| مقـالات
إن إشكالية الأصالة والمعاصرة ليست مسألة جديدة على العقل العربي، بل إنها طرحت عليه بحدة منذ حملة تابوليون على الشرق وإخضاعه لمصر سنة 1798. حيث أفاق الشرق لا يلوي على شيء أمام قوة الصدمة الحضارية الناتجة عن الهزيمة العسكرية من خلال الأسلحة الجديدة، وذلك بعد أن كانت الأيام ما بين الشرق والغرب سجالا. هكذا إذا أفاق الشرق وقد أخضع حضاريا سفن تمخر البحار وأسلحة تخضع الغرماء، فدخل الأعلام والمفكرون في الشرق في فترة من التأمل لذات الحضارة العربية الإسلامية ومنظومتها في إطار بحث عن الحلول للتحدي الجديد، أو عن تفسير لأسباب التفوق الحضاري الذي فرض عليهم.
وقد صاغ هؤلاء المفكرون والمصلحون تأملاتهم في سؤال محوري، تقتضي الإجابة عليه البحث عن الأسباب والحلول اللازمة لمواجهة التحدي الحضاري الجديد، المتمثل في الحداثة.
هكذا إذ صاغ شكيب أرسلان سؤاله المعروف نيابة عن أقرانة من أعلام الشرق:
لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ في خضم الرد على هذا السؤال إذن انقسمت الأجوبة بين مناد بضرورة الدخول في معترك النموذج الحضاري الغربي بكل حيثياته، وبين المنادي بالعودة إلى الأصول لاستنباط الرد اللازم على هذا التحدي. في حين اتخذ آخرون طريقا يدعو للجمع بين الأصول وكل جديد حتى وإن كان وافدا من الأعداء. من هنا نشأت إشكالية الأصالة والمعاصرة وتدافعتها المشارب والأذواق على طول وعرض الخارطة العربية الإسلامية.
وكانت تونس كغيرها من الدول التي واجهت نفس الإشكالية وحاول مفكروها ومصلحوها تقديم الردود الشافية على هذه الإشكالية، فانقسموا شأنهم شأن أترابهم في المشرق حول الموضوع. وهكذا ظهر أعلام كبار كان لفكرهم الدور الكبير في رسم ملامح النهضة التونسية، ونذكر من بين هؤلاء ابن أبي الضياف وخير الدين التونسي وعبدالعزيز الثعالبي ومحمود قبادو والطاهر الحداد والطاهر بن عاشور وغيرهم كثير.
غير أن خضوع تونس للاحتلال الفرنسي، قد أضاف إشكالية أخرى وهي إشكالية التحرير الوطني، وإقامة الدولة الوطنية، الدولة الحديثة. وهو ما استطاع المناضلون الوطنيون في تونس إقناع فرنسا به من خلال تضحياتهم الجسام في إطار الحركة الوطنية التحررية في تونس.
وهكذا شهدت الساحة النضالية التونسية رجالا أفذاذا ضحوا بحياتهم في سبيل تحرر تونس وحفظ كرامة شعبها. ونذكر من بين هؤلاء فرحات حشاد وصالح بن يوسف ومحمد الكبادي والطاهر صفر والحبيب ثامر والحبيب بورقيبة هذا الأخير الذي استطاع أن يظفر بحصاد نضال كل الذين سبقوه وأن ينجح في ترأس الحركة الوطنية بعد مؤتمرها الذي عقدته في عام 1934 في قصر هلال وتم فيه إقصاء صالح بن يوسف الذي كان يشكل المنافس الأول له على زعامة الحركة الوطنية التونسية. وشيئا فشيئا استطاع بورقيبة أن يكمل هيمنته على الحركة الوطنية بمباركة ضمنية من الوصي الفرنسي وبوأه مركزه ذلك بأن يصبح المحاور الأول للسلطات الفرنسية.
واستطاع أن يقنع فرنسا بإعطاء تونس استقلالها سنة 1956. وفي سنة 1957 عمد بورقيبة الى إعلان الجمهورية، وإلغاء حكم البايات الأتراك الذين كانوا يحكمون البلاد ازدواجا مع الحماية الفرنسية.
كما استطاع بورقيبة أن يضمن انتخابه كأول رئيس للجمهورية التونسية. ومن هنا استطاع أيضاً أن يعد الفرصة التاريخية لتطبيق رؤيته ومقارباته حول إشكالية الأصالة والمعاصرة.
وقد اختار بورقيبة الجانب التحديثي الذي يقوم على الأخذ بالنموذج الغربي بكل حيثياته. ولذا عمد بورقيبة ذلك المحامي الفرانكوفيلي «المحب لكل ماهو فرنسي»، إلى تطبيق النموذج الأتاتوركي في تونس. فحاول قلب كل القيم والثوابت الثقافية والاجتماعية للمجتمع التونسي وجعل من نظرته المستغربة النموذج الأمثل في كل الحياة في تونس. وظل معول الفكر البورقيبي المزاجي يهدم ويبني هنا وهناك، فكان حصاد الثلاثين سنة من حكمه محل جدل واسع بين خصومه ومؤيديه.
وإذا كان الجميع يعترفون له بما أنجزه في مجالات كالتعليم والبنية التحتية، فإن الكثيرين يعيبون عليه رادكاليته في التعامل مع البعد الثقافي والاجتماعي، أي مسألة الهوية الحضارية لتونس وشعبها. إذ يرى الكثيرون أن بورقيبة أصاب الشخصية التونسية بما يشبه الانفصام.
ولعل ذلك هو ماجعل قائد التغيير والرئيس الثاني للجمهورية التونسية يعمد إلى تلافيه في إطار رؤية متبصرة، رؤية تحاول إعادة تجذير تونس في بعدها الحضاري، بعدها العربي الإسلامي مع ضمان مزواجة ذلك مع التحديث على نحو من الملاءمة الواعية والرشيدة بين الأصالة والمعاصرة.
ولذا بادر ابن علي إلى تعميم التعريب في كل المؤسسات الحكومية كما عرب الإعلام المرئي والمسموع وكافة الوثائق المكتوبة في تونس. وأعاد الاعتبار للتاريخ الهجري ورؤية الهلال بالاستئناس، وادراج البرامج الدينية في التلفزة الوطنية وأصبحت هذه الأخيرة تنقل الأذان في كل وقت للصلاة كما تنقل صلاة الجمعة مباشرة على الأثير، وعين وزيرا للشؤون الإسلامية، وأدرج التربية الدينية في النظام التربوي وأعاد الاعتبار لجامعة الزيتونة التي حولها من مجرد كلية إلى جامعة من ثلاث كليات وتملك أجمل وأرقى مقر جامعي لجامعة تونسية. وشيد مجموعة كبيرة من المساجد بشكل يشبه الطفرة في بناء المساجد وبدأ بتشييد جامع ضخم في ضاحية قرطاج العاصمة التاريخية للفينيقيين وطبع أول مصحف تونسي.
ومنع على أي مسؤول حكومي أن يتحدث إلا بالعربية كما فرض الزي الشعبي التونسي «الجبة» في كل المحافل الوطنية، وسعى إلى إعادة تأهيل وترسيخ قيم التكافل الاجتماعي من خلال تجربة فريدة هي تجربة الصندوق الوطني للتضامن مع ترسيخ قيم الاعتدال والتسامح بين التونسيين بكل مكوناتهم الفكرية وبين الدولة والمجتمع.
وقد سعى ابن علي إلى أن تطال أعمال ترسيخ هذه القيم أبناء تونس في المهجر من أبناء الجيل الثاني والثالث للمهاجرين. فأمر بافتتاح مدارس تدريس اللغة العربية وقيم الدين الإسلامي لأبناء هؤلاء المهاجرين وقد رافقت كل هذه الإجراءات المتعلقة بالهوية أي بالأصالة التونسية إجراءات تحديثية طالت الدولة ومؤسساتها، من خلال ترسيخ قيم دولة القانون مع العمل على إطلاق نهضة اقتصادية واجتماعية شملت كافة المجالات الحياتية، وهو ما نجحت تونس في تحقيقه. حيث تحققت نسب للتنمية فاقت كلما حققته تونس من أيام استقلالها وحتى سنة 1987 بل إن تونس في العشرية الأخيرة قد ضاعفت ما حققته منذ استقلالها مرات عديدة، كما هو الحال في أمور كالدخل الفردي، والناتج القومي الخام، وقد سبق لنا أن أوردنا الأرقام الموضحة لذلك في مقالات سابقة.وخلاصة القول هو أن تونس اليوم تخطو خطوات أكثر ثقة على طريق الحداثة ولكن بنفس القدر من التشبث بالأصول والجذور.
ص.ب 1120 تونس
|
|
|
|
|