| شرفات
تحول كروبتكين الأمير الروسي والضابط بالجيش القيصري إلى شخص آخر فجأة! فاهتمامه بالتاريخ الطبيعي وعلم الجغرافيا جعله يقوم بجولات عديدة في أنحاء سيبريا ومنشوريا، وقد خرج منها بأمرين لا ثالث لهما: أن العلم ضرورة حيوية، والمعرفة قوة هائلة لرقي جميع البشر، أما الأمر الآخر فيتمثل فيما شاهده من أحوال الناس البسطاء وما يعانونه من فقر وآلام.
كان أمراً محزناً فجّر بداخله طاقة الغضب والتحول والإحساس بالذنب، فكتب موبخاً نفسه: «بأي حق أستمتع بهذه المسرات العليا والشقاء حولي ضارب بأطنابه، وكل من أرى يجاهد في سبيل الحصول على كسرة خبز عفن، على حين أن كل ما أنفقه ليمكنني من أعيش هذه العواطف السامية لابد أن يكون منتزعاً من أفواه هؤلاء الذين يزرعون الغلال ولا يجدون من الخبز ما يكفي لإطعام أطفالهم؟
وإيمانا منه بحق هؤلاء في حياة كريمة تطوع نيابة عنهم لكتابة التقارير والشكاوى إلى المسؤولين وإلى الهيئات وإلى الحكومة في العاصمة. لكن منذ متى كانت تجدي الشكاوى؟ ومنذ متى كان المسؤولون يستجيبون؟ كل ما كتبه من صفحات كان بلا جدوى ولا يساوي ثمن الحبر لأن أفراد الحكومة دأبوا على الاستفادة من بقاء الوضع على ما هو عليه مع تجنب تهييج الشر الكامن قدر الإمكان!
هذا الوضع المأساوي لن يتغير إلا بالثورة ولا شيء آخر. وبالفعل انضم كروبتكين إلى الثوار والمناوئين للحكم القيصري منذ عام 1872م وسافر إلى غرب أوروبا منضماً إلى رؤساء الثورة في المنافي ما بين سويسرا وبلجيكا، وهناك يتعرّف على زعيم الفوضويين باكونين مواطنه الثائر والمبشر باشتراكية حرة.
ومنذ هذا التعارف أصبح باكونين الزعيم الملهم وكروبتكين بما له من باع علمي هو المفسر والشارح الأعظم للمذهب الفوضوي المناوىء لتعاليم ماركس، ثم عاد كروبتكين إلى روسيا يستنهض همم العمال والفلاحين ويبصرهم بحقوقهم ويعلمهم مبادىء القراءة والكتابة. وهو يعلم مسبقاً بخطورة ما يقوم به.
انتهى به هذا الدور التبشيري إلى حياة قاسية في عتمة المعتقلات والسجون إلى أن تمكن من الهرب بعد عامين. فوصل إلى بريطانيا ومنها راح يصوب طلقاته نحو روسيا القيصرية من خلال مقالات انتقادية عنيفة. ثم انتقل إلى سويسرا لكنه ارغم على المغادرة عقب مصرع القيصر الكسندر الثاني رغم أنه لم يشارك في مؤامرة الاغتيال، لكنه على وجه العموم من ألد الخصوم!
خرج مرغما إلى فرنسا بحثاً عن مكان آخر يحتمله ويحتمل أفكاره وتنظيراته لكنه سرعان ما اعتقل وأودع في السجن قرابة أربعة أعوام، إلى أن نجحت احتجاجات المفكرين في الإفراج عنه ومن هؤلاء الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو.
من معتقل في روسيا إلى معتقل آخر في فرنسا، ومن الطرد والنفي خارج سويسرا إلى البحث عن مأوى في عاصمة الضباب لندن، حيث وجد الفرصة سانحة لنشر تعاليم الفوضويين في بلاد الإنجليز، كما أسس مجلة ومطبعة الحرية.
لأول مرة في حياته يذوق طعم الحياة الآمنة ويعكف على الدراسة والتأليف، تحدوه رغبة عارمة في تأسيس علم اجتماع قائم على أسس علمية بدلاً من مناصرة المذاهب المختلفة دون دليل. وفي سبيل هذا الطموح ألف كروبتكين عدداً من الكتب المهمة مثل: «غزو الخبز» و«الحقول والمصانع والمعامل» ثم كتابه الأهم: «التعاون المتبادل».
جاءت أفكار كروبتكين واضحة وشجاعة ومتسقة مع مبادىء أستاذه باكونين. فهو يهاجم الرأسمالية لأنها تسببت في مظالم جائرة وأخفقت في عدالة التوزيع، ويهاجم اشتراكية ماركس «الحكومية» لأنها أسهمت في مزيد من السيطرة للدولة وانتقصت من حرية الأفراد دون أن تزيد من رخائهم.
كما شن هجوماً ضارياً على ما يروجه هؤلاء المنظرون بشأن الإنتاج الزائد عن الحاجة، ويقول: إذا كانت بريطانيا تصدر فائض الفحم فهذا لا ينفي وجود ملايين من سكان الجزر البريطانية محرومين من النيران والدفء في الشتاء، تماماً مثل صانع الأحذية الذي يسير حافياً لأنه ببساطة الذي يستطيع أن يدفع ثمن الحذاء الذي صنعه بيديه بسبب ضعف الأجر!
وفي سياق آخر هاجم كروبتكين أفكار دارون بشأن التطور وتنازع البقاء وأعد فصولاً مطولة ومعززة بمئات الشواهد من عالم الحيوان وعالم النبات (وهو خبير قديم بالتاريخ الطبيعي)، مؤكداً في البداية أنه لا ينفي وجود مبدأ التناحر والتنافس من أجل البقاء لكنه ليس المبدأ الأهم أو العامل الوحيد لتفسير التطور.
ويطرح بدلاً منه مبدأ التعاون المتبادل باعتباره الأهم والأبعد أثراً في تقدم الإنسانية، فالحيوانات تعيش جماعات مع بعضها على سنة التعاون، وفي أوقات الخطر يتجلى تضامنها وتضحياتها بذاتها، كما يتعزز مبدأ التضامن من خلال تضامن الأجناس الأضعف بحيث تتمكن من هزيمة الأقوى.
هكذا أتاحت له حكمة الكهولة أن يفند مقولات القرن التاسع عشر (ماركس ودارون وسميث) وأن يظهر ما تنطوي عليه من زيف، في محاولة منه لكتابة سفر جديد للأخلاق يوائم قرنا جديداً. أخلاق ترتكز على التعاون والمشاركة الحرة لأنه لا المذهب الفردي ولا اشتراكية الحكومة بقادرين على تحقيق أحلام المجتمع.
وصف الناقد الأشهر هربرت ريد كتابه عن الأخلاق بأنه لم يكتب في تاريخ الأخلاق أحسن منه. وكانت أفكاره في الكتاب تتأسس على مبادىء التعاون والشعور بآلام الغير والعدالة وإدراك حاجات الآخرين. وحين هبت ثورة البلاشفة عام 1917م عاد المنظر الفوضوي إلى الوطن في الخامسة والسبعين من عمره، وهو يظن أن الثورة سوف تحقق أحلامه على أرض الواقع.
والحقيقة المفجعة أن الحزب الشيوعي لم يكن أرحم بالناس من القيصر الغابر، بل ربما كان الحزب أكثر طغيانا وإهداراً للحرية، ولأنه محتج عظيم وقف معترضا مرتين على أساليب الحزب الوحشية في تصفية الخصوم، وربما ولا شهرته وشيخوخته لزج به إلى المعتقل مع المئات من المعتلقين.
أدرك كروبتكين أن الجسد لم يعد يتحمل التصدي لحكومة أسكرها حب القوة، فآوى وحيداً إلى قرية ديمتروف النائية المنعزلة يقرأ ويكتب على ضوء مصباح هزيل وفي النفس مرارة وغصة.. بانتظار الموت!!
شريف صالح
|
|
|
|
|