| الثقافية
تتميز عيادات المستشفيات بالإزعاج العفوي.. شاب يدفع والده على كرسي متحرك.. طفل يبكي بحضن والدته.. شاش يغطي جبين مصاب.. عامل تنظيف يمسح البلاط.. مريض يطرق باب عيادة طبيب بعنف طالباً سرعة إدخال المرضى، والحر يلفح الناس لتعطيل التكييف.
أثناء الزحام وتوافد المرضى للعلاج خرجت ممرضة ممشوقة القوام تتلفت حاملة ملفاً أصفر مليئاً بالأوراق الملونة وصور الأشعة السوداء.
مستر «كركوز»؟
يقوم «مركوز» بعد ان اعتاد سماع هذا الاسم البغيض إلى نفسه منذ أن قدم إلى المستشفى قبل عام ونصف، وحينها تشاجر مع مشرف العيادات عندما دعت الممرضة باسم «كركوز» ولم يجب ظناً منه أنهم ينادون شخصاً آخر يدعى بهذا الاسم مما أدى إلى فوات موعده.
يدخل «مركوز» عيادة طبيب الباطنة بغضب الحر والانتظار.. يشمر عن ساعده ليسمح للممرضة بقياس الضغط وهو منزعج.. حاول أن يحكي للطبيب عن معاناته قبل الدخول.. لكن الطبيب قاطعه فقد سمع الكثير من القصص المملة والتي لا شأن له بها، وأغلق له فمه بمقياس الحرارة.
يكره «مركوز» مقياس الحرارة ويحس أنه يقلل من هيبته خصوصاً وأنه قبل على العقد السابع، مسمياً الجهاز ب«لهاية الرجال».
يحس «مركوز» أن عروق يده نشفت نتيجة قوة ضغط الجهاز.. تقرأ الممرضة القياس، وتعيد قراءته من جديد.. يصرخ في هذه الأثناء «مركوز» بعد أن رمى مقياس الحرارة جانباً.
ما هذا؟ ماجابلي الضغط إلا أنتم.. ساعة على قياس الضغط.. ما بكم رحمه.. عصرتو يد الشايب خافوا الله.
يزيل الطبيب نظارته عن عينيه، ويقوم بقياس الضغط بنفسه.. تهمس الممرضة في أذن الطبيب وهو يقيس.. ترتسم علامات الذهول على وجه الطبيب.. يظهر الارتباك في حركاته..
أحس «مركوز» من تصرفات الطبيب أن هناك خللاً في جسمه.. أعاد الطبيب إحكام الجهاز ونفخه ببطء شديد، وبتركيز عميق أخذ يراقب صعود ونزول الزئبق.. بعد أن انتهى من قياس الضغط وأزال قبضته الضاغطة نظر إلى «مركوز» ثم سأله:
هل تحس بصداع أو ألم؟
أجاب بتذمر:
أحس بدوخة من «مطرستكم».. أنتم المرض بعينه.
وأخذ يصرخ في وجه الطبيب بصوت عال يسمعه كل من في الممر الخارجي إلى أن أغمي عليه.. وضعه الطبيب والممرضة على السرير بسرعة، ثم قاما بإعطائه بعض المحاليل الوريدية لخفض الضغط القابل للانفجار.
أمر الطبيب الممرضة بإبلاغ أقسام التنويم لحجز سرير.. أحس «مركوز» بعد أن أفاق قليلاً من نبرة الطبيب للممرضة أن خطراً ما يترقبه.
وش صار يادكتور؟
ننسق مع الأقسام الداخلية لحجز سرير لك.
قام مركوز من سريره باضطراب مخيف قائلاً:
لن ادخل المستشفى مهما كان حتى ولو كان موتي يتربص بي.
ينزع «مركوز» حقنة المحلول التي وضعت في يده.. يسيل الدم على ساعده.. تحاول الممرضة أن توقفه بوضع قطعة قطن.. يرفض «مركوز» معتمدا على إبهام يده في موضع الحقنة.
يتوتر الطبيب ويواجه «مركوز» منفعلاً في اضطراب.
ما فعلته يا «مركوز» يضر بصحتك.. أنت مريض بالضغط، وبحاجة إلى تنويم ليومين على الأقل.
لله. لن أدخل التنويم.
ألا تعلم كم هو مرتفع ضغطك؟
لا يظهر «مركوز» مبالاة بحديث الطبيب، ويتشاغل بلبس حذائه وشماغه والنظر في ساعته.
ضغطك 300/200!
يمط «مركوز» شفتيه قائلاً:
وش عاد.
أصر الطبيب على تنويمه لكنه رفض.. مع سبق الإصرار.. حاول الطبيب غاية جهده وفشل.. استدعى الطبيب المشرف الاجتماعي للحديث مع «مركوز» بحكم خبرته في كيفية التعامل مع عسف المرضى الممتنعين عن دخول التنويم وإجراء العمليات الجراحية.. يمسك المشرف بيد «مركوز» ويخرج به من العيادة متجهاً إلى مكتبه، وسط الممر الطويل المليء بالمرضى الجالسين على الكراسي بجانب النوافذ المطلة على الحديقة يحملقون في البلاط اللامع.. ينظر «مركوز» للمرضى بتأمل مليء بدعاء بالشفاء، مستغرباً من طول الممر.. يصلان المكتب ويطلب المشرف له الشاي وبابتسامة عريضة يقول له:
وش اسم الواد يا «مركوز»؟
«عمعوم».
يابو «عمعوم» أنت مثلك فاهم ولا يحتاج لتعليم.. الضغط عندك مرتفع وأنت تدري وش راح يصير لك بعدين.
إيه أدري.
مادام تدري كلها يومين عندنا ترتاح وبغرفة لحالك.. لا ولك وعد مني إن القهوة والشاي عندك بكل وقت.. حتى «المرقوق» و «الجريش» اللي يجي من عند أهلك وعيالك يدخل عندك ولو كان حاشي!! وش تبي غير هذا.
تسيل دمعة من «مركوز» متخطية تجاعيد وجهه.. تتبعثر ملامح الحزن في أجزاء جسمه، وتأخذ الكآبة مجراها في تصرفاته أمام المشرف.. يردد وصوته يتسم بانفعالات جياشة كأنه في عزاء.
أي أهل تحكي عنهم؟
أهلك.. عيالك وجماعتك أو..
يقاطعه «مركوز».
مابه أحد.
أجل وين عمعوم؟
مات من سبع سنين.
والبقية وينهم.؟ قصدي عيالك وبناتك؟
ماعندي إلا ثلاثة وغدان.. وهم الحين يتحروني بيت الشعر.. وما عندهم إلا أمهم العميا، وزوداً على عماها مشلولة وما تقدر على الحركة ياالله الحبي.
طيب وين قرابتك اللي يساعدونك في غيبتك؟
كلهم تخلو عني لأني تزوجت من مرة عميا!! عابوا علي وتركوني لحالي.. ما صدقوا يوم قلت لهم إن وناستي لما أكون عندها.. ضحكوا علي.. تصدق أني خليتها تشوف نور الحياة.. كانت تشوفن لحالي من بين خلق الله.. تعرف ملامح وجهي، ونظرات عيوني، وتوجس حيرتي، وتعرف من قرقعة قلبي كثير وأنا أبوك.. كنا ليا جلسنا فوق الطعس أحس أني بجنة.. كلن يمازح خويه مثل رجلاً يلاعب وغيده.. خلتن أفوز بكنوز الدنيا وكل مابه.. ياخوي حنا نعيش حياة حلوة بالحيل بعيده عن وذا الناس ومشاكلهم حتى بجلستنا بالصحراء.. ملحه وزينه يقلب رمال النفود إلى روضة تلاعبه الغزلان.
لكن ياعمي من يقوم بمعونتك بالدنيا؟
أنا لحالي.
كان الله في عونك.. الحين عرفت ليش ما ودك التنويم بالمستشفى.. لكن اللي أبيه منك ياعمي أنك توقع على ورقة بالخروج على مسؤوليتك.
عندما أحضرت الممرضة ملفه تبين أن الأوراق جميعها تحمل توقيعات «مركوز» للخروج على مسؤوليته!!
وقع «مركوز» كما هي عادته عند دخوله المستشفى، بعد أن ودعه المشرف الاجتماعي بحرارة متمنياً له الشفاء العاجل، وهو يطلب منه المواظبة على تناول علاج الضغط الذي صرفه له الطبيب.. منبهاً على ضرورة قدومه للمستشفى عند نفاد العلاج.
بينما المشرف يقوم بعمله في مكتبه.. سمع ضجيجاً عالياً على غير العادة في ممر المستشفى، خرج وشاهد الأطباء خارج عيادتهم.. الناس في صراخ وذهول.. ركض المشرف فإذا «مركوز» ساقط على الأرض والدم يجري من أنفه على بلاط الممر اللامع.. الأطباء حوله.. أدخل العناية المركزة.. كان المشرف قلقاً على حال «مركوز» وزوجته العمياء.. وماهي إلا ساعة حتى أعلن الأطباء موت «مركوز»!
عاد المشرف إلى مكتبه عبر الممر فوجد دماء «مركوز» متناثرة تحمل معاني القوة والشجاعة.. أحس بحرارة الدم على البلاط.. عبر الدماء رأى صورة أبنائه ينتظرونه بلهفة العاشق فوق أحد التلال الرملية، وزوجته تتقطع من الصبر منتظرة أن يزف لها أحد أبنائها بشرى وصول زوجها.
عاد المشرف بحزن مطبق إلى مكتبه وسحب ورقة بيضاء من الدرج كتب عليها «ممر مركوز» وعلقها في مكان بارز في منتصف ممر المستشفى الطويل.
|
|
|
|
|