رئيس التحرير : خالد بن حمد المالك

أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 12th August,2001 العدد:10545الطبعةالاولـي الأحد 22 ,جمادى الاولى 1422

وَرّاق الجزيرة

الجدل الديني في الأندلس
قراءة في كتاب
بقلم الدكتور خالد عبد الكريم البكر
لا تزال جدلية «الإسلام الغرب» موضع نقاش خصب ومستفيض على مستوى النخب الفكرية في كلا الجانبين، فأشد المتحمسين للحوار الإسلامي الغربي يأمل في نحت صيغة توفيفية بين الطرفين، تفضي الى مستوى أفضل من الفهم والإدراك بينهما، لعل وعسى أن يستفيد المسلمون من منجزات الغرب المادية، وأن يكف الغرب بدوره عن التعبئة الإعلامية ضد الإسلام. في حين رأى آخرون أن مثل هذه الشعارات الحالمة لا تعدو كونها مجرد لغو من القول، وعبث في التفكير، فالمقارنة بين الإسلام والغرب عملية خاطئة وخطرة إذا لم توضع ضمن منظور تاريخي دقيق، لأن الإسلام دين، أما الغرب فهو مفهوم يدل على فضاء جيو سياسي وثقافي محدد.
ثم إن الحوار لا يكون إلا بين طرفين متكافئين، وهذا ما لا يتوفر الآن في طرفي المعادلة، فأحدهما يلزمه أولا بترتيب بيته من الداخل، ثم النظر في إمكانية الدخول في مثل هذه الحوارات الحضارية، في حين يزهو الآخر بما حققه من إنجازات مادية مذهلة، وبالتالي فهو لايرى نفسه مضطرا الى محاورة الآخرين.
وعليه، فإن الحوار ممتنع أصلا بين الطرفين، وسيبقى الشرق شرقا، والغرب غرباً، ولن يلتقيا. ولا تغرنك تلك الدراسات الشرقية التي أنجزها عدد من مفكري الغرب وباحثيه، فهي ليست شكلا من أشكال الحوار، وإنما هي نمط استعماري يهدف الى تقييم الشخصية الشرقية، واستخراج مكامن قوتها ونقاط ضعفها بقصد ترويضها وإحكام السيطرة عليها.
ومهما تكن وجاهة هذا الرأي أو ذاك، فإن من الجلي البيّن أن نفراً من المفكرين والباحثين المسلمين شرع في الإعداد لمثل هذا الحوار الحضاري المرتقب، إن لم يكن قد انغمس فعلا في عملية الحوار، والتفت فريق منهم بصورة خاصة الى الخلفية التاريخية لعلاقة الإسلام بالغرب، منبها الى أنه ثمة حوار إسلامي مسيحي جرى في فترات من تاريخنا الإسلامي، وفي أماكن متفرقة من دار الإسلام الفسيحة، فاستدعى صورا متنوعة وبالذات فيما يتعلق منها بالجانب الفكري من أنماط الجدل الديني بين المسلمين وأهل الكتاب، وذلك بغرض الاستفادة من الحجج والبراهين النقلية والعقلية، التي حاجج بها علماء الإسلام خصومهم.
ويجيء في هذا السياق كتاب «الجدل الديني بين المسلمين وأهل الكتاب بالأندلس» لمؤلفه الدكتور خالد عبد الحليم عبد الرحيم السيوطي. وقد صدر الكتاب في العام الجاري 2001م، عن دار قباء في القاهرة.
ولقد علّل المؤلف اختياره الأندلس لتكون نموذجا مكانيا لدراسته بقوله: إن الشرق والغرب التقيا على أرض الأندلس، ومن ثم تهيأت الفرصة للاحتكاك الثقافي بين أتباع الديانات الثلاث من مسلمين ويهود ونصارى. علاوة على أن بعض الشخصيات الأندلسية قامت بدور مهم في الدفاع عن الإسلام وإثبات صحة عقيدته، ونقد عقائد مخالفيه من أهل الكتاب.
غير أن مما يستلفت الانتباه هو أن المؤلف نزع في بناء دراسته الى الاستشهاد بشخصيتين أندلسيتين فقط، هما: ابن حزم، وابن أبي عبيدة الخزرجي. ثم أدار فصول الكتاب على جهودهما في محاججة أهل الكتاب في الأندلس، إما بواسطة التأليف أو المناظرة.
وقد ضرب المؤلف صفحا عن جهود آخرين من علماء الأندلس في هذا المضمار أمثال أبي الوليد الباجي «ت 474ه» الذي كتب رداً على رسالة راهب فرنسي الى المسلمين، وكذلك أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي «ت 671ه» صاحب كتاب «الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام»، وإن كان المؤلف قد أشار الى جهودها باقتضاب إلا انه لم يجعلهما ضمن الشخصيات المحورية في دراسته.
ثم إن الجمع بين ابن حزم وابن أبي عبيدة الخزرجي على صعيد واحد، يشي بعدم التوازن في الرؤية المنهجية للكتاب، فعلاوة على اختلاف عصريهما، إذ كان ابن حزم من أعلام القرن الخامس الهجري، بينما عاش ابن أبي عبيدة في القرن السادس الهجري، هناك تفاوت بينهما في المكانة العلمية، فابن حزم علم معروف في الأوساط العلمية والثقافية، وأما ابن أبي عبيدة فلا يعرف عنه سوى كتابه «مقامع هامات الصلبان ومراتع روضات الإيمان». والحق أن المؤلف اعترف صراحة بعدم التوازن هذا وبين ذلك في مقدمته.
وقع الكتاب في خمسة فصول، ففي الفصل الأول تناول المؤلف سيرة شخصيتي الدراسة وهما: ابن حزم، وابن أبي عبيدة الخزرجي ومصنفاتهما، فتوقف وقفات مهمة حول بعض القضايا العالقة في سيرتيهما، مثل قضية نسب ابن حزم الظاهري المتنازع عليها بين الباحثين، ورغم أن المؤلف لم يقطع برأي محدد في هذه المسألة إلا أنه ساق آراء حقيقة بالنظر في هذا الموضوع. ولم يكتف المؤلف في هذا الفصل بسرد سيرتيهما، بل مدّ حديثه ليشمل سيرة عصريهما، فأعطى نبذة موجزة ولكنها مركزة عن الأحوال السياسية لعصر كل منهما، اضافة الى ملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في القرنين الخامس والسادس الهجريين.
وجاء الفصل الثاني بعنوان «جدل علماء المسلمين لأهل الكتاب بالأندلس» إذ لا يخفى أنه يكتسب أهمية خاصة في الدعوة الى الإسلام، وفي إظهار روح التسامح الديني الذي يكفله الإسلام لأهل الكتاب، علاوة على أنه يعكس احترام الإسلام للرأي الآخر.
ثم إنه يكشف أيضا عن البراعة المنطقية لعلماء المسلمين في مجادلة مخالفيهم، ودورهم العظيم في الدفاع عن الإسلام، وردّ مطاعن أعدائه وإيضاح طبيعة عقائد غير المسلمين ومصادر انحرافها، مما يمكن القول معه بأن علماء الإسلام حازوا قصب السبق في تأسيس «علم الأديان المقارن».
ثم قدّم المؤلف في القسم الثاني من الفصل رؤية تاريخية لحركة الجدل الإسلامي لأهل الكتاب بالأندلس، مبيّنا أثر الانتشار السريع للإسلام في الأندلس في ردة الفعل المتعصبة التي قام بها قساوسة قرطبة ضد الإسلام والنيل من النبي صلى الله عليه وسلم واستتبع ذلك قيام حركة الشعوبية في الأندلس، فعرض لها المؤلف، ثم ألمّ إلمامة قصيرة بأهم المصنفات الجدلية الإسلامية لبعض أعلام الفكر والثقافة في الأندلس، فالمناظرات الدينية، الى أن اختتم الفصل باستعراض شيء من جدل المورسكيين للمحافظة على عقيدتهم الإسلامية.
أما الفصل الثالث فقد خصصه المؤلف للحديث عن جدل ابن حزم وابن أبي عبيدة الخزرجي لأهل الكتاب، مبينا أن أسباب انغماسهما في الجدل الديني، تكمن في الاقتداء بهدي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في دعوة أهل الكتاب الى الإسلام، ثم في التصدي لحركة التنصير بالأندلس، التي علا صوتها منذ القرن الخامس الهجري، مستفيدة من حالة الضعف السياسي والعسكري للمسلمين خلال تلك الفترة، ثم تتبع المؤلف أهم المصادر التي توكأ عليها كل من ابن حزم وابن أبي عبيدة في مجادلة أهل الكتاب، فوجدها مستمدة من: القرآن الكريم، والحديث الشريف، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، والكتب المقدسة عند اليهود والنصارى، والشعر، والخبر الشائع، بالاضافة الى مصادر علمية وفلسفية من تراث الهند واليونان.
ثم عقد المؤلف مبحثا ممتعا عن مفهوم الجدل وآدابه عند ابن حزم، فذكر أن ابن حزم أشار الى نوعين من الجدل: جدل مأمور به محمود شرعاً، وجدل منهي عنه مذموم شرعاً. والنوع الأخير على صنفين هما: جدل بغير علم، وجدل لنصرة الباطل، ثم أخذ في إيضاح أهم آداب الجدل كما يراها ابن حزم، ومنها: الرفق والتزام الحق، وكيفية وضع السؤال موضعه، وتحديد الموضوع المتنازع عليه، وتوفير الأمن للمتجادلين لئلا يمتنع أحدهما عن الجواب خوفا من شيء ما، والتحلي بالاختصار، وعدم دخول طرف ثالث بين المتناظرين، الى غير ذلك من التكييف المنهجي الذي رسمه ابن حزم لشكل الجدل وضوابطه في سير العملية الجدلية.
وإذ أفاض المؤلف في حديثه عن هذه النقطة فيما يتعلق بابن حزم، فإنه لم يذكر الشيء نفسه عن ابن أبي عبيدة الخزرجي، ولربما وهو الأقرب أنه لم يجد شيئا يكتبه عن الرجل في هذا الجانب، وذلك مما يؤيد القول بعدم التوازن بين شخصيتي الكتاب.
ولقد ناقش المؤلف في الفصل الرابع «موقف ابن حزم وابن أبي عبيدة الخزرجي من أهم قضايا الخلاف العقائدي بين المسلمين وأهل الكتاب» فتطرق الى نقضهما لعقيدة الألوهية لدى أهل الكتاب، وصلب المسيح، وساق ملحوظات ابن حزم عن مفهوم الألوهية في اليهودية، والذي يتسم بسمات شركية منها: إضفاء الصفات البشرية على الإله، أو «أنسنة الإله»، حيث وردت نصوص توراتية تحكي مصارعة يعقوب لله تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً ، كما أوردت التوراة نصوصاً أخرى تفيد أن الله جل وعلا يلحقه التعب والإرهاق كسائر البشر، مثلما جاء في قصة الخلق. وفي المقابل وجه ابن حزم نقدا لمفهوم «تأليه الإنسان» لدى اليهود. ثم مضى المؤلف يورد نقد ابن حزم لعقيدة التثليث والتجسد النصرانية، ونقده لدعوى صلب المسيح، فإذا فرغ من ذلك كله شرع في استعراض نقد ابن أبي عبيدة الخزرجي لعقيدة الألوهية لدى اليهود والنصارى، ونقده لدعوى صلب المسيح عليه السلام.
وفي القسم الثاني من الفصل الرابع استوفى المؤلف أدلة ابن حزم وابن أبي عبيدة على تحريف التوراة والإنجيل، وسلّط الضوء في القسم الثالث على جهود ابن حزم وابن أبي عبيدة في إثبات نسخ القرآن لأحكام التوراة والإنجيل.
واستغرق الفصل الخامس الحديث عن «مكانة جهود ابن حزم وابن أبي عبيدة الخزرجي في حقل الجدل الديني لأهل الكتاب»، وهي تتمثل في الردّ على شبهات اليهود والنصارى نحو الاسلام، لقد تمكن المؤلف من تحديد مدى الأثر الذي تركه كل من ابن حزم وابن أبي عبيدة في توجيه حقل الدراسات الجدلية نحو آفاق أرحب، وضرب أمثلة متنوعة على تأثر اللاحقين بأسلوب ومنهج ابن حزم وابن أبي عبيدة في تأليف كتب الجدل الديني.
ولقد نجح المؤلف ايضا وبصورة خاصة في إثبات ريادة ابن حزم في تأسيس منهج النقد التاريخي للأديان والقائم على النقد الداخلي والخارجي، معتبراً أن «سبينوزا الاسباني الأصل» والذي ينسب إليه هذا المنهج، لا بد وأن يكون قد اطلع على آراء ابن حزم، ولا سيما وأن سبينوزا ذهب في تخريج بعض نصوص التوراة، كما ذهب ابن حزم من قبل.
لقد استعمل المؤلف في دراسته هذه، منهجا تحليليا مقارناً، وانتهى الى مجموعة من النتائج والتوصيات، من أهمها: أن ابن حزم، وابن أبي عبيدة الخزرجي استطاعا أن يثبتا بمنهج علمي فساد عقائد أهل الكتاب، وأن كتبهم المقدسة قد نالتها يد التحريف.
ولقد طالبت الدراسة بزيادة الاهتمام بتاريخ المسلمين في الأندلس، ودعت الى الكشف عن مصنفات المسلمين الجدلية التي لا تزال مجهولة، كما أوصت بضرورة الاهتمام بعلم مقارنة الأديان في ظل ما يسود العصر من احتكاك الثقافات، وأخيرا طالبت الدراسة بعمل أطلس عقائدي للملل والديانات المنتشرة في العالم الإسلامي لاستكمال جهود من سبقنا في هذا المضمار من علماء المسلمين كالشهرستاني، وابن حزم الظاهري.
ويحسن بنا قبل إغلاق الكتاب، أن ننبّه الى بعض الأخطاء العلمية اليسيرة التي وقع فيها المؤلف الكريم، وهي على النحو الآتي:
1 جاء في «ص20» أن ابن حزم حمل على الخليفة المنذر بن محمد «ت 275ه» فوصفه بأنه كان قتالا تهون عليه الدماء. والصحيح أن المقصود بوصف ابن حزم هو الأمير عبد الله بن محمد «ت 300ه» وليس أخوه المنذر. ثم إن لقب الخلافة في الأندلس لم يظهر إلا في عام «316ه» وأما قبل ذلك التاريخ فكان حكام الأندلس يحملون لقب «الأمير» لا «الخليفة».
2 نسب المؤلف الى الفقيه محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة «ت 330ه» أنه نظر في قضية صبي أسلم وهو ابن عشر سنين، ثم بدا له أن يرجع الى دين أبويه النصرانيين.
ولا أدري كيف قطع المؤلف بأن الفقيه المذكور هو من رُفعت اليه تلك القضية، فلِم لا يكون الفقيه محمد بن عمر بن لبابة «ت 314ه» وهو عم الفقيه المذكور أعلاه هو المعني بالأمر، ولاسيما وأن النازلة كما وردت في أحكام ابن سهل لم تزد على ذكر لقب عائلة الفقيه وهو «ابن لبابة».
أما «محمد عبد الوهاب خلاف» فقد نص في الحاشية على أن المقصود بابن لبابة في نوازل ابن سهل هو «محمد بن عمر بن لبابة»، وهذا ما لا يتفق مع ما ذهب اليه المؤلف في تخريج ترجمة المفتي.
3 ذكر المؤلف في الحاشية رقم «3» من «ص 167» أن عصر الخليفة هشام المؤيد بالله بن الحكم المستنصر يمتد من نهاية القرن الخامس الى بداية السادس الهجريين، وهذا خطأ بيّن، فهشام المؤيد بالله اعتلى منصب الخلافة الأموية بالأندلس منذ النصف الأخير من القرن الرابع الى أوائل القرن الخامس الهجريين.
وبعد، فإن الكتاب الذي نحن بصدده فريد في بابه، غزير في مادته العلمية، متنوع في مصادره ومراجعه، متين في أسلوبه وجودة بيانه، وهو لذلك كله جدير بالقراءة.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved