| مقـالات
التنمية كلمة تشمل ميادين عدة ومجالات مختلفة من أوجه النشاط الإنساني، ولئن كان من دلالات هذا المصطلح الاهتمام بنهوض الصناعة والزراعة والعمران، فإنه أيضا يتجاوز هذه الميادين إلى ميدان أرحب، ومجال أهم، وهو الاهتمام بالفكر الإنساني الذي يمثل عماد الحضارة وركيزة البناء، بل إن الحضارات الإنسانية تبدأ أولا بصياغة العقل الإنساني، وتزكيته، وتأهيله للمشاركة في دفع عجلة هذه التنمية. ولذلك نجد أن في كل دولة وفي كل مجتمع مؤسسات تعنى بهذا الجانب، وتختلف مسميات تلك المؤسسات باختلاف المنهج الذي قامت عليه، وطبيعة الموروث الفكري والثقافي الذي تستمد منه روافد تأهيل العقل وتزكيته.
وإذا كان التعليم يمثل قاسما مشتركا لاهتمامات الدول للوصول إلى هذه الغاية فإن في مجتمعات المسلمين مؤسسات تتميز عن غيرها في المجتمعات الأخرى، تتضافر أنشطتها مع أنشطة المؤسسات التربوية والتعليمية في عملية تشكيل عقل الإنسان وتأهيله للمشاركة في التنمية التي يشهدها مجتمعه، تلكم هي المؤسسات الدعوية التي لم تحظ باهتمام دائم وعناية جليلة كما حظيت به في المجتمع المسلم الذي قام على الدعوة وتأسس على أصولها.
وإذا كان قد تعهد بأمر إدارة هذه المؤسسات وتنفيذ أعمالها طائفة من بيننا جمعوا بين فرض الكفاية الشرعي والوظيفة الرسمية بغية الوصول بالسياسات والاستراتيجيات إلى الأهداف التي وضعت من أجلها إلا أن مؤازرة أفراد المجتمع لهؤلاء النفر ضرورة ملحة نحسب أنها تساعد في تكامل الجهود وتسهم إسهاما مباشرا في تفعيل المشاركة من أجل الحفاظ على الموروث أولا، والقيام بواجب تبليغه وإشاعته ثانياًَ.
مكاتب الدعوة في الداخل مثلا تقوم بعمل جليل من أجل توعية أفراد المجتمع بحقائق الدين وأصوله الكلية في كل مجالات حياتهم، ومكاتب الدعوة في الخارج تسعى جاهدة للقيام بمهمة البلاغ المبين وتبصير الناس بدلالات تلك الحقائق والأصول. ولكن هل من لوازم قيام هذه المكاتب وممارستها لنشاطها إعفاء بقية أفراد المجتمع من المشاركة في أنشطتها؟.
إنه على الرغم من كل الجهود الجبارة التي تبذلها هذه الجهات في أداء مهمتها، وكل الاهتمام الرسمي بها وتشجيعها وتوفير كل الوسائل اللازمة من أجل قيامها بمسؤولياتها إلا أن حاجتها إلى الدعم والمناصرة من بقية أفراد المجتمع تبقى قائمة، وضرورة لا بد منها.
ولذلك فإن «تمثيل هذه الجهات في البيت، وفي مكان العمل، وفي السوق، هو وجه من أوجه المشاركة، وذلك بالقدوة، وبالكلمة الطيبة، وبالتعامل الأمثل. إن «غير المسلم» الذي يعيش بيننا سائقا في بيت، أو بائعا في متجر، أو عاملا في مصنع محتاج إلى هذه الدعوة، ودعوته مطلب شرعي: «بلغوا عني ولو آية»، فكم آية تدبرناها ثم بلغناها لمثل هؤلاء الذين يعيشون بيننا وهو على غير ملتنا؟.
إن هناك آيات كثيرة من آيات القرآن الكريم خاطبت مثل هذا الصنف من الناس تحتاج إلى إبلاغها وإقامة الحجة بها عليهم. وهي كغيرها من الآيات نمر عليها مصبحين وبالليل ونتلوها فما تجاوز الحناجر لتمس شغاف القلب وتحيل الشعور إلى حركة وعمل دائبين. وكثير منا إلا من رحم اللّه لا يقف عند آيات القرآن ليتدبر معانيها ويقف عند دلالات ألفاظها ومفرداتها كما كان حال السلف الذين لا يتجاوزون عشر آيات من القرآن حتى يعرفوا ما فيهن من دروس وأحكام. وإذا كان التدبر والوعي ضروريين لفهم آيات الأحكام فإن الوصف القرآني الذي ورد في سياق دحض شبهات الكفار والمبطلين لتقدير التوحيد والعقيدة حري بأن يوقظ القلوب الغافلة، ويشحذ الهمم الفاترة، والعزائم الخاوية للذب عن ذلك التوحيد وتلك العقيدة. فالقرآن دعوة للتوحيد، ودعوة لتقرير العقيدة، ودعوة لتنزيه اللّه تعالى من أقوال الكافرين وافتراءات المشركين، والغيرة على القرآن غيرة على الدعوة وعلامة حبها والإيمان بها.
خمس آيات من سورة مريم جاءت في عرض قرآني بليغ تصف أثر مقولة منكرة من مقولات الكفار والمشركين عندما قالت النصارى المسيح ابن اللّه، وقالت اليهود عزير ابن اللّه، وقالت العرب الملائكة بنات اللّه، فيصف القرآن أثر هذه المقولة المنكرة وصفاً ترتجف له الأجساد الخاوية، وتحيا به القلوب المعطلة، وتنتفض له المشاعر المتبلدة وهو يرسم صورة الكون كله ينتفض لهذه المقولة المنكرة: «وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا إدّا. تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. أن دعوا للرحمن ولدا». إنها صورة معبرة من صور انتفاضة الكون وغضبه لمثل هذه المقالة.
كم منا يقرأ مثل هذه الآيات ويغار؟
لو أصيب أحد بمقالة سوء فيمن يحب فماذا عساه فاعل؟
فما باله لا ينتصر لدينه، ويغار على دعوته ممن يعتقد بذلك ويؤمن به؟
إن الغيرة على الدعوة جزء من الإيمان بها. وإن هذه الآيات التي تصف عقيدة بعض من نلتقي بهم في حياتنا وغيرها كثير تمثل باعاً قوياً لدعوتهم إلى التوحيد وكشف زيف هذه العقيدة ومخالفتها للفطرة وما وقر في الضمير.
إن هذا التبليغ مطلب شرعي، ومسؤولية اجتماعية نتقاسمها مع من وكل بها لنحافظ على الخصوصية التي تميز هذا المجتمع عن غيره، خاصة ونحن نرى اليوم الحركات الإصلاحية التي بدأت تظهر في المجتمعات الأخرى والتي تنادي بضرورة تطهير العقل وإزالة ما علق به من لوثات وشوائب أفرزتها ظروف الحياة التنموية المادية المعاصرة من أجل الحفاظ على هويته وموروثه. والقائمون على أمر هذه الحركات الإصلاحية يعلمون علم اليقين أن هوية المجتمع والجهاد من أجل المحافظة عليها جزء لا يتجزأ من عملية التنمية بمفهومها عند العقلاء ذوي البصيرة والألباب النيرة، وهم يدركون ايضا أن ما أصيبت به مجتمعاتهم من أثر فقد هذه الهوية، وتخلفها في سياق الركض الشديد نحو المادة هو نذير خطر يهدد مستقبل البناء الحضاري، وما ظهور مثل هذه الحركات التي تطالب بإعادة تشكيل العقل وتزكيته إلا وقفات تلتقط فيها الأنفاس اللاهثة جرعة من التعقل والتفكر حتى يسير العقل والجسد في خطين تنمويين متوازيين يكفلان رغد العيش، وطمأنينة النفس، وراحة الضمير. بل إن دائرة الحماسة والغيرة على التراث في تلك المجتمعات جاوزت مثل هذه الحركات الإصلاحية إلى الدوائر الثقافية الرسمية في أوروبا وغيرها حين اتخذت مواقع للدفاع عن هويتها الثقافية وموروثها الحضاري من أعاصير الغزو القادم من وراء الحدود عبر الوسائط الحديثة التي تنقل المعلومات وتروج للثقافات.
إن من مضامين التنمية الحضارية بعناصرها المتعددة أنها ترنو إلى خدمة النوع الإنساني وتقديمه. ولكن هذا التقدم لا يتم أبداً إذا سقط في هوة النظرة القاصرة لهذا النوع وبات ينظر من كوة معتمة مظلمة عاجزة عن أن تهب الحياة معنى حقيقياً للإنسان.
ذلكم أن حياة الإنسان إنما تكتسب معنى حقيقياً إذا صاحب عملية البناء الحضاري نظرة عقدية تسددها وتوجه مسارها حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، وإلا فما معنى أن يطأ الإنسان بقدمه سطح القمر ويبقى في جوهره مرتكسا في حمأة وبيئة تعصف به رياح الرعب، والقلق، والاضطراب، واليأس، ثم التيه؟!
وإن من مضامين معرض وسائل الدعوة ودلالاته أن يكون المجتمع «مستقلا». وهذا الاستقلال لا يكون فقط في العيش في رقعة جغرافية محددة ومعلومة، بل هو عندنا استقلال مقرون بتميّز، تميز في الدين، وتميز في العقيدة، وتميز في المنهج، وتميز في الفكر وأنماط التفكير، وتميز في الأخلاق، وتميز في المعاملة: «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر» وهو تميز يأتي بعد أن تثبت الدعائم وتتوطد الأركان.
إن الدعوة إلى مثل هذا التميز لا بد أن تسري في عروق كل من ينتمي إلى هذه البلاد وكل من ينتسب إلى هذا المجتمع، كل بحسب طاقته، وكل على قدر همته وعزيمته. وإن تضافر الجهود لتحقيق مفهوم «الاستقلال» بمعناه المشار إليه آنفا لازم من لوازم تميز الذات التي نشارك في صنعها جميعا. ومن مقتضيات هذه المشاركة ألا يعهد بحمل لوائها إلى طائفة معينة ونزرها تكافح وتناضل وحدها، ونكتفي نحن بدور الذين ينظرون إليها من طرف خفي، فذلك ليس منهجا علميا صحيحا حين يجعل أو يتجاهل الإنسان واجبه تجاه مجتمعه الذي يعيش فيه ودائرته التي يتحرك في محيطها لما يقتضيه ذلك من تهميش للفرد، وتعطيل لطاقاته، وانزوائه في مكان قصي يرقب حركة التغيير والإعمار ولا يتجشم عناء المشاركة فيها.
|
|
|
|
|