| مقـالات
الصابرون والجازعون أمام حوادث الأيام وفاجعات الزمان يدركون - على السواء - أن الحياة تجري وفق إرادة إلهية عليا، لا سبيل إلى تبديلها أو تعديلها «جفت الأقلام وطويت الصحف».
وإنما اقدارنا - بحلوها ومُرِّها- ابتلاءات تتشكل منها أسئلة الاختبار الدنيوي للإنسان، والإجابة عليها تؤدي به إلى واحدة من طريقين: الهداية - هداني الله وإياكم إلى سبيلها، أو الغواية- أعاذني الله وإياكم من دربها-، وكل طريق تؤدي بصاحبها إما إلى النعيم وإما إلى الجحيم والعياذ بالله . وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للأشعث بن قيس: إنك إن صبرت إيماناً واحتسابا، وإلا سلوت كما تسلو البهائم»، وعن محمد بن كعب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أي رب أي خلقك أعظم ذنباً؟ قال : الذي يتهمني ، قال: ربِّ وهل يتهمك أحد؟ قال: نعم؛ الذي يستجيرني ولا يرضى بقضائي.
وإذا كانت النار قد حُفَّت بالشهوات فإن الجنة قد حُفَّت بالمكاره، ولا سبيل لطلاب الفوز في الآخرة على تحمل تلك المكاره والنأي عن الشهوات إلا الصبر الذي هو سهم لا يزيغ إلى قلب الجزع، ومطية لا تكبو بصاحبها في الطريق اللاحب المستقيم.
من هنا تأتي أهمية الصبر وفضله والذي هو حبس النفس عن الجزع الذي هو نقيضه، لذا فالصبر من أشق الأشياء على النفوس واختبار صعب للعزائم وقد وردت مادة الصبر في أكثر من مائة موقع من القرآن الكريم، تحث العبد أن يصبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وعن المناهي والمخالفات حتي لا يقع فيها، وعلى الأقدار والأقضية حتي لا يتسخطها. وفي الحديث الشريف « الطهور شطر الإيمان.. والصبر ضياء..».
يعني الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن معصيته والصبر أيضاً على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا، والمراد أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئا مهتدياً مستمراً على الصواب .. والصبر - كما يقول الإمام ابن القيم - ضربان: بدني ونفسي، وكل منهما نوعان: اختياري واضطراري، فالبدني الاختياري كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختياراً، والبدني الاضطراري كالصبر على ألم الضرب والمرض والبرد والحر، والنفساني الاختياري كصبر النفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعاً ولا عقلاً، والنفساني الاضطراري كصبر النفس عن محبوبها قسراً إذا حيل بينها وبينه، ويقول ابن عطاء: الصبر هو الوقوف على البلاء بحسن الأدب، وحقيقة الصبر كما يقول أبو علي الدقاق: أن لا يعترض على المقدور فأما اظهار البلاء لا على وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، واستدل الدقاق على ذلك بقوله تعالى في حق أيوب - عليه السلام- إنا وجدناه صابراً نعم العبد، وذلك مع قوله: أني مسني الضر، وإن كنت أنبه إلى أن إظهار البلاء هنا كان لله تعالى، وهو مقدمة للدعاء بأن يُعفي الله عنه، والقدر المقبول من إظهار المبتلى لبلائه قنَّنه رسولنا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- حين دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا الرسول تذرفان فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ قال: يا ابن عوف إنها رحمة وإن العين لتدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
ومما يطيِّب قلوب أهل المصاب أمران: الأول يتعلق بمن أصيبوا فيه فإنه لا خلاف بين الفقهاء على وصول الدعاء والاستغفار والصدقة وقضاء الدين وأداء الواجبات والأركان عن الميت إليه، وكذا أجمع أهل السنة والجماعة على وصول ثواب العبادات المالية المحضة كالعتق والصدقة ونحوهما، والأمرالثاني يتعلق بالأحياء من أهل المصاب أنفسهم، ففي الحديث الصحيح يقول الله تعالى «ما لعبد عندي جزاء إذا قَبضتُ صَفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة».
|
|
|
|
|