| مقـالات
كثير من أبناء وطننا العزيز يعشقون قراءة ما كُتب عن تاريخ هذا الوطن بمختلف جوانبه، لا سيما العسكرية والسياسية. وربما كان هذا العشق المؤدِّي إلى الإقبال على تلك القراءة سبباً من أسباب تدفُّق الكتابات التاريخية. ومهما كانت أسباب ذلك العشق وهذا الإقبال وهي مالايراد بحثها الآن فإن من المعلوم وجود اختلاف لدى القرَّاء من حيث فهم ما دُوِّن في الكتابات ومن حيث مقدار التأمل فيه.
وقد يخرج بعض القرَّاء بانطباع لا يتَّفق مع ما قصده الكاتب، بل قد لا يوُفَّق الكاتب نفسه في إيضاح الفكرة التي أراد التعبير عنها. ومن الأمثلة على إمكانية خروج القارئ، أحياناً ، بانطباع مغاير لما أراده الكاتب أن أحد الإخوة الأفاضل استنتج من قراءته لما دوَّنه كاتب هذه السطور في مؤلفه «تاريخ المملكة العربية السعودية» أن دور القبائل البدوية في نجد مع الملك عبدالعزيز أثناء تحرّكه لتوحيد البلاد قبل قيام حركة الإخوان العظيمة المهشورة لم يحظ بما يستحقه من اهتمام. ذلك أنه قد فُصِّل في ذكر المشاركين من حاضرة نجد، ولم يُفصَّل في ذكر المشاركين من باديتها. وضرب مثلاً للتدليل على صحة استنتاجه ماورد في الحديث عن ثلاث معارك هي البكيرية، وروضة مهنَّا، وجراب.
وكاتب هذه السطور يكنّ لجميع أبناء الوطن، حاضرة وبادية، كلَّ الودّ والتقدير. لكنه وهو يكتب تاريخاً، معتمداً على ماتوافر لديه من مصادر، لم يخف عليه كما لا يخفى على الكثيرين أن الدور الإيجابي للبادية في عمليات توحيد البلاد تحت رآية الملك عبدالعزيز كان بعد اعتناقها لحركة الإخوان أعظم وأوضح بكثير من دورها قبل اعتناقها تلك الحركة، وأن حرص الملك على اكتساب الأقاليم النجدية كان لا يقلُّ عن حرص خصمه حينذاك، الأمير عبدالعزيز بن رشيد، على الاحتفاظ بها. ومما يوضِّح حرص هذا الأخير تكثيفه للحاميات في الأقاليم النجدية، وبخاصة القصيم، لئلا تخرج من سيطرته.
ولعلَّ من المستحسن أن يشار، باختصار، إلى ما خرج به ذلك الأخ الفاضل من قراءته لما كُتب عن المعارك الثلاث المتحدَّث عنها في الكتاب المذكور سابقاً.
1 معركة البكيرية:
قال الأخ الفاضل: إنه فُصِّل، في كتاب تاريخ المملكة..، ذكر المشاركين من الحاضرة، ولم يُفصَّل ذكر إخوتهم من البادية. وقد يفهم من ذلك أن البادية كانوا قلَّة. والحقيقة غير ذلك. فقد ذكر الريحاني أن بوادي عتيبة ومطير جاؤوا كلهم متطوّعين مجاهدين، فاجتمع لدى ابن سعود في ستة أيام اثنا عشر ألف مقاتل.
والذي يرجع إلى الريحاني يجد أنه قد تحدَّث عن معركة البكيرية، التي حدثت سنة 1322ه، ثم تحدَّث عما أسفرت عنه من انهزام الملك عبدالعزيز، أو انسحابه، ثم ذكر ماحدث من مراسلات بينه وبين أهل بريدة وعنيزة وجهود قادة البلدة الأخيرة بالذات لإقناعه بالقدوم إليها. وذكر أنه لما قدم إليها قدَّموا له ما قدَّموا من مال ورجال حرب. ثم بعد كل ذلك قال:
«وعندما بلغ أهل نجد، خصوصاً بوادي عتيبة ومطير، هذا الخبر أي ما حدث له في عنيزة جاؤوا كلهم متطوعين مجاهدين». الخ
فما ذكره الريحاني عن سير معركة البكيرية شيء، وما قاله عن مجيء المتطوعين إلى الملك عبدالعزيز بعد انتهاء تلك المعركة وقدوم الملك إلى عنيزة شيء آخر. وبذلك يتضح أنه ماقاله الأخ الفاضل ليس في محل الاستدلال. ثم إنه حذف أول كلام الريحاني عن مجيء المتطوعين إلى الملك بعد قدومه إلى عنيزة وهو: «وعندما بلغ أهل نجد». وهذا الحذف قد يفهم بسببه أن الذين أتوا إلى الملك كانوا من بوادي عتيبة ومطير فقط. وهذا ليس مدلول كلام الريحاني.
وإذا اتضح ماسبق فإن كثيراً ممن درسوا كتاب الريحاني دراسة فاحصة يدركون أنه يبالغ، أحياناً، بحيث يصعب التسليم بصحة ماقاله عن بعض الأمور. وللتدليل على هذه المبالغة يحسن أن يشار إلى شيء مما قاله عمّا تلا معركة البكيرية ذاتها. فهل يظن أيّ قارئ أن كل أهل نجد، وبخاصة بوادي عتيبة الروقه وبرقاء ومطير، قد أتوا إلى الملك عبدالعزيز؟ وهل ماقاله عن غنائم معركة الشنانة، التي حدثت بعد معركة البكيرية في العام نفسه، ينطبق مع الواقع؟
لقد ذكر الريحاني أن نصيب الواحد من أتباع الملك عبدالعزيز من الذهب كان يتراوح بين المئة والمئة والخمسين ليرة عثمانية، ومن الإبل بين العشرة والعشرين بعيراً. وما دام عدد الذين أصبحوا مع الملك عبدالعزيز اثني عشر ألفاً فإن هذا يعني أن الذي غُنم من الخصوم من الذهب وحده مليون ونصف المليون ليرة تقريباً، وأن الذي غنم من الإبل مئة وثمانون ألف بعير.
إذاً كم كان مع خصومه من الإبل، ما غُنم منها وما لم يغنم؟
إن كتاب الريحاني فيه ماهو مفيد، لكنه أقرب إلى الرواية التاريخية منه إلي كتاب تاريخ واقعي. وفي سير الأبطال قد تكون الرواية التاريخية أكثر قبولاً لدى نفوس الكثيرين من التاريخ الواقعي المجرد.
والآن أستأذن القارئ الكريم في الرجوع إلى بعض المصادر لرؤية ما قالته عن معركة البكيرية. كان المؤرخ إبراهيم بن محمد القاضي ابن الشاعر المشهور محمد بن عبدالله صاحب قصيدة القهوة وغيرها من القصائد الجيدة من المعاصرين لتلك المعركة، كما كان جليساً لأمير عنيزة، عبدالعزيز بن سُلَيم، بحيث كان على معرفة تامة بما كان يجري حينذاك من أحداث. وقد قال عن سير المعركة باللهجة العامية التي كتب بها تاريخه ما يأتي:
«ابن رشيد شد متوجه للبكيرية. ابن سعود ظهر آخذ لوجه ابن رشيد ونزل الصبر، خب من خببة بريدة. فيوم شد ابن رشيد مقبل شد ابن سعود آخذ لوجه ابن رشيد. ابن رشيد نزل الشيحية أول النهار. ابن سعود يوم شد وصل البكيرية وسط النهار وإذا ابن رشيد معزل الجموع والطوابير. فيوم نزل ابن سعود زاقمه ابن رشيد في سرعة. ابن سعود خلى قومه ثلاثة أقسام هو وأهل الجنوب صاروا قسم وهم القبليين، وأهل بريدة وأهل القصيم قسم وهم الشرقيين، وأهل عنيزة قسم وهم الوسطيين، ابن رشيد خلى كل له قبيل حضر وعسكر وبدو. والحيمول القوي خلاه في وجه ابن سعود. ثم مشوا.
كل مشى على الثاني في آخر يوم من ربيع ثاني سنة 1322ه فصار كون هايل عظيم ما وقع في نجد قبله مثله. ثم لحم الكون واحتمى الوطيس بين الطرفين، واخترقت الأرض من شدة مانزل عليها. مبتدا الكون في وسط النهار. فيوم صار وجبة العصر وإذا الذي مع ابن سعود مرهوكين من شهدة المدافع وقوة الطوابير. انكسر ابن سعود، ثم قبلاه مشوا في اثره واطين جريرته. أهل عنيزة وأهل بريدة كسروا قبلاهم من حضر وبدو وعسكر، واستقفوهم بالبندق. ثم تالي بالسيوف. أهل حايل انهزموا، والذي صار بالملحمة العسكر. أهل القصيم استمروا في اثرهم إلى أن جاء الليل وهم يذبحون فيهم ما اطلعوا في انكسارة ابن سعود، وابن سعود ما اطلع في أمرهم. ابن رشيد تلافوا قومه على الشيحية في ليل. وأهل القصيم عودوا على البكيرية في ليل. ردوا معهم عسكر وأسرى وأطواب وعربيات وبغول..»
وقد كتب عن المعركة عبدالله بن محمد البسام، المتوفى سنة 1346ه، الذي ذكر الريحاني أنه استعان به عند مروره بعنيزة فكتب له لائحة بأسماء بلدان القصيم وسدير والعارض، كما ذكر أن الملك عبدالعزيز قال له عنه: إنه من العارفين المدققين. وقد قال البسام عن سير معركة البكيرية في كتابه «تحفة المشتاق»، تحقيق الخالدي، ص 394 مايأتي:
«ثم إن ابن رشيد ارتحل من قصيباء ونزل الشيحيات. فلما علم بذلك ابن سعود وأهل القصيم ارتحلوا من بريدة، ونزلوا على البكيرية، ونشب القتال بين الفريقين يوم تسعة وعشرين من ربيع آخر. وصار ابن رشيد ومن معه من الفداوية وأكثر أهل حايل والعسكر وبعض البادية في مقابلة ابن سعود ومن معه من أهل العارض والمحمل والوشم وسدير. وأما ماجد الحمود آل عبيد آل رشيد ومعه غزو بلدان الجبل وبعض غزو أهل حايل وبعض البادية فقابلوهم أهل القصيم. وصارت ملحمة عظيمة، وانهزم ابن سعود ومن معه، وقتل منهم عدد كبير. وأما أهل القصيم فإنهم هزموا ماجد آل حمود ومن معه، وقتل في هذه الوقعة ماجد آل حمود المذكور وقمندان العسكر، وقتل من العسكر عدد كثير. ثم أن أهل القصيم رجعوا إلى بلدانهم وأرسلوا إلى ابن سعود وكان إذ ذاك في المذنب بعد الهزيمة يستحثونه بالقدوم عليهم، فتوجه إليهم ونزل في بلد عنيزة».
ومن يقرأ قصيدة العوفي، وعنوانها «وقعة البكيرية» «ديوان النبط، نشر خالد الفرج، ج2 ، ص 276 278» يجد أن ماقاله عنها لا يخرج في مضمونه العام عما قاله القاضي والباسم. وكل هذه المصادر معاصرة لأحداث تلك المعركة. ويتضح أنها كلها ركزت على ذكر الحاضرة من الفريقين المتحاربين.
أما ابن هذلول، المتأخر زمنا عن تلك المصادر الثلاثة فقال عن البكيرية«تاريخ ملوك آل سعود ، ص 7» ما يأتي:
«زحف هذا الجيش الجرار مع ابن رشيد إلى بريدة وهو مؤلف من عساكر الترك النظامية وبادية شمر وحاضرة حائل وجميع توابعه وبادية هتيم وحرب، واستمر في زحفه ليهجم على مدينة بريدة من الجهة الغربية، فنزل القرعاء، فأخلى ابن سعود بريدة ونزل في قرية البصر، فارتحل ابن رشيد من القرعاء ونزل البكيرية. ثم انتقل ابن سعود من البصر ونزل مقابلاً لابن رشيد. واقترب الجيشان، ومشى بعضهما إلى بعض فتصادموا.. واتفق أنه عندما مشت جنود ابن سعود إلى المعركة أن جنود أهل القصيم يرافقهم عبدالعزيز بن جلوي حال بينهم وبين العدو نفود البكيرية. وعندما اعتدلوا إذا بجنود أهل العارض ومعهم عبدالعزيز قد تقهقروا. وقد تقدمت جنود ابن رشيد وعساكر الترك، فضربهم أهل القصيم من الخلف، قتلوهم قتلة عظيمة وأفنوا منهم خلقاً كثيراً، وغنموا جميع أسلحتهم ومدافعهم.
وهكذا يتضح أن ابن هذلول، أيضاً، كان تركيزه على الحاضرة تماماً كما هو الأمر لدى المصادر المعاصرة الثلاثة: القاضي، والبسام، والعوني. ومع أن الريحاني أشار إلى كون مطير مع أهل القصيم فإنه ختم حديثه عن المعركة قائلاً:
«على أن أهل القصيم عندما عادوا من إغارتهم على بادية شمر جاؤوا مركز ابن رشيد فوجدوا فيه المدافع وثلاث مئة من عساكر الترك فتواقعوا وإياهم وقتلوهم، فغنموا المدافع وظلوا في البكيرية. ولكنهم عندما طلبوا عبدالعزيز ولم يجدوه هناك حملوا الأسلحة الخفيفة، وعادوا إلى بلادهم، أي إلى بريدة وعنيزة».
ويرى القراء الكريم أن الريحاني رغم ما في كتابته من ضعف من الناحية التاريخية جاء تركيزه، أيضاً، على الحضر.
وأمام كل ما سبق من مصادر جاء سرد كاتب هذه السطور عن معركة البكيرية كما يأتي:
«كان الملك عبدالعزيز قد علم بحجم القوات التي أقبل بها الأمير عبدالعزيز بن رشيد إلى القصيم، وتابع تحركاته. فبعث إلى جميع أتباعه من الحاضرة والبادية يطلب منهم أن يوافوه بزيادة محاربين حتى اجتمع لديه عدة آلاف. ثم خرج من بريدة، ونزل البصر. ثم ارتحل إلى البكيرية حيث أصبح في مواجهة قوات خصمه.. وما كاد الملك عبدالعزيز يصل إلى قرب البكيرية حتى بدأ القتال بين الطرفين عند منتصف النهار. وقد ركز ابن رشيد وأتباعه هجومهم على الجهة التي كان فيها الملك عبدالعزيز ومن معه من أهل العارض وأقاليم نجد الواقعة جنوب القصيم. ولم يحل وقت صلاة العصر إلا وقد أنهك هؤلاء، خاصة من نيران المدافع التي أصابت شظية منها يد الملك اليسرى، فبدأوا ينهزمون، واقتفى أثرهم قوم ابن رشيد.
وكان أهل القصيم قد أحرزوا تقدما ضد من كانوا أمامهم من جيش هذا الأخير، وهزموهم، ولم يعلموا أن الملك ومن كانوا في جهته قد انهزموا.
وفي تعقبهم لمن انهزموا أمامهم وصلوا إلى أولئك الذين كانوا في ساقة المنهزمين من جيش الملك عبدالعزيز. ويبدو أن هؤلاء قد ظنوا أن الملك لم ينهزم حقيقة، وإنما عمل التفافاً حولهم، فانهزموا إيضاً أمام أهل القصيم.
وظل هؤلاء في أرثهم حتى حلول الليل».
وبذلك يتبين أن ما دوَّنه كاتب هذه السطور عن معركة البكيرية لم يخرج في مضمونه عما ذكرته المصادر المعاصرة لها.
|
|
|
|
|