| شرفات
يولد بعض الناس معاقين، في حين تلحق الاعاقة ببعض آخر.. وقد تقمع الاعاقة شهية الشخص للحياة فلا يقبل عليها ويعيش في كمد يتنازعه كمد آخر إلى أن يكتب له الرحمن مخرجا ربما من قبل ذويه وربما من قبل فئة خيّرة من مجتمعه وربما بإصراره هو على كسر طوق الاعاقة أياً كانت هذه الأعاقة.. وفي كتابه القيم «أشهر المعوقين في العالم» كتب الأستاذ زهير جمجوم سيرة لماحة مركزة لعدد من أولئك الصامدين في وجه الاعاقة بلغوا خمسين فرداً من الشرق والغرب، قديماً وحديثاً.. وهو كتاب جاد يكاد فيما نظن أن يكون الأول من نوعه عربياً وقد وعد الاستاذ زهير بجزء ثان له، لعله قيد الصدور، أو أنه صدر فلم يصل الينا بعد.. ولعل خير وسيلة لابراز الاسلوب الذي قدم به الاستاذ زهير شخصياته وكيفية الحديث عنها بتكثيف وإيجاز وأمانة هو أن نقدم واحدة منها كمثل، هو ريتشارد فافرو الرسام الأسكتلندي ونترك الحديث له.. يقول:
ولد ريتشارد سنة 1952م بعلل متعددة، فهو شبه فاقد للبصر، مصاب بداء السكر، متخلف عقلياً، وبقي لا ينطق كلمة مفهومة حتى بلغ سن الحادية عشرة وبعد سبعة أشهر من ولادته خضع لجراحة في عينيه بقصد مكافحة الزَرَق، تلتها عمليات ثلاث في غضون سنة ونصف السنة. وكان طفلاً شديد الاهتياج لا ينام سوى ثلاث ساعات يومياً، وفي نهاية السنة الأولى من عمره كاد الطفل أن يقود أمه إلى الانهيار، فنصحها زوجها بالراحة والانشغال بعملها، بعد أن يجدا من يعتني بالطفل.
وجد الوالدان ضالتهما في شخص امرأة رقيقة العواطف، قوية الصبر فأسندا إليها رعاية الطفل في المنزل، ومع ذلك كاد الوالدان يعجزان عن احتمال عذاب الطفل وعذابهما، خاصة في الليل، إذ كان يتنهد ويزعق ويهتز مضطرباً على الدوام، ويزحف إلى البيانو ليضرب مفتاحاً واحداً طوال ساعات. وفكر الوالد أحياناً كثيرة في إرسال ابنه إلى مؤسسة مختصة ليرتاح، ونصحه الأصدقاء بذلك. لكنه لم يقدم على هذه الخطوة، وكان الوالدان يقولان: الصبي ولدنا ونحن نحبه، وربما كانت عنايتنا ذات أثر في تحسن حاله.
عندما بلغ ريتشارد سن السادسة بات لا يرى إلا إذا وضع نظارته، ودنا كثيراً من الشيء الذي يود رؤيته. وقامت أمه بعرضه على مدرّسة وفنانة في مركز لتأهيل المعوقين بالقرب من مدينة« أدنبرة» وقالت المعلمة «ليشمان»: بدا العذاب واضحاً على وجه ريتشارد ، ورق قلبي للطفل ووالدته، ووعدتها بأن أبذل ما في وسعي للمساعدة.
خلق وجود ريتشارد في المركز مشكلة، إذ كان زعيقه يخترق آذان التلاميذ، ويشتت أفكارهم، وأحياناً كان يقف صامتاً وقد أسره منظر النور على قطعة أثاث براقة. وراودت المعلمة فكرة إعادة ريتشارد إلى والديه ونفض يديها منه، إلا أن ثمة شيئاً فيه جعلها كما تقول تقاوم تلك الفكرة، فقد أعطت «ليشمان» الصبي قلم رسم، لكنه رفضه ورماه، فأعادته إلى يده، وأعانته على حمله، وقامت برسم خطوط بارزة على ورقة بيضاء مثبتة على الطاولة وسرعان ما استوعب ريتشارد الفكرة واستحوذت عليه الألوان.
تقدمت «ليشمان» المعلمة يوماً لتنظر إلى خربشة أقلام ريتشارد، ففوجئت إذ رأته قد رسم لوحة انطباعية لمنظر يبدو أنه شاهده من حافلة المدرسة، ولم تذكر المعلمة الأمر لأحد، ظناً أنه مجرد مصادفة، إلا أن الورقة التالية حملت رسماً لا يقل عن سابقه جمالاً وروعة ويظهر فيه افتنان ريتشارد المعوق بالضوء واللون والحركة، وأخيراً حملت «ليشمان» بعض رسوم ريتشارد إلى زوجها الفنان دون أن تذكر له شيئاً عن عاهة الصبي، فقال الزوج إن صاحب تلك اللوحات يتمتع بموهبة عظيمة تفوق سنّه، وكانت تلك فاتحة عالم من السلام والخير في حياة ريتشارد، علماً بأن نوباته العصبية ونزعته الإنطوائية بقيتا على حالهما.
بدأ ريتشارد يتقن فنه ويستخدمه كأداة للتعبير عن ذاته دون توجيه من أحد. وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره قام «ماريان سيسكو»، مؤسس إحدى المدارس الفنية في لندن بزيارة أدنبرة، حيث شاهد ريتشارد وأعماله فصعق لعبقرية الفتى. وقال إن رسومه ظاهرة تفوق الوصف وإنها تزاوج بين« دقة العمل الآلي ورؤيا الشاعر».
عرضت لوحات ريتشارد للمرة الأولى وهو في سن السابعة عشرة، وقد كرس صاحب صالة مرموقة في أدنبرة قاعة كاملة من مؤسسته لتعليق عشرين لوحة من أعمال ريتشارد على جدرانها. يقول والد ريتشارد: حين رأيت اللوحات معلقة هناك لم أصدق عيني، وفي ليلة الافتتاح هرع ريتشارد إليّ قائلاً: «يا أبي لقد بيعت لوحة». وقد دفع أحد الزوار 16 جنيهاً ثمناً لتلك اللوحة التي أنجزها ابني المتخلف عقلياً، وأحسست بالرغبة في البكاء، وما كاد المعرض ينتهي حتى بيعت ثماني لوحات من أعمال ريتشارد.
يعتمد ريتشارد في رسوماته على مصادر وحي متنوعة، فهو يرسم أحياناً ما رآه بعينيه الضعيفتين، أو عبر منظار أثناء نزهاته مع أبيه وأخيه وتوفيت أمه بالسرطان عام 1979م ، وأحياناً يصور منظر بلدة رآها من نافذة سيارة أو سلسلة جبال لاحت له وهو يحلق بطائرة. ومن مصادره الأخرى برامج التلفزيون والكتب والمجلات التي يحملق فيها عن كثب لكي يراها جيداً، ويبدو أنه لم يكن ينسى شيئاً. ويقول «لورنس بيكر» وهو مستشار تربوي من ولاية تكساس الأمريكية، أنجز شريطاً وثائقياً عن ريتشارد: «إن ذهنه يشبه مكنسة كهربائية تمتص كل ما يأتي في طريقها، وهكذا يبقى كل شيء في عقله حتي يحين وقت استعماله».
لم يكن ريتشارد مجرد ناسخ لما يراه، فقد كانت لوحاته تنقل أفكاره ومشاعره وأخيلته، ولا تخلو أي من لوحاته من مصدر نور، سواء أكان الشمس المشرقة أو ألسنة النار، وهو يستهل عمل الرسم في البيت جالساً أو واقفاً أمام طاولة بالقرب من النافذة، ويروقه الإصغاء إلى الموسيقي الكلاسيكية خلال عمله، وتستغرق كل من لوحاته وقتاً يتراوح بين بضع ساعات وأربعة أيام، وفي تلك الأثناء تغدو اللوحة حياته، ويتوقف الزمن عن الدوران بالنسبة إليه، وينصب ذهنه كلياً على اللوحة حتى وهو نائم وأحياناً ينهض من فراشه في الثالثة صباحاً ويبدأ العمل.
كان ريتشارد يتأثر بانفعالات الآخرين تجاه أعماله كأي فنان وكلما عبر مشاهد عن إعجابه بإحدى لوحاته أشرق وجهه بالابتسام، وربما مد يديه إلى المعجبين علامة تقدير وفرح، وهو يجد كالانطوائيين تماماً صعوبة في التعبير عن أفكاره ومشاعره، إلا أنه أحياناً يستطيع تخطي ذلك الحاجز، وهو يقول:
«لكم هو جميل أن يكون المرء سعيداً، وإني أجد سعادتي عندما أخلق شعوراً حسناً لدي الآخرين، وهو شعور لا تخونني عيناي في إدراكه».
لقد علقت لوحات «ريتشارد فافرو» في أكثر من مائة معرض في أوروبا وأمريكا الشمالية، وبيع منها ما يزيد على ألف لوحة بأسعار تتراوح بين مائة دولار وألفي دولار، وهكذا أمكن للرسام الأسكتلندي المعوق ذي البنية الجسدية الضئيلة والعينين الزرقاوين والشعر الكستنائي الأشعث أن يدخل سجل الخالدين.
|
|
|
|
|