| مقـالات
كان المستقبل وما زال يشكل هاجساً مرافقاً للإنسان منذ الخليقة إلى يومنا هذا، وقد حفل التاريخ القديم بمجموعة من المحاولات البدائية لقراءة هذا المستقبل من قبل الكهنة والعرافين والمنجمين وغيرهم، فكانت عبارة عن محاولات خارجة عن الأطر والقواعد المنهجية والعلمية.
وحين جاء الاسلام أفاض علي البشرية نعمة التكامل في النظرية والعمل، فقدم الرؤية الصادقة في استشراف المستقبل ودفع نحوها في إطار بناء المستقبل الاسلامي المشرق، الذي يحقق للإنسان هدفه في الاستخلاف وإعمار الأرض وبناء الدنيا للآخرة، فصرف الأنظار عن المناهج الخرافية التي اتبعها الانسان فيما قبل.
وإذا كانت الدراسات المستقبلية تمثل بحثاً في الظواهر المستقبلية ودراستها في تكويناتها الجنينية الموجودة في الواقع المعاصر، فما هي إلا محاولة لفهم المستقبل من حيث صورته الأساسية وقواه الفاعلة ليس لمجرد الفهم، وإنما لممارسة شيء من التحكم والتوجيه بالعوامل المختلفة المشكلة لهذا المستقبل، كأن تعزز عوامل تدعيم الكيان الاجتماعي والحضاري وإضعاف العوامل والقوى المضادة لذلك وهي في مراحلها الأولية.
وهذا يعني أن دراسة المستقبل ليست ضرباً من ضروب الترف الفكري المحايد أو نوعاً من الممارسة العلمية الجافة، كما يدعي البعض، بل هي عمل علمي يجمع بين المعيارية والواقعية.
وقد حظي ويحظى علم المستقبل أو الدراسات المستقبلية في الغرب، باهتمام واسع باعتباره بعداً من أبعاد الدولة والعلم في المجتمعات هناك، فهو مرتبط بمختلف نواحي الحياة بالاقتصاد والديموغرافيا والعلم والتقنية والثقافة ونمط الحياة والسيطرة على الآلة والفضاء» الأمر الذي يكسبه صفة الشمولية، إذ إن الأمر متعلق بمفهوم الفكر الغربي المعاصر للتاريخ والزمن والحركة والعلم والطاقة والانسان. فالغرب تجاوز الاهتمام بالماضي والحاضر وركز اهتمامه وجهوده على المستقبل على اعتباره امتداداً جديداً للزمن الماضي والحاضر معاً، مع أهمية التأكيد على عنصر الزمن، إذ إن الحديث عن الزمن الثقافي والزمن الاجتماعي والزمن الفيزيائي/ الطبيعي والزمن التاريخي والاقتصادي بات أمراً طبيعياً، نتيجة ارتباطه الوثيق بالاقتصاد والتقنية والعلم، إلى حد أن الاهتمام بالخيال العلمي أمسى من الحقول الإبداعية العامة.
إن القضايا الفكرية والاستراتيجية هي المحور الرئيس لدراسات مستقبلية مؤسساتية غربية همها الشاغل إشكالية التقدم في إطار العالم المفتوح أو«عالم بلا حدود» كما تطلق عليه. وهي بذلك تستشرف المستقبل القريب والبعيد، عبر جملة من التنبؤات«المشروطة» شاملة للسمات الأساسية لأوضاع مجتمع ما في مرحلة من مراحله التاريخية، وتنطلق هذه الاجتهادات والدراسات لفهم وتحديد معالم المستقبل من افتراضات عديدة خاصة بالماضي والحاضر، كي تستكشف أثر دخول عناصر مستقبلية على المجتمع. وهي لا تهمل في تحليلاتها المعطيات المتغيرة في المجتمع والطبيعة مثل« الثروات الطبيعية وعلاقة الانسان بالطبيعة ودور العلم والتقنية في التنمية أو علاقة الفن والثقافة والتعليم بالازدهار الحضاري..»، كما أنها مهتمة أيضاً بالفضاء والجغرافية العالميين، فبالرغم من النشأة الأوروبية للدراسات المستقبلية إلا أن آسيا والشرق عموماً إضافة إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، بتجاربها الحضارية القديمة والحديثة وبالاشكاليات التي تطرحها في التاريخ المعاصر، تعتبر عنصراً أساسياً وبعداً مركزياً في فكر واستراتيجية الغرب وفي دراساته الاستشرافيه. وفي هذا الإطار يحتل الوطن العربي مكانة متميزة في الفكر المستقبلي الغربي باعتباره مخزناً للنفط والوقود على المدى الطويل.
إذن فالدراسات المستقبلية معنية بدراسة عناصر الحركة العامة في العالم المعاصر، وهذا يفرض على الجميع عملية الالتحام بمنطق التاريخ في عالم أصبح التغير المعرفي والتنظيمي والفني سمة بارزة من سماته. من هنا يمكن القول إن علم المستقبليات في الفكر العربي المعاصر لم يحظ بالاهتمام الواجب بالرغم من تهيئ الأسباب العديدة الداعية إلى العمل والتأسيس لمستقبل يرسمه هذا الفكر، وألا يكون مفروضاً عليه من قبل الآخر، فاستشراف المستقبل هو عملية علمية شاملة واعية وحركة مستمرة في ظل ما يحدث من غزو حضاري وتحديات كامنة تتربص بالأمتين العربية والاسلامية.
لكن هذا العلم المستقبلي مازال محل جدال وسجال مستمرين، فثمة من يربطه بظواهر سلبية عديدة ومرفوضة جملةً وتفصيلاً مثل«التنجيم والرجم بالغيب والتنبؤ وغيرها من أمور العرافة». ولعل مرد هذا الربط أو الخلط هو الشعور بصعوبة دراسة المستقبل على اعتباره أمراً غيبياً، وأن الأمور المتصلة والمتعلقة به غاية في التعقيد. ونحن نقر أن«علم الغيب» الذي يتمثل في معرفة ما سيكون دون استدلال ولا علل ولا مسببات لا يعلمه أحد من الخلق، لا منجم ولا عراف ولا عالم، بل ولا ملك من الملائكة، فعلم ذلك عند الله عز وجل وحده وهذا لا ينكره عاقل.
إلا أن دراسة المستقبل في الجوهر ليست كذلك، فهي فحص منهجي وعلمي لظواهر حاضرة ذات تكوين يمتد في الماضي، وهي معنية بما يتصل بالأفعال الإرادية أو الاختيارية الناجمة عن تخطيط واع يأخذ في حساباته مجموع العوامل والمعطيات المتوافرة حاضراً والمحتملة مستقبلاً ، والمبنية على العقل والمنطق والحسابات الدقيقة وعلى العلم وقوانينه ومبادئه، واستناداً إلى التجارب البشرية المتراكمة على مر العصور، مع إيماننا العميق بقوله تعالى «.. ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء».
وثمة فريق آخر يربط التقاعس عن الدراسات المستقبلية بعجر الفكر العربي عن تكوين رؤية مستقبلية واضحة للأمة، معتمداً في ذلك، على أن نشوء هذا العلم في العالم الغربي هو وليد تقدم علمي وتقني، إذ إن علم المستقبليات يعتمد بصور أساسية على دراسة الماضي والحاضر، وعبر جملة من المعطيات الحاضرة والمتحركة يتم التأسيس ووضع الخطط للتصورات المستقبلية. فإذا كان الوضع العربي الراهن هو وضعاً مأزوماً يعاني العجز والتخلف والضعف، فالأولى أن نسعى لامتلاك الطاقات العلمية اللازمة للتحكم بمسارات حاضرنا قبل التفكير بالسيطرة على مسارات المستقبل، وكيف يمكن التأسيس انطلاقاً من واقع مهلهل؟ وما هي المعطيات الايجابية والعلمية المتوافرة التي تساعد في وضع رؤية مستقبلية أكثر إشراقاً من هذا الواقع؟، خاصة وأننا نعيش في لحظة تاريخية مثيرة للجدل الفكري والانساني، في طبيعة المشهد البشري المأزوم على مستوى الانسان وأشكال علاقته مع الآخر، ومع الطبيعة وعناصر الحياة الأخرى. بهذا المعنى فإن الحديث عن المستقبل ممكن لمن رتب بيته في الحاضر والماضي، كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري أن الأمر يختلف بالنسبة الينا نحن العرب، فنحن لانزال نعيش ماضينا في حاضرنا، ويضيف الجابري: ... «إن المستقبل يحيلنا إلى الماضي، والحاضر تشدنا حباله، أو بعضها على الأقل، إلى الوراء شداً، وفي الوقت نفسه تتزاحم الأحداث، في وطننا العربي وفي العالم ككل، لتدفع بنا إلى المستقبل دفعاً. كل ذلك يجعل من الحديث عن المستقبل عندنا، في هذه المرحلة من تطورنا، حديثاً عن الماضي والحاضر في الوقت نفسه».
وتأسيساً على هذا فإننا حين نفكر في مستقبلنا فإننا نستحضر ماضينا بشكل لا إرادي. وقد يكون هذا مبرراً، خاصة وأننا نتكئ على ماض مشرق، شهد تكون حضارات مهمة جداً ولعل أهمها على الاطلاق الحضارة الاسلامية التي جعلت منا«خير أمة أخرجت للناس». ولكن ما ليس مبرراً هو أن تبقى علاقتنا بالماضي علاقة ذاتية وجدانية بعيدة عن الفهم والفحص الموضوعي الذي يحيلنا بدوره، إلى وضع إشارات استفهام وتعجب كبيرة أمام هذا الماضي المجيد«أسباب توقفه وعدم استمراره وكيفية الاستفادة من كل ماهو مضيء فيه؟». كل هذه أسئلة مشروعة تساعد في تصحيح علاقتنا بماضينا لتكون أكثر توازناً، وتمكننا من السبل الكفيلة بفهم واقعنا الراهن وأسباب ترديه، وبالتالي العمل على النهوض بأعبائه ومتطلباته، الأمر الذي يشكل قاعدة ثابتة وواعية لبناء مستقبل مختلف وواعد للغد الانساني.
وفي الختام لابد من التأكيد على حقيقة أن الفرد لا يعيش حاضره وحسب، بل يحلم لمستقبله أيضاً، وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمعات وعلى الدول ككل، ولكن بقدر ما استطاع هذا الفرد تلمس السبل العلمية والأسس المنهجية في التفكير والتخطيط، كلما اقترب حلمه من الواقع، على اعتبار أن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك الامكانات والسبل الكافية والكفيلة بجعل مستقبله إما أكثر إشراقاً وإما أكثر ظلمة. وبالتالي فهو ملزم قبل كل شيء بامتلاك رؤية مستقبلية مرتكزة على أسس علمية ومعطيات ملموسة، للتعامل مع الزمان بأبعاده الثلاثة التي تمثل كائناً موضوعياً واحداً، يتواصل فيه الماضي بالحاضر وينتقل الحاضر عبر حركته المتواصلة نحو المستقبل.
|
|
|
|
|