| عزيزتـي الجزيرة
يغادر منزله، يبقى الباب مواربا، تصافحه شمس الصباح أمام عتبة الدار، تنبس شفاه أمه بدعوات حرى شاخصة بهامها الى السماء، بأن يحفظه ربه حينما استودعته اياه، وان ينسأ في اجله، حتى تراه رجلا آمنا في سربه معافى في بدنه، يملأ عينها ويرفأ دمعها.. ثم تغلق الباب بإحكام.
يقارب أحمد باب المدرسة، تثور انفاسه وكأن قلبه يصعد لحنجرته ثم يغيب في فلول التلاميذ المتناثرة، ويلوذ بحائط شاحب ليسند ظهره عليه، متحاشيا غائلة هؤلاء التلاميذ اللاهثين الحذر هو سيد الموقف.
يقرع الجرس كناقوس مفزع يدق في عالم التيهان، يزداد تبعثر الأطفال حتى يهدأ استنفارهم بوقوف متراص هو اشبه بمسارات الثعابين الرملية.
لا يزال أحمد مستجيرا بالله ثم بالجدار وعيناه تحملقان..
أصوات متداخلة هي اشبه بالهرج والمرج يحملها لاقط الصوت بلكنة غريبة! رجال صامتون بعضهم يضارع احداً في وقفته والبعض الآخر يتخلل تلك المسارات المتعرجة..
«وعذرا ايها القارىء الكريم فسأترك الحديث لاحمد فهو على نفسه بصير.. راجيا ان تتجاور عما يعتور حديثه من خلل نظرا لصغر سنه وضآلة عقله الذي هو دون التمييز».
يقول أحمد:
لحظات متلاحقة واذا بي داخل حجرة مكتظة وقد امتلأت الكراسي بأطفال اعرف بعضهم وانكر البقية، ذاك ابن جارنا محمد يتلفت في ذهول ولكن كيف اصل اليه؟
لأهرب من هذا الطفل المجهش بجواري، ماهي الا برهة حتى سمعت انتحاب محمد وعويله فكدت ابادلهم الشعور نفسه لولا دخول رجل ضخم يتمتم لايلوي على شيء يخترق جموعنا ويتخطى رقابنا حتى رمى بثقله على احد الكراسي في مقدمة الغرفة.رفع رأسه ثم زمجر وصرخ في خلد اولئك الناعقين حتى خشعت الاصوات واطرق كل نائح الى طرف ثوبه وطفق يمسح ما بقي من ماء وجهه المهراق.. سوى ذلك الرجل الذي لم تدمع كلما ازددنا عجبا زادنا من كتبه ظل بعض العويل يعاود اولئك الاطفال على مدى شهر كامل، لايطفىء اواره الا مقابلة الصراخ بالصراخ من قبل «المدرس» الذي عرفت اسمه فيما بعد.
تصرمت الليالي والايام و«المعلم» يعاودنا كل صباح لا يزيد على تقليب صفحات الكتب ثم التحريك السريع للطباشير على اللوح القديم، ونحن بدورنا نفغر افواهنا للترديد الببغاوي لما يتفوه به هذا «الطفل الكبير» وأثناء ترديدي كنت اسرح بفكري في ذلك الرجل المسكين واجزم بأن مدير المدرسة قد غضب عليه واجبره على الوقوف امامنا في جميع الدروس وحرمه من الخروج الا في شدة القيلولة ولا ادل على حرمانه من مسابقته لنا عند (الطلعة)!وقد رأيت رجالا غيره يروحون ويغدون في ثنايا «المدرسة» وكلما مر احدهم بمحاذاة فصلنا عفوا بل قفصنا احس بتقطع قلب معلمنا ورغبته في الحرية وضيقه واشمئزازه فلا ادري ماهي مهمة هؤلاء الرجال غيره حتى اكتشفت مؤخرا انه هو الجندي المجهول وربان السفينة المغمور وان طريقته في تعليمنا فرضتها عليه مناهجنا فلا ذنب له فيها.وانه سيأتي ذلك اليوم الذي يعود فيه هذا الرجل لرشده ويعلم انه مسير يسبح عكس التيار دون اعداد، او عدة، او عتاد.
فهد الغانم
|
|
|
|
|