| مقـالات
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكنا ألفت ولا سكنا |
قال الجاحظ في رسالة الحنين إلى الأوطان: «كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه».
فأكدوا أن الوطن يبقى أولاً تحت أي سماء، وفي أي أرض، وأن الوطنية أسمى من انتماء دون تضحية ورؤية مسؤولية لمعطيات الماضي والواقع والمستقبل في ظل غرائز ودوافع فطرية تمثل قمة العطاء غير المحدود وغير المشروط تأصيلا في تراثهم الجيني المعتمد على إيديولوجيا سامية لمجموعة من الأفكار والمواقف والولاءات النزعات العاطفية تجاه الأرض والتاريخ.
الوطن في العربية كما جاء في لسان العرب: هو المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله، ووطن المكان وأوطن أقام متخذا إياه محلا وسكنا يقيم فيه. والقرآن الكريم أثبت هذا المبدأ العظيم من خلال معادلة بين الوطن والحياة في قوله تعالى:« ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم مافعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا».
ومن خلال معادلة أيضاً بين الحرمان من الوطن وسفك الدماء في قوله تعالى:« وإذا أخذنا ميثاقكم لاتسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون، ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتفكرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون».
الوطنية فطرة عظمها الإسلام ورفع من شأنها ولذلك اتفق الفقهاء على أن العدو إذا دخل دار الإسلام يكون قتاله فرض عين على كل مسلم، ويؤكد ذلك التقدير والتعظيم حنين الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة مكرها فقال بعد التفت إليها: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» ولم ينس مكة على الرغم من قساوة قريش في سؤاله ابان بن العاص عندما قدم إلى المدينة مهاجرا فقال: يا أبان، كيف تركت مكة؟ فقال: تركت الآذخر وقد أعزق ،والثمام وقد أورق كناية عن الربيع فاغرورقت عيناه الطاهرتان صلى الله عليه وسلم وكان قبله سيدنا يوسف عليه السلام قد أوصى أن يحمل جثمانه من مصر ليدفن في فلسطين، ورفض فرعون ذلك،. وبعد هلاكه وجنوده في اليم، حقق سيدنا موسى عليه السلام وصية يوسف فحمل جثمانه من مصر إلى فلسطين ليدفن بقرب والده يعقوب عليهما السلام.
إن مبدأ الوطنية لا ينكره عقل، ولا يرفضه لبيب، إذ هو سنة من سنن الأنبياء وقد كان في الماضي تعتمد على الانتماء العرقي إذ تحدد الأراضي حسب وجود القبائل فيقال بلاد بكر، وبلاد تميم، ولم يكن هذا مقتصراً على العرب بل إن هنغاريا سميت بذلك نسبة لقبائل الهنغار بعد قدومها من أواسط آسيا. وكذلك بلغاريا نسبة إلى قبائل البلغار والجرمان في ألمانيا. وأكثر ما يؤثر فيها ويلهب نارها الاعتماد على ما تعرضت له المجموعة من مآس وكوارث ، كما حصل للشعوب الأرمنية والكردية ، بل إن الزعماء يذكرون شعوبهم بالمآسي التي حصلت لهم ليذكوا في صدورهم نار الوطنية، وهل يخفى على أحد اعتماد إسرائيل على مذابح الهولوكست على يد النازية تأكيدا للاضطهاد المزعوم في صورة فستولوجيا سياسية تقوم على الإيحاء التاريخي بكل أدواته الإيديولوجية إلى درجة أنهم جمعوا بين نظريتين أساسيتين في تحقيق الوطنية: العرق والثقافة في حين أن الشعوب الأخرى تعتمد على نظرية واحدة مثلما وطنية فرنسا التي تعتمد على الثقافية تحقيقا للوطنية عن طريق اللغة دون غيرها.
وأما في الإسلام فقد امتزج الانتماء الإسلامي بالانتماء الوطني تحقيقا لخلافة الإنسان في الأرض، بعد أن رفض كل الفلسفات التي تقوم على معايير فاسدة مؤكدا أن أكرم الناس عند الله أتقاهم في ظل وحدة العقيدة والشريعة والأمة، ولم يغفل أهمية الموقع، فجاء الأثر العظيم «حب الوطن من الإيمان» قال الزركشي: لم أقف عليه وقال السيد معين الصفوي: ليس بثابت، وقيل: إنه من كلام بعض السلف، وقال السخاوي: لم أقف عليه، ومعناه صحيح، قال المنوفي: ما ادعاه من صحة معناه عجيب، إذ لا ملازمة بين حب الوطن والإيمان، ويرده قوله تعالى:
«ولو أنا كتبنا عليهم» فإنه دل على حبهم لوطنهم مع عدم تلبسهم بالإيمان، إذ ضمير «عليهم» للمنافقين، وتعقبه بعضهم بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن إلا مؤمن، وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان. ويؤكد صحة الأثر السابق قوله تعالى:« ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا».
الوطن ليس حنينا إلى مرابع الصبا والذكريات كما قال ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا |
بل إنه أسمى وأجمل إذ لابد من تفاعل حيوي معتمد على إدراك ومسؤولية في تحقيق الرفعة والسمو من خلال تطبيق الواجبات الوطنية العامة والخاصة..
إنه باختصار انتماء فريد وإحساس يرقى بالإنسان إلى شرف التضحية، والوفاء بالمال والدم والروح، ولا يكتفي بهذا الإيثار بل يجب أن يكون ذلك في لذة وإقدام.
الوطن ليس زيا ولهجة وجنسية فقط، إنه الانتماء الشريف والأمومة الحانية، والصدر الذي يحتاج الإنسان أن يضع رأسه عليه ليجد يدا كريمة تمسح عن ذلك الجبين حرارة الآهات ومرارة المصائب.
الوطن ليس قانونا يثقل كاهل الإنسان بالمواد والفقرات والسجون والمخالفات، إنه شيء لا يمكن أن يحس به إلا من فقده ولا يقاس ميزان الوطنية عند الشعوب المتمدنة بمدى الاستفادة المادية من الأرض التي يجب «أن يعطيها ويعطيها ويعطيها»المواطنون دون تفكير في مقابل ذلك العطاء.
الوطن ليس كما قال أبو الطيب المتنبي:
وما بلد الإنسان غير الموافق
ولا أهله الأدنون غير الأصادق |
ولا عجب أن تكون فلسفة الوطن في فكر أبي الطيب هذه الصورة التي تعشعش في ذهن أولئك المرتزقة الذين يأتون إلى مكان ما دون شعور بوطنية ذلك المكان، وقد قضى جل حياته يبحث عن المنصب والجاه عند سيف الدولة الحمداني تارة وعند كافور الاخشيدي تارة أخرى.
وأين هو من وطنية ذلك الأعرابي الذي ساق قصته المبرد في الكامل مؤكدا أن الوطنية صبر على قساوة الأرض في لذة مقاومة عوامل التعرية، إنه فضل البقاء على المغادرة والرحيل بحثا عن الهواء العليل والنسيم والانتصار على قسوة الطقس بالهروب من الوطن .
قيل لأعرابي: كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل شيء ظله؟ قال: «وهل العيش إلا ذام يمشي أحدنا ميلا، فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، ويجلس في فيه يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى».
ماهذه الوطنية التي تتحدى أغسطس ولسع شموسه في حكاية أكبر من أي تفسير أيديولوجي للمشاعر والولاء والنزعة العاطفية والوقوف لنشيد العلم.
الوطن ليس كما قال عبدالصمد بن المعذل:
إذا وطني رابني
فكل بلادي وطن |
إذ لا تتفق ذلك مع الفطرة التي تؤمن بالانتماء للأرض والأهل في ظل هوية أصيلة وعقيدة مقدسة وثقافة لا تؤمن بالتضاد والعنصرية والأنانية.
إن أكبر ما يهدد النسيج الوطني المتشابك تقسيمه إلى فئات ودرجات يشعر بعضها بفوقية على بعضه الآخر وخير دليل على ذلك التجربة الروسية الأرثوذوكسية في عهد القيصرية التي قمعت الشعوب غير السلافية وغير الأرثوذوكسية فأبادت الشعوب الشيشانية، وكذلك التجربة النازية والفاشية التي احتقرت مواطنيها من غير العرق الآري.
وبكل أسف أن ما انتشر في بعض البلاد العربية يدخل تحت ما يهدد النسيج الوطني على المدى البعيد، إذ يمكن أن يستغل من مرضى النفوس في بعث فتنة نائمة قد تستيقظ ذات يوم مهددة المصلحة الوطنية العليا، وهذا يذكرنا أيضا بوجوب أن يكون الحس الوطني شاملا مختلف المذاهب والمعتقدات دون تمييز وممارسته لسلطة قمعية تنطلق من خصوصية محدودة.
إن المواطنة الحقة قيم ومبادئ وإحساس ونصيحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وعزة موالاة وتضحية وإيثار والتزام أخلاقي عقدي للفرد والجماعة، إنها شعور بالشوق إلى الوطن حتى وإن كان في مرابعه كما قال شوقي:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه بالخلد نفسي |
الإنسان غير المنتمي يشعر بالضياع والهلاك والخوف، والفشل والنقص ويكون أداة من أدوات التخلف التي تقف عائقا أمام تطور المجتمع، قال مالك بن نبي:
فالمجتمع المتخلف ليس موسوما حتما بنقص في الوسائل المادية، وإنما بافتقار الأفكار يتجلى بصفة خاصة في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه، بقدر متفاوت من الفعالية، وفي عجزه عن إيجاد غيرها، وعلى الأخص في أسلوبه في طرح مشكلاته أو عدم طرحها على الإطلاق، عندما يتخلى عن أي رغبة ولو مترددة بالتصدي لها« وهذا يؤكد ضمنا أن انحسار الوطنية في النفوس يصيب الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالشلل مما يؤثر في الكائنات الحية التي تعيش على هذه الأرض تأثير سلب يقف أمام المشروعات التنموية التي تعد ضرورة للميلاد الحضاري لأي أمة، ولذلك نحن بحاجة ماسة الى ترسيخ العقيدة والمبادئ في برامج التربية ومناهجها، وزرع الانتماء الصادق ابتداءً من دور الأسرة التي تبث المثل العليا والقيم الرفيعة والإحساس الوطني في الناشئة وانتهاء بدور وزارتي المعارف والإعلام التي يجب أن تركزا على التربية الوطنية في المدارس والبرامج من خلال نظرة خاصة تتطلبها المرحلة القادمة التي ستكتسحها العولمة المهددة للسيادة الوطنية، كان يجب أن تكون الوطنية سلوكا ابتداء من البواب وانتهاء بالمدير الذي يؤكد على المدرسين ضرورة ممارسة الوطنية أمام الناشئة في كل المواد «تاريخ وجغرافيا وكيمياء ورياضيات وتوحيد.. الخ وعدم الاقتصار على تلك المادة التي قررت مؤخرا في «45» دقيقة، وحثهم على التمسك بمبادئ المجتمع المتمدن من خلال التالي:
1 السمع والطاعة لولاة الأمر، والبعد عن كل ما يثير الاختلاف والفتنة انطلاقاً من قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا أطعيوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» قال ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله نزلت هذه الآية في الرعية من الجيوش وغيرها عليهم أن يطيعوا ولاة الأمر الفاعلين في ذلك في قسمهم ومغازيهم وغير ذلك إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي حديث الحارث الأشعري الذي رواه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن:
السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» لأنه بطاعة ولي الأمر تنتظم أمور الدولة وأحوالها فيحصل التماسك والأمن والاستقرار، وهذا من أعظم المطالب في الشريعة الإسلامية.
2 التركيز على مقومات المواطنة الصالحة وتربية المواطنين على أن كل واحد منهم رجل أمن في حيزه الذي يشغله ومواجهة الإشاعات والحملات المشككة بإيمان راسخ وعقيدة راسية وعقلية مقدرة لأهمية التماسك والاجتماع وبصيرة بخطورة عدم الاستقرار والتطرف والغلو.
3 ضرورة ربط الشباب بالعلماء الثقات إذ بين الشاطبي رحمه الله إن أول الابتداع والاختلاف المذموم في الدين المؤدي إلى تفرق الأمة شيعا، وجعل بأسها بينها شديداً أن يعتقد الإنسان من نفسه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين، وهو لم يبلغ تلك الدرجة فيعمل على ذلك ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا.
4 الحث على بث الوعي الوطني وتعزيز الثقافة الوطنية والأمنية بالتركيز على أهمية المملكة العربية السعودية إقليميا وعربيا وإسلاميا ودوليا وحث المواطن على الحفاظ على مدخرات هذا الوطن ومؤسساته وأجهزته وسمعته ومشروعاته التي وفرتها الدولة للمواطنين حرصا منها على راحتهم وحثه أيضاً على طهر المجتمع وصيانته من الأمراض الاجتماعية والأخلاق الذميمة.
5 التركيز على أن ما تتعرض له المملكة العربية السعودية من إشاعات ناتج عن تمسكها بالكتاب والسنة وتطبيق حدود الله في الأرض ليعيش الإنسان في طمأنينة واستقرار.
أيها السادة:
لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تنتزع شرف الوطنية من روح كائن ما: لأنها إحساس في الذات ولذة في التضحية لا يمكن أن تخضع لرغبات الآخرين.
والله من وراء القصد..
adbullahthani@hotmail.com
|
|
|
|
|