . ومن المقلين من خلدتهم مقطعات قليلة، ولعلنا نستذكر شعر شعراء القصيدة الواحدة ممن خلدوا بها، ولم تخلدهم دواوين كبيرة. على أن الاقتراب من عوالم الشعراء المتميزين يتطلب آليات متعددة لاكتشاف سر التميز وبواعثه، فالشاعر لا يمكن اختصاره في الشكل أو في البناء أو في الدلالة، إنه خليط غريب عجيب، تراه في مفردات التشكل الشعري، وتراه في مجموع المكون الشعري، إن هناك شفرات وأجواء وملابسات ودواعي تضافرت في تكوين النص، وبقدر التمكن من كل ذلك يكون الأداء النقدي متميزا، وعلى ضوء ذلك فإن مقاربة الشاعر مغامرة، لأن النص المتألق هو الذي لا يحتفي بالمعالم، إنه النص الملتف المغلق الغامض، وهو المنفتح والفضائي الرحب في الوقت ذاته، وقد يستأثر النص بالتألق حين يكون سمحا ذا مياسرة، ولذلك أسراره التي يعرفها صيرفيوا الشعر وحذاقه، فالغموض الفني بكل أنماطه ومجالاته ومستوياته غير التغامض المتعمد المتكلف الذي أجهض به الحداثيون أثر الكلمة الطيبة، والتجديد الموسيقي الطوعي غير النثرية المتخشبة التي أذهبت ريح الشعر، والشعر حين يخفق بأجنحة الموهبة والتجربة والثقافة يتحول إلى مضمار سباق للزز النقاد.
***
2/3 لقد قرأت شعر عبد اللّه الفيصل من خلال ديوانيه، ووجدت أن المسافة الفنية والدلالية غير المسافة الزمانية، وحاولت أن أتلمس الأسباب، هناك وحدة فنية دلالية لغوية تنتظم ديوانه الأول، حتى لكأن قصائده ذات تجربة واحدة. فيما يأتي ديوانه الثاني بوحدة فنية ودلالية ولغوية مغايرة بعض المغايرة، إذ لم تكن بحجم المسافة الزمانية، واحتفاظ الشاعر بنفسه الشعري مع تحرف دلالي غير ملفت للنظر على الرغم من المتغيرات يثير التساؤل ، فالشاعر يمضي غير بعيد منتبذا مكانا غير قصي من لغته ودلالته ثم لا يلبث أن يعود إلى ما كان عليه، هذه المبارحة وتلك العودة المتجليتان تحملان على التساؤل عن طبيعة الشاعر، أهو ذاتي يكره نفسه على الغيرة؟ أم غيري يكره نفسه على الذاتية؟.فالشاعر حين يجلي في الموقفين الغيري والذاتي ثم لا يكون بالإمكان كينونة الشاعر فيهما معا تصعب عملية التنبؤ. ثم إن المسألة ليست داخلة في الجودة أو الضعف، وإنما هي في تلك السمة الفنية التي ظلت كما هي مع شيء من التغيير. ففي أي الديوانين نجد الشاعر؟ وفي أيهما يقدم الشاعر نفسه تعبيرا صادقا عن ذاته؟.
كان في ديوانه الأول شاعر ولهٍ وشكاية وعتاب فرغ لنفسه وهمه وأحلامه، ولم يلتفت إلى الناس، بل عاش عذابات الحب، ومطال الحبيب ، وكأن مثلَه مثلُ ابن أبي ربيعة الذي شغلته عواطفه الذاتية، فيم شغلت المكاسب هموم الشعراء. قال الشاعر الأمير شعره عن نفسه، وقال الآخرون شعرهم عن الناس، فكان ذاتياً خالص الذاتية. وكانت الحبيبة والوطن مطارح إبداعاته. والذين يرونه في ديوانه الأول معابثا للمحبوبة يفجؤهم بوطنيات لا تقل عما قاله عمالقة الشعراء الوطنيين، ومع هذا يظل في ديوانه الأول شاعر حب ليس غير، ولو أنك ابتسرت قصيدتين من ديوانه الأول هما «إلى شباب بلادي» «8»، و«نداء» «9»، وأضفت اليهما «أين مني» «10» ، لقلت : إن عبد اللّه الفيصل شاعر وطني حماسي ثوري، ولكن هذا الخروج من سرب الحب والتغريد خارج
أفياء المحبوبة يسلكه في شراك محبوب آخر هو «الوطن» فهو إذاً شاعر «حب» حب الوطن، وحب السكن، وهل الوطن الا سكن؟ وهل المرأة الا سكن؟ انه يبحث عن السكن، عن الهدوء والعزة والكرامة. وهو حين يحن الى وطنه لا يتخلص من لغة الحب والشوق والتوله:
ياطير هيجت آلامي واشجاني
بما تغنيه من الحان ولهان
بي مثل ما بك من احزان مغترب
فالكل منا وحيد ما له ثاني
تشكو فراق وفي كنت تألفه
اما انا فشكاتي بعد أوطاني(11)
اذا الحب والعشق ولغة الحب والعشق لا تفارق الشاعر في تولهه لمحبوبته وفي حنينه الى وطنه. وعشق الساكن يوحي بعشق المسكون:
«وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
والشاعر في وطنياته لا يبرح قاموسه اللغوي ولا تشكيله العروضي، ومن ثم لا تحس بشيء مختلف، وان تغنى بأمجاد امته، وحن الى مراتع صباه ومسارح احلامه، انه اسير الشوق، الشوق الى الحبيب والحنين الى المحبوب، والحب العذري عند الشاعر كما هو عند «قيس بن ذريح» شكول تقصاها الشاعر، كما لو انه يسجلها من الذاكرة لكيلا تضيع.
«فمنهن حب للحبيب ورحمة»
وحب بدا بالجسم واللون ظاهر»
«وحب لدى نفسي من الروح الطف»
وابن ذريح في هذا التفصيل، يأتي على مستويات الحب العذري الذي تبدت ملامحه عند شاعرنا. كانت عند ابن ذريح مجموعة في قصيدة، وكانت عند شاعرنا منثورة في ثنايا قصائده، والشاعر الامير يتفيأ ظلال الشعراء العذريين ويتناغم معهم، وكأنه واحد منهم لا يفصله عنهم الا ذلك الزمن السحيق، وهنا يثور تساؤل مشروع عن المعين الذي يمتح الشاعر منه لغته وصوره ودلالاته، والنقد بكل ما اوتي من آليات دقيقة لا يستطيع ان يقطع في تحديد المعين: هناك مقرؤ، وهناك معاش، هناك صورة محبوبة ينقلها الشاعر من الواقع المعاش الى الكتابة المقروءة، وصورة اخرى كانت ملامحها منقولة من قبل، ومرصودة من قبل، فأي الصورتين امدت الشاعر؟ وما الصورة المتعالقة والاخرى المبادرة؟ الشاعر مع كل الاحتمالات شاعر عاش الحب ولم يصطنعه وابدع الشعر ولم يحاكه.
والشعر عنده ينبىء عن تجربة حية، وهذا لا يمنع من ان يكون الشاعر قد قرأ الشعر العذري، وتسرب شيء منه كما العبق الذي يهتك التكتم، وكما النور الذي يمزق الظلام، ولا اظنه بقادر على اصطناع برزخ لا يختلط المعاش مع المقروء، والمتفق عليه انه لا يمكن تصور نص بريء ينشئه مبدعه من درجة الصفر، فالتعالق النصي مشروع، والاشكالية في تحقيق هذا التعالق دون وقوع في المحذور، فالاشباه والنظائر حفزت «الخالديين» على تقصي وقوع الحافر على الحافر، ومن ثم فان فيوض الشعر تنطوي على المعاش والمقروء، والشاعر حين يدلي دلوه ليمتح من عمق الذاكرة يختلط الاثنان معا، ثم لا تجد مناصا من القول بالتناص، وليس التناص مأخذاً، وانما هو ظاهرة قائمة ومشروعة، «ما ترانا نقول الا معادا» و«هل غادر الشعراء من متردم» وامرؤ القيس يبكي الديار كما بكاها ابن حذام، ومن مهمات الناقد البحث عن مصادر ثقافة النص ليس بحثا عن الادانة وانما تجلية لثقافة النص وهويته. لقد فعل ذلك «الخالديان» في كتابهما المشهور «الاشباه والنظائر» وما بذلاه من جهد وتقصي كشف عن التعالق المشروع وغير المشروع، وجاء العصر الحديث بالنقاد النصوصيين فأتوا بما لم تستطعه الاوائل وهل احد منا لا يتذكر بائية ابي تمام حين يقرأ للشاعر قصيدته التي يقول فيها:
ويوم تشرين قام الحق مرتفعا
على الذرى وخصوم الحق في صبب
انك بلاشك ستذكر ابا تمام وبطله المعتصم، والروم الذين اندحروا في وقعة «عمورية» وسلطان الانموذجين: «البائية» و«السينية» غلب على كثير من الشعراء، وشاعرنا ليس بدعا من الشعراء، والتداعيات تجلب معها المحفوظ لتتبدى ملامحه في الابداع وشاعرنا لاشك انه سليل الغزل العذري والعشق الصوفي.
«3»
3/1 واذ نتفق او نكاد على ان الشاعر صور جانبا من حياته وبعض ما عاشه من معاناة، لم يتفق احد على نوعها او مصدرها ولم يختلفوا حول مصداقيتها، فانه اتى على الوان من الحب، كان الشعراء قد مروا بها وسجلوا اطرافا منها في شعرهم، ولما كان المقروء والمعاش مصدرين هامين، فان اشكالية الناقد تكمن في الفصل بين ما هو تعالق نصي، وماهو تجسيد لمعاش، وابن ابي ربيعة صور مواقف ولقاءات وخلوة وتوديع، واختلف الورعون حول تداول شعره، لما ينطوي عليه من غزل لا يليق، وقصة «أمن آل نعم» مشهورة. هذا الشاعر اقسم حين حضرته الوفاة: انه لم يحل ازاره على حرام. وعلى ضوء التداخل بين القولي والفعلي فان من حق المتابعين لفيوض التوله والتشوق والمناجاة والعتاب والتحسر ان يلتمسوا في ثنايا النصوص صورا من حياة الشاعر والوانا من أنواع الحب عنده كالحب العذري، او الحب الصوفي، او الحب الرومانسي، او الحب الاسقاطي، اضافة الى حب التقنع، وحب الرمز، وما لا نهاية له من اصناف الحب، وعلى ذكر «الرومانسي» فقد وقفت على كلمة توحي بعربيتها وهي ان اسم زوجة النعمان بن المنذر «رومانس» وهذه التسمية قد تنشىء علاقة دلالية بين الاغراض الرومانسية في الشعر العربي وما يوحي به اسم تلك المرأة، ذلك ما سنفرغ له.
والمرأة التي شدت وثاق الشعراء، فكان الشعر منا او فداء خرجت من مركزية الحب الجسدي لتكون شيئا آخر تضل به الافهام وتزل فيه الاقدام فكانت عند قوم وطنا، وكانت عند آخرين رمزا للصراع الحضاري، واستعملها المتصوفة قناعا او رمزا، وبقيت عملية الفرز عملية شاقة.
والشاعر لا يبعد النجعة، ولا يدفع بك الى التيه وراء تلك الالوان والطعوم، ولكنه يطوي في اعماقه الوانا من الحب والاخلاص والرفض والاباء المخلوطة بالالم والحزن والتعالي، وبخاصة حين يغرق في اضواء امارته، بحيث يدفعه الى التهديد «باليمين وباليماني»:
ولولا الحب في الاعناق رقٌّ
ملكتك باليمين وباليماني
وتلك ليست من لغة الحب في شيء، ولهذا جاء ب«لولا» التي تدل على امتناع لامتناع. ان لغة الحب واجواءه يفعلان باليمين وباليمان ما فعلته حالة ابن شداد. فالحب واجواؤه يجذبان السيف والرمح من عالم القوة والحرب الى عالم التوله، حتى يود الشاعر تقبيل السيوف لانها لمعت كبارق ثغر محبوبته. والشاعر المحتمي بسلطانه يمتلك صفاء روحيا في تولهه، يرتفع بحبه الى درجات من الصفاء المزدوج: صفاء في اللغة، وصفاء في الايقاع، وصفاء في الروح، ولمّا يكن الحب عنده شكلا ولا جسدا، وان ألم بمثل ذلك، ولكنه المام عابر، والشاعر الذي عاش عذابات الحب، ولم يصطنعها لم يركن الى بوادر العصر الحديث ورؤيته المتطرفة للقيم والمفاهيم، كما لم يكن احادي النظرة، فالمتمعن في شعره تتراءى له غابة متشابكة من الاشكاليات الدلالية. ومع هذا فلا احسبه بعيدا عن حسيس الرومانسية الغربية، واذ لم يكن مستسلما لشيء منها، فقد تراءت له من خلال متابعاته وتسربت كما العبق تحسه ولا تراه.
ولانه ذو حظوة وحظ عظيم فقد سعى اليه الكتاب والمثقف وخالطه الكتاب والشعراء مثلما سعى الى احد الممدوحين المنبر او كاد يسعى، وهذه الحياة الطيعة شكلت له الاجواء المقدور عليها، وبدت ملامح هذه الحياة بهذا الشعر الذي تلقفه المتعذبون بالحب، واعادوا شحنه بما يعانونه.
وعند النظر الى الشكل والتشكيل والبناء والانتقاء نجد الشاعر في ديوانه الاول ذا خصوصيات وسمات تذكرنا بالموشحات الاندلسية التي جسدت الطبيعة الحالمة والنعيم المقيم في الفردوس المفقود، وبالرباعيات الخيامية وبالتوله العذري، وبلغة الحب العذبة السلسة الرقيقة. ومع الصفاء اللغوي والعذوبة الموسيقية، يقع الشاعر في تجاوزات دلالية لا اظنها من سماته، وهي تجاوزات لا نتفق معه عليها، وقد تكون من ذلك الايغال الذي قال عنه البلاغيون، والشاعر يود في بعض حالات الرفض والتمرد لو انه اتخذ من كلماته حرابا حادة ليغرسها في صدور الذين لا يشعرون بعذاباته ومن ثم تراه يوغل في تجسيد تلك المعاناة التي لا نراها، وهو في مناجاته يصل الى ذروة المبالغة، وله مع هذا ادلال في شعره ومباهاة به، قد تكون محمودة خارج نطاق الحب ومجادلة الحبيب:
اني وحيد القوافي
وانت بالحسن اوحد«12»
دعوت الشعر فيك فما عصاني
ولان قياده بعد الحران
اتى جبريله واسر وحياً
اليّ كأنه رجع المثاني«13»
ولاشك ان في ذلك مبالغة مسرفة، ما كانت من سمات الشاعر، وما كان له ان يقترفها، اذ لا نتفق معه على الانتقال من شياطين الشعر الاسطورية الى ملائكة الوحي الحقيقية المتنزلة بالحق، كما لا نرى مبالغته في رسم المصير لمحبوبته «اذا ما نعي»:
وعيشي مدى العمر بالذكريات
وطوفي بمغنى الهوى واخشعي
وزوري ثراي اذا ما السكونُ
طل وعند الثرى فاركعي«14»
والشاعر المتوله ذو الحب العذري المتسامي قد يقع في الوصفية الحسية، بحيث يخرج من الق التوله الى فقاعة الحس، ولكنه لا يتلبث في ذلك العارض الذي لم يكن من سماته:
عيناك عينا مهاة
والشعر كالليل اسود
والثغر عقد لآل
يا ليتني فيه انضد«15»
والشاعر المتألق هو الذي يرتبك في رحابه النقاد، ويختلفون، ولهذا فان شاعرا كأبي العتاهية يُخْرِجُ الشعر من كُمِّه لم يشغل الناس، ولم يختلف حوله احد. ان الشاعرية الفذة هي التي توتر الاعصاب وتثير كوامن الرؤى، ولا يصل فيها المختلفون الى أرض مشتركة. ذلك بعض تجليات ديوانه الاول، وهي بعض ما ينطوي عليه من معاني، ولو امترى اخلاقه آخرون لجاد بالمزيد من الدلالات.
***
3/2 وحين نتخطى الى ديوانه الثاني لسبر اغوار المسافة بين الديوانين نجد ان هناك مسافتين: مسافة دلالية واخرى فنية، وكلتا المسافتين ليستا بشاسعتين، والاختلاف بينهما دون ما كنا نؤمله فالمسافة الدلالية تراوح بين القرب والبعد، وهي مفارقة متوقعة ومحسوبة، فالشاعر في تلك المرحلة بلغ اشده، واستوت مداركه، ونضجت رؤيته واختلطت همومه الذاتية مع هموم امته، فكاد يكون ديوانه الثاني غيريا بقدر ما كان ديوانه الاول ذاتيا، ولكن الحب المتجذر جذبه ليغمسه في اعماقه من جديد، لقد كاد شعره يبتعد حين تحدث عن وطنه حديث الخائف المترقب، وتحدث عن امته حديث الناصح المشفق، وتغنى بأمجادها وتفجع على شهيدها وتحسر على واقعها، وسجل طائفة من احداثها، وابتهل الى الله ابتهال المخبت، ودخلت عالمه امرأة اخرى ليست معشوقة ولكنها ابنته التي اخترقت عوالمه بعواطف الابوة لا بوله العاشق. ولكنه مع هذا لم يبرح القاموس اللغوي للحب، ولم يند تشكيله الشعري عما كان عليه في ديوانه الاول، وان هدأت موسيقاه، وطال نفسها بعض الاطالة، ثم هو اذ لم يتخلص من لغة الحب ولا من الحب ذاته، فانه استهل ديوانه بالوطنيات والحماسيات والابتهالات والرثائيات والابويات وكان فيها متألقا كما هو في الهوى والحب، ومع هذه التجارب التي كشفت عن قدرات فنية ودلالية فانه لم يبعد النجعة، لقد عاد ادراجه كأقوى ما يكون العاشق المدنف، ولك ان تقرأ «بريق المجد»:
«من بريق الوجد في عينيك اشعلت حنيني»«16»
او «من اجل عينيك»
هذا فؤادي فامتلك امره
واظلمه ان احببت او فاعدل«17»
فكان ان تقاربت المسافة الفنية واللغوية وتباعدت المسافة الدلالية شيئا قليلا، لتعود من جديد، وتلك ظاهرة طبيعية، او تكاد تكون طبيعية، فالتجارب والمواقف اضافت هموما جديدة، وليس علينا من بأس في اختيار مقاطع من شعره في ديوانه الاخير يبدو فيها العدول الدلالي، وتتجلى من خلالها المسافة الفاصلة بين القيم الدلالية هنا وهناك. ففي حالة من الانابة النادمة يتلاحق الاعتراف وطلب العفو من خلال نفس صوفي ابتهالي:
الهي ما يوما عَصيْتُكَ مرةً
وكنتُ بعصياني الى العَمْدِ اقصد
وما شدَّني للذنب شِركٌ بمبدع
يَخرُّ له نجمٌ ويسجدُ فرْقَدُ
وما كنتُ مغروراً وقوتي
ولا غرَّني جاهٌ ومال وسؤْدَدُ
ولكنه ضعفي امام غرائزي
وبَهْرَجُ دنيا خالِبٌ ومُسَهِّدُ«18»
والشاعر المفجوع باستشهاد والده الملك فيصل رحمه الله تتلاحق عنده الاستفهامات الانكارية مجسدة حجم الفاجعة:
كيف ارثيك يا أبي بالقوافي
وقوافيَّ قاصرات الجناح
كيف ابكيك والخلود التقى في
ك شهيداً مُجسَّما للفلاح
كيف تعلو ابتسامةُ الصَّفْوِ ثغري
كيف تحلو الحياة للمُلْتاح
كيف لا احسبُ الوجودَ جحيماً
يحتويني في جيئتي ورواحي
كيف اقوى على احتباس دموعي
وانا لا اخاف فيك اللاحي
كيف انساك يا ابي.. كيف يمحو
من خيالي خيالك الحلو ماح«19»
وهو حين يعيش فرحة الانتصار على العدو وتحطيم «خط بارليف» تخف حدة الانكسار عنده، وتعود اليه الثقة بالمقاتل العربي، وتعود به هذه الثقة الى تلك البطولة العربية التي جسدها ابو تمام، ومن ثم راح يمتري اخلاف بائية ابي تمام التي تعيش الاجواء نفسها:
ويوم تِشْرين قام الحقُّ مرتفعا
على الذُّرى وخصومُ الحق في صَبَبِ
دُكّتْ حُصُونُ بني صهيون وانطمرتْ
في خط بارْليفَ اكداسٌ من الكذب
عَدَتْ عليهم ليوث الغاب فاحترقوا
ولاذ من لاذ بالافلات والهرب
كأنهم بين أبطال الوغى جُرُدٌ
مذعورةٌ وقعت في كف مُخْتلبِ
دارت عليهم دواعي الشر فانقلبوا
على عواتقهم في شرِّ منقلب«20»
والعمل الفدائي شفاء لما في النفوس، والشاعر حين يمجده يمارس التحريض على القتال:
قُلْ للفدائي هنيئا له
معاركٌ تنطقُ فيها الحرابْ
يمضي الى الحرب عزيز الخطى
لا مطمع يحفزه للسِّلابْ
وانما تحدوه سُـقيا العدا
كأسا جَرَعْنا منه مُرَّ العذابْ
لا يرهبُ الموتَ ولا ينثني
عن عزمه شأن الشجاع المهابْ
سلاحه الايمانُ في ربه
وهمةٌ عاليةٌ كالشِّهاب«21»
وهو في غمرة الانتصار والعمل الفدائي يجنح للسلام، ويدعو الى الوئام ويحذر اهله وعشيرته من مغبة الحروب مثلما فعل ابن ابي سلمى:
سادة الشعر يا سُلاف عبيرالـ
تفكْرِ يا نفح عَرْفِهِ الفَوَّاح
انذروا قادة الشرور بخُسر
رغم ما اكتظ بينهم من سلاح
بلّغوهم أنَّ السلام هو الحـ
ق وافياؤه ظِلالُ الفلاح
علموهم حصافة القول والفعْ
ـل وقولوا لهم بصوت اللاحي
ايها المشترون بالحرب نصرا
لذّةُ النصر في العقول الصَّواحِي
حطموا عُدَّة الحروب وذودوا
عن حماكم بالعلم والاصلاح
لا تطيبُ الحياةُ من غير امن
مشرق كالسنا بثغر الصباح«22»
واحسبنا بحاجة الى مساءلة النص واستنطاقه لمعرفة اعمق واشمل بأسباب التحولات. واذ قد استوفينا الحديث عن ديوانه الاول الذي أسس فيه لمنهجه الموضوعي والفني، فان استيفاء مثل ذلك عن ديوانه الثاني يكاد يحكم القبضة على الشاعر، ويجعله في متناول يد القارىء، والشاعر الذي استلذ الحرمان في ديوانه الاول ضاق به في ديوانه الثاني:
أنا ضقت بالحرمان يا ربي
والري من حولي فما ذنبي«23»
ولعلنا نستذكر مقولته في كلمة الاهداء: «الى الذين شاركوني في لذة الحرمان» ثم نعود لنبحث عن هذا الضيق وكيف انتقل به الحرمان من اللذة الى الضيق، فلربما يكون الحرمان اللذيذ شيء والآخر شيء آخر، فأي حرمان هذا الذي قلب له ظهر المجن؟
واذ يكون قد استهل الديوان الثاني بالوطنيات والابتهالات والتفجعات فانه لم يطل المكث فيها فما خلق لها وما خلقت له وما كان لها ان تصرفه عن معاناته وحبه ومغالبته للحبيب، لقد عاد حيث تكون الحبيبة ويكون الحب الذي لا يعكر صفوه ما تفيض به الحياة من مشاكل المح الى شيء منها، وهو يمجد وطنه او يرثي اباه او ينعي مصير امته، ولعله التقط عنوان ديوانه الثاني من حديثه الى حبيبته في «فجر حبي»:
واستمع ما يقول قلب لقلب
في حديث اللقاء بعد الغيوب«24»
والديوان برمته يمثل انكسارات الحب ورحلة العودة من شواطىء الركض في فيافي الحب والتوله، انه تصفيات لحسابات قديمة:
ايها العائد الذي الف المكر
وقد هد بالخداع كياني
لست ادري هل جئت تطلب ودي
ام ترى جئت شامتها بهوائي«25»
وفظاعة الانكسار تتمثل بقوله:
يا حبيبي آذنت شمس هوانا بالمغيب
وانطوى حلم رعيناه بدقات القلوب«26»
وقوله:
دعّني فقد مات حبٌّ
اضناه طول التحدي«27»
هذا الحرمان الذي ضاق به بعد لذة، هذا الحب الذي مات بعد طعم التحدي، وهذا الكيان المتهدم، كل هذه المصائر تعني ان المحارب اخذ طريق العودة، لقد مل التنازع، ومل الجدل، ومل العتاب، وما عاد قادرا على مواصلة السفر في فيافي الحب والركض وراء سراباته. هذا الديوان يمثل رحلة العودة والانابة.
«4»
4/1 تلك إلماحات عن بعده الموضوعي وهو بعدٌ قريب بعيد.
قريب لمن اراده كما هو في حبه وتولهه، وبعيد لمن التمسه من خلال الرمز والقناع والتورية، والنص حمال اوجه بالقدر الذي يراه البعض ممن يحلو لهم تغنيص النصوص، اما عن صوره الشعرية فانها تشكل فضاءات واسعة وتأتي على اشكال وصيغ متعددة، وتستمد كينونتها من المعاش والمشاهد والمحفوظ، لا يتأمل الشاعر في تشكيلها ولا يستحضر انبثاقها، ولكنها حين تتجسد في سياقه الشعري تتخذ وجهتها وتعطي سمتها، تكون قديمة، وتكون حديثة، تكون رمزية، وتكون سريالية، تكون عقلية، وتكون حسية، تكون ثبوتية، وتكون متحركة، وهو لا يريدها ان تكون شيئا من هذا او ذاك، او قل: لا يعنيه ان تكون بهذا التنوع، ولكنها كأي فعل تعبيري يتشكل من خلال الابداع ثم تبحث عن انتمائها ويجتهد النقاد في استجلائها وتصنيفها. ان الصورة اي صورة، عفوية كانت ام متعملة، لابد ان يكون لها طبيعة ومجال ونمط، والناقد الذي يتعمد التفكيك يدرك التشكلات وعلاقات البناء ويستجلي جماليات الصورة وتنوعها وخصوصيتها في التشكيل الشعري، وعلى الرغم من ان الشاعر عاش متولها رومانسيا غزلا الا انه تسامى بالجسم الانثوي ولم يتخذه مادة ممتهنة مبتذلة لصوره، وكان بامكانه ان يستغل طاقات الجمال الحسي فتكون صورة حسية جمالية، لقد تسامى فوق النفعي المادي ليصل الى الروحي المثالي، واذ لم يكن على رأس المبتكرين، الا انه اتخذ الجماليات الروحية ملاذا له، وان جذبته المرأة اليها في لحظات ضعف بشري، ولانه عربي تثيره الصحراء اللافحة وتستهويه شوامخ الجبال، فقد استمد من الصحراء بعض صوره وحولها من الحسية الى المعنوية، ومن تقنيات الصورة عنده عنصر التقابل والتقابل يعمق الحالة الشعورية هناك: «قفر، وصحراء، وخضرة، ويبات، وحياء» وتلك معهودات حسية يعرفها ابن الصحراء، يكتوي بحرها، ويتجرع مرها، وذلك من اقتيات المعاش، وقل ان تراه مستدرا لاخلاف الذاكرة، هذا المعجم الذهبي المعاش نهض بمهمة التصوير الشعوري وتجسيد المعاناة:
دنياك قَفْرٌ من خيال متيَّم
يرنو اليك بلهفة الاحباب
ودُناي كالصحراء اخطأها الحيا
فتحولت من خضرة ليباب«28»
والشاعر الواقعي: واقعية الدلالة واللغة، لا يبارح المعاش، ولكنه حين يلتقطه ليكون موقفا فنيا، يحتاج الى امكانيات استثنائية في اللغة والفن والثقافة لكي يحوله من عادي الى فني، والمكان قد يتحول من معهوداته الظرفية ليكون شعريا، والنقاد المحدثون يولون المكان اهمية، ويجعلونه جزءا من العملية الابداعية، ويعالجون جمالياته وايحاءاته والاقل منهم يوفق في استجلاء انعكاسات المكان على العملية ومدده لها، وهذه الاطلالة والموارد والمراعي التي عايشها الشعراء مع محبوباتهم وهذه المياه المتدفقة والجبال الشاهقة والطبيعة الناطقة والصامتة تحولت من حسيتها الظرفية لتكون حالة شعورية زاخرة بالدلالات والمعاني. فالبحتري جسد شعوره وصور انكساراته من خلال «الايوان»، واستطاع المؤاخاة بين خريف الذات وخريف «الايوان» وابن خفاجة شخصن الجبل ثم راح يسائله عن ذكرياته، كم طوى داخله من اجيال، وكم مرت به من قوافل، وكم افلت في ذراه من احداث، وشوقي ابدع رائعته في «انس الوجود» والثلاثة عاشوا مرحلة التأمل والتذمر، وجاء من قبلهم الشعراء والقصاص والروائيون فكان المكان عندهم عنصرا هاما في العملية الابداعية، وكان للمكان عند الفيصل شؤون وشعر الطبيعة في سائر العصور يعيش حضورا فاعلا في تعميق الاحداث، وشاعرية المكان وجمالياته قضية ادبية ناشطة والصورة ليست في مادتها ولكنها في التشكيل والتخيل والحركة. وقصيدة «ابنة الأحزان»(24) تتلاحق فيها الصور والتشبيهات «كالنور» «كالطيب» «طويت على جسد الشرور ثياب والهوى سطر مكبر» «والجوى طيف حائم» «كأن الآه شدَّت عذابك في وثاق عذابي» «وكأن قلبينا.. ركزا على مدِّ النوى الغلاب».
والشاعر الذي يواجه بالعقوق والتنكر، ينقل المشاعر الى مشاهد والرؤى الى حسيات ليعمق المأساة، ويدين الحبيب:
أزرعُ الودَّ والحنان واسقي
واحةَ الحبِّ من روافد قلبي
فأرى الشك والجحود والقى
ناتئات الاشواك تملأ دربي«29»
هذه الصورة غابة متشابكة متناسلة.. البذل المعنوي فيها من: «الود» و«الحنان» يتحول الى بذور حسية مؤذية تخر المشاعر، فـ«الحب» يتحول الى «واحة» و«القلب» يتحول الى نبع متدفق في مسارب تلك الواحة. واذا كان هناك «واحة» و«بذور» تزرع و«ماء» يتدفق فالمتوقع ان يكون هناك نبات له طعم في الفم ورائحة في الانف وجمال في العين، ولكن الصورة تجيء على عكس ما يتطلع «شك» و«جحود» كأنه الشوك الناتىء الذي يملأ طريق الشاعر، وهو لا يقصد ما تطأه الاقدام، وانما يريد ما تعبره المشاعر. انها صورة متعددة الاشكال والالوان، صورة مركبة، تتشابك مفرداتها لتشكل لوحة مليئة بالالم، ثم هي نسيج من البيئة التي يعيشها الشاعر بوصفه ابن الصحراء وربيب شعراء الصحراء.
وهو اذ يتحامى الصورة الحسية يقع فيها كأحسن ما يكون الوقوع:
شفتاه ينبوع حب شهي
ليتني ما فطمت عن شفتيه«30»
وعليك ان تتصور الينابيع المتدفقة بالماء العذب الزلال ومن حوله يشتهيه ويتهافت عليه، ثم تتصور الطفل الرضيع الذي لم يبلغ الفطام وتكون الشفاه كثدي الام المتدفق بالحياة، هناك تدفق الينابيع ودر الحليب.
وهناك الوارد الهيمان والطفل الرضيع، شبكة من التصورات جسدها بيت واحد، وكل قصيدة «ومضات الحنان» غارقة في الحسية مأخوذة بالتدقيق والتفصيل فالوجنة بلون الورد، وانفاسه عبير، وشفتاه ينبوع، وحاجباه سيفان وشعره قطعة ليل، قده غصن بان، والشاعر يحاول الخلوص من تلك الحسية الصارخة والتفصيل المكرور، فتكون «المقلتان اصفى من الحلم» و«الدلال يزهو في برديه» و«شعره قطعة طالت فتدلت نشوى على كتفيه» و«الصوت منسرح كالنور» هذا التراسل الحسي عفوي انسيابي ابداعي فيه اغراق خيالي، ولكنه اغراق مشروع، ومؤشر براعة واكتمال آلة، وتأتي الصورة المعنوية العميقة كأجمل ما يكون التصوير:
والأنين اليقظان يقتات غفوي
وبعيني غفلة وشرود
كلما ساقني الى البشر مد
عاد لي البكاء جزر شديد«31»
صورة جامعة، تتداخل فيها المجازات، ويتبدى التراسل، وينفتح لها فضاء الدلالات، لتأخذه حيث يكون التكثيف، فالانين يوصف باليقظة، وهو مخلوق نهم اكول يقتات من الغفو، والغفو المعنوي يتحول الى مادة يعيش عليها الانين، والبحر له مد يسوق الشاعر الى البشر، وكأنه شيء على الساحل وجزر يعود به الى اعماق البحر ليجد البكاء كالقرش او كالحوت، وهكذا تتداخل الصور والتصورات وتتفاعل الحركة والسكون، ويمتزج الحسي بالمعنوي، وتسقط الحواجز مشكلة بسقوطها لوحة رائعة يتآزر الحسي والمعنوي ليعمقا الألم والحزن والمعاناة.
وللشاعر «فرحة» و«غرام»، و كان يود لو ان الفرحة تدوم ومطامع الغرام تتحقق، ولانه الشاعر المعذب المتعذب لم يكن غرامه الا ضبابا حالك اللون، سهله اخدود، ولم تكن فرحته الا برقا ورعدا عارضا غير ممطر:-
فغرامي ما كان غير ضباب
حالك اللون سهله اخدود
قدري ساقني اليه فكانت
فرحتي بارقا تلته الرعود«32»
والنصوص التي اخترناها تستدعي مظاهر بيئية عاشها الشاعر «البحر» «الصحراء» «الرعد» و«البرق». والشاعر يستغل بيئته لنسيج الصور بشكل دقيق وبوعي تام، فعناصر الصورة عناصر طبيعية بيئية يعيشها الشاعر ويكتوي بسلبياتها، والشعراء اما ان يقتاتوا من الذاكرة القرائية او من مشاهداتهم البيئية، والامر مرتبط ببراعة الالتقاط وحسن الاداء، وقد يمتاز الشاعر البيئي ببراعة الابتكار فيما يمتاز الشاعر الثقافي بحسن الاختيار، والمسألة في النهاية مرتبطة بصدق التجربة وبراعة الموهبة وتناغم الصورة مع الحدث وقدرتها على تعميق الرؤية وتكثيف الدلالة، وصور الشاعر الملتقطة من البيئة الصحراوية تجسد المعاناة، فالرعد والبرق حين لا يعقبه مطر ينعكس اثره السيء على ابن الصحراء. والمد الباحث عن البشر يسلمه لجزر يعود به الى البكاء، ومشاهد الطبيعة يراها الشاعر رأي العين قريبا من داره، والصحراء والواحات والبذر والسقيا اشياء الفها الشاعر، وذاق حلوها ومرها.
والشاعر يتيح للحواس ان تتراسل فهو ينظر بأنفه ويشم بعينه ويرعى بأذنه، وهو يشخصن المعنويات وتتحول الاشياء عنده الى معانٍ، والمعاني الى اشياء وهكذا يعطي نفسه سعة من حرية القول، فيتمكن من تلوين صورة وتحريكها بشكل مثير ومبهج.
***
4/2 والشاعر الذي يقصر نفسه وتتكشف دلالته تبدو بوادر الطول والاستفاضة في ديوانه الاول ثم تشيع تلك الظاهرة في ديوانه الثاني ومع هذا تراه يحتفظ بالاشواط الدلالية والمقاطع العروضية. ولكن القصيدة تمتد معه ويدخل في جدلية دلالية، وبخاصة فيما هو خارج سرب التغني الذاتي، ومقدمة «حبر ينفد»(33) يطول فيها النفس ويزيد فيها التفصيل ولكنه يحتفظ بخواصه الشعورية والايقاعية والايحائية، ويبدو التماسك العضوي والنمو الموضوعي والقصيدة استدراج واستعطاف وتحسر:
يخيل لي انني قد اضعت
شبابي وقلبي وعمري سدى
وكم تمنيت لو انه يخلص من الاطناب الذي يقترب من التكرار باستبدال «شيبي» بـ«عمري» وان كان العموم بعد الخصوص او الكل بعد الجزء فالشباب جزء من العمر، ولست متراجعا عن تلك الرغبة، وان اصاب المريدون. ذلكم هو الشاعر الذي عبر عن مشاعر الوالهين لم يرض تقديم نفسه بكل ما قال، وانما قدمها ببعض ما قال، ولم يظفر المشهد الادبي الا بعملين اثنين وآخر باللهجة العامية، وهذان العملان يقعان في 1803 بيت ويشتملان على 131 قصيدة ومقطوعة تتراوح كل قصيدة من ثلاثة أبيات الى واحد وعشرين بيتا والشاعر الذي امد الله في عمره ومكن له في ارض الادب وهيأ له الاسباب لم يخرج للناس الا هذين العملين ومن خلالهما يستقرىء النقاد حياة حافلة بالمغالبات ليكون في النهاية المغلوب.. ولم لا يكون والنساء يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام.
فهرس الحواشي:
1- اتجاهات الشعر المعاصر في نجد ص221.
2- في أدبنا المعاصر ص160.
3- جدود قدماء ص 283.
4- صدر له ديوان «عذاب السنين».
5- لعل من اهمها:
أ- الامير عبد الله الفيصل آل سعود والبيئات العربية السعودية بمصر. أ/صالح جمال حريري.
ب - الامير عبد الله الفيصل في مصر. محمد الغزالي. دار الكتب بمصر 1952م.
ج - عبد الله الفيصل حياته وشعره منير العجلاني. دار الاصفهاني بجدة 1982م.
د- ظاهر الاغتراب في شعر ابراهيم ناجي وعبد الله الفيصل د. عزت محمود علي الدين. هذا بالاضافة الى مؤلف عبد الكريم نيازي، وما كتبه نقاد ودارسون من المملكة او من الوطن العربي ممن كتبوا عن الادب العربي في المملكة. راجع الادب العربي السعودي بأقلام الدارسين العرب. د/حسن بن فهد الهويمل وآخرين.
6- مقدمة وحي الحرمان.
7- وحي الحرمان ص 58.
8- وحي الحرمان ص52.
9- وحي الحرمان ص 89.
10- وحي الحرمان ص 82.
11- وحي الحرمان ص 802.
12- وحي الحرمان ص44.
13- وحي الحرمان ص30
14- وحي الحرمان ص96.
15- وحي الحرمان ص44.
16- حديث قلب ص 63.
17- حديث قلب ص 66.
18- حديث قلب ص7.
19- حديث قلب ص12.
20- حديث قلب ص21.
21- حديث قلب ص 25.
22- حديث قلب ص35.
23- حديث قلب ص52.
24- حديث قلب ص142.
25- حديث قلب ص102.
26- حديث قلب ص108.
27- حديث قلب ص119.
28- حديث قلب ص95.
29- ديوان حديث قلب ص55.
30- ديوان حديث قلب ص128.
31- ديوان حديث قلب ص178.
32- ديوان حديث قلب ص179.
33- حديث قلب ص127.
* هوامش:
- استاذ الادب الحديث بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية.
- رئيس نادي القصيم الادبي ببريدة.
- عضو مجلس الامناء برابطة الادب الاسلامي العالمية ورئيس مكتبها الاقليمي بالمملكة.
|
|
|
|
|