| العالم اليوم
إن أي محلل سياسي لتاريخ الجمهورية التركية السياسي منذ تأسيسها عام 1922 م يشعر بأن القوانين الجديدة التي جاءت بها القيادة السياسية لهذه الجمهورية والتي تتجه في شكلها فقط نحو المجتمع الاوربي مثل قانون القبعة والابتعاد تماما عن الزي العثماني الشرقي وتحريم لبس الطربوش الأحمر حتى على السفراء الأجانب والذي كاد يسبب ازمة دبلوماسية بين مصر الملكية آنذاك وتركيا الجمهورية عندما كان السفير المصري المرشح يرتدي الطربوش العثماني الاحمر وانتهت الأزمة بتخلي السفير عن طربوشه، وكذلك قانون تغيير الحروف العربية باللاتينية وأدخلت مصطلحات علمية وأدبية اللاتينية بدل المصطلحات الفارسية والعربية والتي كانت تشكل 30% من أصل اللغة التركية في العهد العثماني. وفي الفترة الاولى لتطبيق هذه القوانين أصبح المجتمع التركي يشعر بأن هذه البدلة الأوروبية أوسع في جسمه ولا يشعر بالراحة بداخلها.
وتم رسم نظام نقدي للعملة التركية وخصوها بالليرة المغطاة بالعملات الاجنبية وفرض اقتصاد مغلق وأي تعامل داخلي يتعامل بالليرة التركية وأي علاقة تجارية دولية تكون عن طريق البنك المركزي والذي كان يصرف عددا محدودا من العملات الصعبة للمواطنين الأتراك حين تأديتهم لفريضة الحج أما السفر للاغراض الأخرى فكان شبه ممنوع ويمر بمراحل رسمية طويلة تستغرق مدة زمنية طويلة.
واستمر الحال على هذا النحو، اقتصاد مغلق وسياسة شبه محايدة دون فعالية بالعلاقات الدولية. وتحت الضغوط الأوربية المجاورة لتركيا وضرورة التخلص من سيطرة الحزب الواحد الذي كان معظم قادته من رجال الجيش وجنرالاته المتقاعدين أمثال عصمت أينونو وكاظم قارا بكر باشا وغيرهم من الذين اصبحوا ورثة سياسة أتاتورك.
وفي عام 1952 ظهر نجم سياسي شاب هو عدنان مندرس الذي أسس الحزب الديمقراطي وشاركه في زعامة الحزب السياسي المخضرم والمنسق عن جماعة الجنرالات السيد جلال بايار، وفي اول انتخابات فاز الحزب الجديد بالاغلبية المطلقة وترأس عدنان مندرس الوزارة واصبح عصمت أينونو وحزبه معارضا. وبدأت فترة مهمة في حياة تركيا السياسية والاقتصادية حيث بدأت الديمقراطية السياسية والانفتاح المحدود اقتصاديا نحو الغرب. وانتعشت الزراعة لاستعمال المكننة الزراعية فيها لأول مرة وبدأت الصناعات الوطنية للظهور اعتمادا على الخبرة الأوربية واستقر سعر صرف الليرة التركية بين عامي 52م حتى عام 1958 بسعر ثابت تقريبا حيث بلغ الدولار الامريكي تسعة ليرات تركية وعاشت الأوساط الاقتصادية التركية حالة من الانتعاش حيث تم ضبط الاستيراد الحكومي المتوازن مع التصدير الزراعي لصالح الميزان التجاري التركي ولم تتعرض تركيا لأي أزمة اقتصادية حادة.
ومع صيف عام 1958 بدأت ازمة سياسية كبيرة في تركيا حيث بقي من حلف بغداد مقره في أنقره فقط وتمزقت اذرعه في ايران وباكستان والعراق واتجهت السياسة الخارجية التركية نحو تركيز حضورها في حلف الناتو والسعي الحثيث للدخول الى المجتمع الاوربي، وخالف الاتجاه السياسي تجمعات اسلامية ووطنية ظهرت على الساحة السياسية مضادة لهذا الاتجاه نحو جعل حدود تركيا مع الاتحاد السوفيتي آنذاك عرضة لهجوم مفاجىء يهدد الأمن القومي التركي، وذلك لتركز القواعد العسكرية التابعة للناتو في تلك المناطق علاوة على ظهور الاتجاه الامريكي الموجه للقرار السياسي التركي آنذاك علاوة على تفشي الفساد الاداري في أروقة الحكومة وتدخل اعضاء البرلمان في الحزب الحاكم في أمور شخصية تهدف الى الإثراء السريع بواسطة صفقات مشبوهة وتفشي الرشوة بينهم مما أدى الى تحرك الجيش بانقلاب دموي عام 1960م راح ضحيته رئيس الوزراء عدنان مندرس ووزير خارجيته وعدد من رجال حزبه البارزين وتم اغلاق الحزب الديمقراطي نهائيا واعلان الحكم العسكري برئاسة الجنرال جمال كورسيل والذي كان متشبعا بأفكار أتاتورك، ويوصف بالتبعية للسيد عصمت أينونو زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض والذي أصبح أول رئيس وزراء تحت حكم الجيش. وبدأت مرحلة عسكرة الجهاز الاداري وامتد ذلك لتعيين عدد من الضباط المتقاعدين في مناصب خاصة في ادارات البنوك والشركات الحكومية وفي الجهاز الدبلوماسي ايضا. وبدأت حركة واسعة من التغييرات الاقتصادية في سيطرة الدولة على الشركات الكبيرة وتحديد الملكية الزراعية باصدار قانون الاصلاح الزراعي الذي صادر الاراضي الزراعية الواسعة من الملاك السابقين والمنتمين للحزب الديمقراطي المنحل. وعادت سياسة الاقتصاد المغلق وتنظيم حركة العملات الاجنبية بقانون يحظر تداولها داخليا، إلا عن طريق البنك المركزي والذي يحدد سعر صرف الليرة التركية بسعر أربع عشرة ليرة مقابل الدولار الواحد ويتعرض للمساءلة المدنية كل من يعثر بحوزته عملات أجنبية غير مسجلة حين دخوله حدود تركيا. ومع هذه الاجراءات المشددة على تداول العملات الأجنبية ظهرت عملية تداول العملات بالسوق السوداء وبسعر مرتفع للعملات الاجنبية عن السعر المعلن من قبل البنك المركزي التركي.
وتعرضت تركيا لسياستها المغلقة هذه لضغوط أوربية قوية مطالبة بعودة الديمقراطية وعودة الجيش لثكناته وتشكيل الاحزاب السياسية والعمل على تحقيق الانفتاح الاقتصادي، ولتزايد الطلب على نشوء أحزاب جديدة من الداخل وافقت الحكومة العسكرية على فتح الطريق لمزاولة الأحزاب لنشاطها السياسي وتمثلت هذه الفترة بتعدد الاحزاب حتى غيرت نتائج أول انتخابات برلمانية بعد الانقلاب لضرورة ائتلاف أكثر من حزبين لتأليف الوزارة. وفي هذه الفترة بزغ نجم مهندس شاب ترأس حزب العدالة السياسي وليصبح سليمان ديميريل رئيس ادارة المياه في انقرة أول رئيس حكومة تحصل على أغلبية واسعة بعد انضمام معظم أعضاء الحزب الديمقراطي المنحل لهذا الحزب الجديد وأصبح الدخول في الاتحاد الأوربي استراتيجية جديدة لتركيا تتبناها جميع الحكومات التركية. ومنذ ذلك التاريخ بدأت الحكومات المتتالية تحاول جاهدة استغلال كل علاقاتها مع الدول الأوربية وبالذات المانيا وفرنسا وايطاليا من أجل تسهيل ترشيح تركيا للدخول الى الاتحاد الاوربي ويلاقي طلبها دوما بفيتو يوناني يقف حاجزا أمام الرغبة التركية في المجتمع الاوربي بسبب مشكلة قبرص من جهة وبسبب قضية الأكراد الانفصاليين عن الوطن الأم تركيا وأسباب اقتصادية اخرى تتعلق بدخل الفرد التركي المنخفض وأسباب اخرى تتعلق بالنظام الاقتصادي بأكمله. وفي الثمانينات قامت حكومة توركوت أوزال بإعلان إجراءات اقتصادية هامة بالنسبة لطلبات أوربا لتسهيل دخول تركيا الاتحاد الاوروبي ولكنها كانت مؤثرة سلبيا على الاقتصاد التركي وتسببت في خلق مشاكل كبيرة من عجز في الموازنة العامة وتدهور سعر الليرة التركية وارتفاع نسبة التضخم مما سبب أزمة اقتصادية حادة تعيشها تركيا حاليا، فسياسة الانفتاح الكلي أدت الى ظهور عدد كبير من البنوك الخاصة ودور الصيرفة والتي هربت بموجوداتها وقروضها من العملات الصعبة إلى خارج تركيا. وحسب تعليمات صندوق النقد الدولي تحملت الحكومات تبعات هذه البنوك الخاصة والتي أعلنت افلاسها واحدا بعد الآخر مما تسبب بخروج عملات صعبة وبكميات كبيرة من البنك المركزي التركي وأثر بذلك على سعر الليرة التركية والتي كان سعرها في عام 1958 تسعة ليرات للدولار الواحد أما اليوم فسعر الدولار مقابل الليرة يبلغ 000.400.1 ليرة تركية (مليون وأربعمائة ليرة تركية). ومن هذه المقارنة البسيطة يلاحظ القارىء الكريم مقدار تضاعف سعر الصرف ومعه ارتفاع شديد في نسبة التضخم الاقتصادي علما بأن معظم الصناعات التركية صناعات تجميع ومحدودة على الاستهلاك المحلي أي بالليرة التركية ولها تأثير سلبي آخر على الوضع النقدي التركي لان معظم اجزاء السيارة مثلا تستورد بالعملة الصعبة وتباع في الداخل بالليرة التركية. وقد أوصى صندوق النقد الدولي اجراءات عديدة إذا نفذتها الحكومة التركية الحالية تسهل لها ادارة الصندوق الدولي قروضا مالية تصل الى ثمانية عشر مليار دولار لتساعد اقتصاد تركيا على الوقوف على قدميه وتعدل قيمة الليرة التركية المنهارة والتي أدت بالتالي الى انهيار سوق الأوراق المالية.
ان تعليمات ونصائح صندوق النقد الدولي لم تساعد اقتصاد تركيا من الخروج من أزمته فسيطرة الحكومة على البنوك الخاصة زاد من قيمة التعهدات الحكومية لتسديد القروض المهربة الى الخارج وبالعملات الصعبة كما أوجد حجما كبيرا في النفقات الشهرية كرواتب ومصاريف أخرى لمنسوبي هذه البنوك وضخ مليارات الدولارت في الداخل لتحسين قيمة الليرة التركية لم يعط أي نتائج ايجابية بل جاء بنتائج عكسية حيث أخذت الليرة في التدهور السريع امام العملات الاجنبية والسبب في ذلك هو ميل الميزان التجاري لصالح الدول المصدرة على حساب تركيا التي بلغت وارداتها اكثر بكثير من صادراتها. لذا يجب على المسؤولين عن تنظيم الاقتصاد التركي حاليا ومنهم السيد كمال درويش وزير الدولة للشؤون الاقتصادية والخبير السابق في صندوق النقد الدولي تجنب القروض الخارجية والالتفات الى التمويل الذاتي لدعم قيمة الليرة التركية فمن المعروف ان هناك اكثر من أربعة ملايين عامل تركي في المانيا وبعض دول الاتحاد الاوروبي ومدخولاتهم السنوية تصل لاكثر من عشرة مليارات دولار ويمكن تشويق هؤلاء العمال للاستثمار في بلادهم الأصلية المحتاجة جدا لعونهم، وتستطيع الدولة منحهم تسهيلات اقتصادية عديدة تشوق مدخراتهم للدخول للاقتصاد التركي وتساعد على إنمائه في بيعهم اراضي زراعية حكومية بالعملة الصعبة وبأسعار مغرية ووضع تعليمات تهدف الى تقليل الرسوم الجمركية على البضائع المرافقة لهؤلاء المهاجرين الاتراك من عمال ورجال اعمال وايضا منحهم فرص تشويقية في الاستثمار السياحي وبيع أسهم الدولة في الشركات العامة ايضا بالعملات الصعبة واتخاذ إجراءات مالية مشددة بعدم استيراد السلع ذات الترفيه العالي والتي لها مثيل في الانتاج المحلي كأنواع الجبنة والشوكلاته الاوربية والسجائر وما ماثلها من سلع غير ضرورية والتي تكلف اقتصاد تركيا أكثر من ملياري دولار سنويا ثم العمل على تحديد أسعار الفنادق والمراكز السياحية وتذاكر الطيران والسكك الحديدية والبواخر بالدولار حتى تضمن من جهة تدفق عملات أجنبية للاقتصاد الداخلي وثبوت اسعارها من جهة اخرى.
أما ربط اقتصاد تركيا بقروض مالية اجنبية قد تقيد قراره السياسي وتعمل على تدهور اقتصاده. ان امام صانعي القرار السياسي في تركيا جهات عديدة غير الغرب فتركيا تعتبر الدولة الأم للجمهوريات الاسلامية التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي مثل تركمنستان وأذربيجان وأوزبكستان وغيرها من الجمهوريات الاسلامية الناطقة باللغة التركية والتي تربطها علاقات مميزة بتركيا والتي تحتوي أراضيها ثروات طبيعية غنية مثل البترول والغاز الطبيعي والمعادن الاخرى. ويمكن تنشيط الصادرات التركية نحو أفريقيا وآسيا وبالذات دول العالم الاسلامي والعربي والتي ترحب بكل توجه تركي نحوها واود ان اذكر هنا بأن أكثر من تسعين بالمائة من مساحة تركيا في آسيا والشعب التركي المسلم بتاريخه الموروث عن الخلافة العثمانية التي وصلت جيوشها الى مشارف فيينا بعد ان هيّأ الله للخليفة محمد الفاتح بتحطيم قلعة القسطنطينية المحصنة وأصبحت أسطنبوك بشطريها الآسيوي والأوروبي عاصمة للدولة العثمانية وتحولت كنيسة أياصوفيا المشهورة الى مسجد صلى به محمد الفاتح وجنوده. ان تركيا بوضعها هذا وبالمشاكل السياسية المزمنة ووضعها الاقتصادي الذي يمر بأزمة شديدة حاليا لابد أن تعلم بأن الغرب غرب والشرق شرق ولا يمكن أن يلتقيا وستبقى عربة تركيا وحيدة في المحطة الأوربية الأولى بعد أن وصل قطار الاتحاد الاوروبي الى محطته الاخيرة.
|
|
|
|
|