| وَرّاق الجزيرة
لقد أصبح من المعلوم بداهة ان الإنتاج الثقافي يعد مؤشراً دقيقاً لقياس الحياة العقلية لدى الشعوب والأمم ودرجة نضجها، ومعياراً صالحاً للحكم على المستوى الحضاري الذي بلغته هذه الشعوب والجماعات.
ولست في حاجة إلى ايضاح مدى الارتباط العضوي الوثيق الذي يصل ما بين الثقافة والحضارة، فبينهما من الأواصر والوشائج ما يرقى إلى وصف الثقافة بأنها تشكل فصلاً ثابتاً من فصول الحضارة الإنسانية على مر العصور، وإن شئت فقل: هي الفصل الأول من قصة الحضارة. تلك هي الثقافة كما نفهمها، ممارسة حضارية، وعملية إبداعية راقية، وقبل ذلك وبعده هي منحة إلهية للعالمين، ونعمة انعمها الله تباركت أسماؤه على البشرية لتساهم في تحقيق الهدف الأسمى من استخلاف الإنسان وهو إعمار الأرض بعد اخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وينبغي ألا نعجب من استئثار العمل الثقافي بهذه المهام الجليلة، فهذا الميدان الرحيب إنما هو مرآة صادقة تعكس هموم الإنسانية وآلامها وآمالها وتطلعاتها، ففيه يسعى الإنسان إلى اكتشاف ذاته وتقويم سلوكه وتصرفاته، وفيه يتحسس الإنسان مشكلات عصره بيقظة ذهنية عالية وحس ناقد مستبصر، ثم يجتهد بعد في استئصال هذه المشكلات أو تحجيمها والتخفيف من غلوائها، ولعل استشراف المستقبل وتصور آفاقه يعد عملاً ثقافياً محضاً.
وإذن فالثقافة تتسم بالطابع الاستكشافي الذي يميز مناهجها ويحدد غايتها النهائية، ولكن ما بالنا نتحدث عن بطولة الثقافة وعبقريتها بمعزل عن المبدعين من الكتاب والمثقفين؟
وماذا عن اكتشاف المثقفين أصلاً ؟
وماذا عن عملية التجييل الثقافي؟
أليس من المنطقي ان تحتل هذه «القضية» مكان الصدارة قبل الحديث عن ألف باء الثقافة؟ أجل، والله، فتلك مهمة عظيمة وواجب فكري ألقاه الوطن الغالي على أعناق المثقفين وكبار الكتاب.
إننا موقنون تماماً بأن تكوين المثقف او صناعته عملية شاقة تستغرق وقتاً طويلاً من عمر الإنسان وهي بعد لا تنتهي في وقت معلوم، بل يظل المرء ممسكاً بقلمه متأبطاً كتبه ودفاتره كلما كان قادراً على القراءة والكتابة، ونحن مؤمنون بأن اكتشاف المواهب الثقافية وصقلها لا يخضع ابداً «ويجب ألا يخضع» للعلاقات الشخصية والمجاملة والرياء أو نحو ذلك من الآفات البغيضة، وإنما يتقرر ذلك وفقاً للموهبة والاستعداد الذاتي والحماسة الكافية، وهي صفات تتوفر بحمد الله لدى العديد من أبناء وطننا العزيز ممن يشتغلون في جانب من جوانب الفكر والثقافة، وإنما يفتقر هؤلاء إلى عامل معنوي مهم جداً، وهو التشجيع والثناء الصادق والمتابعة المستمرة لأعمالهم وكتاباتهم وتقويمهم بشكل موضوعي وبلا تهوين أو تهويل.
إننا نشعر ان ثمة تقصيراً واضحاً من جانب السواد الأعظم من الأسماء المرموقة في الميدان الثقافي تجاه هذه الغاية النبيلة، وإلا فما بالهم يحيل بعضهم إلى كتابات بعض، ويتقارضون الحمد والثناء تارة ويتبادلون النقد والهجاء تارة أخرى، دون أن يكون للناشئة من ذوي المواهب العلمية والثقافية نصيب من مطارحاتهم؟.
وماذا نقول عن فئات من المثقفين يستنكف أحدهم ان يسأله صحفي عن موقع داره ليزوره فيها بقصد إجراء حوار معه، فقد كان من الحق على هذا الصحفي «الخشن» ان يكون على معرفة مسبقة بمنزل جناب المثقف!، أو يسأل اناسا ليدلوه عليه!.
أليست هذه غطرسة فكرية واستعلاء مقيت؟
أوليس هذا احتكار للثقافة واحتقار لطلابها؟ إننا نتمنى على البعض من كتابنا في الصحف السيارة ان يبادروا إلى تخصيص جزء من المساحة المتاحة لهم للتعريف بالأجيال الصاعدة في المجالات العلمية والفكرية وتقديمهم إلى جمهور القارئين.لقد كنا إلى وقت قريب ولانزال نستمتع بأحاديث الذكريات التي تجريها وسائل الإعلام مع رجال خدموا هذا الوطن المحروس في مجالات عدة بما فيها المجال الثقافي، وقلما تخلو أحاديثهم الشيقة عن عبارات التقدير والعرفان لأولئك الذين وقفوا إلى جانبهم في بداية الطريق، وما نخشاه حقاً هو ان تجف هذه المعاني العظيمة فلا نجد لها أثراً في أحاديث مثقفي الغد، إذ ليس عندهم فيما يرون نعمة تجزى لأحد من أسلافهم في هذا المجال الحيوي.
*جامعة الملك سعود
|
|
|
|
|