من بدهيات الأمور، ان الدنيا ليست بدار مقام، وكلنا يعلم هذا حقاً، ومع ذلك، فكم خدعت، وكم أغرت، وكم، وكم، وما من بيت إلا فاجأته بمصيبة بل وما من فرد إلا وفجع بفرقة حبيب.
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
هكذا تقول الخنساء؛ وعلى هذا ترانا بين معز، ومعزى، ومعزى به، وفاقد الحبيب يوماً، سيفتقد هو، ومن لم يروض لهذا نفساً، ستروضه النوازل، وحسبك بها مروضا؛ نسير في حياتنا، سير المؤمل الذي لا ينقطع أمله، والمعمر الذي لا ينتهي عمره، ونشغل في متطلباتنا حتى نؤخذ على غرة.
نأخذ الإجازات لنتفسح، والأمل يعمر القلوب، ويغمر النفوس، كل هذا في غالبه لنطرد السأم والملل، من جراء صخب الحياة وتعبها، ولم نحتط للأمر بما يجب، وأثناء ما نحن فيه من أمل وأمن، نفاجأ بخلاف ما كنا نتوقعه أو نأمله، بما يجري به القضاء الغيبي، والقدر المحتوم، فتنقلب تلك الآمال إلى آلام وأتراح وليت شعري، هل يتميز منا أحد على الآخر في هذا الواقع مهما كانت منزلته؟! لا وربي ثم لا!! وهل على الزمن من كفى غوائله ومصائبه؟! كذلك، لا ثم لا، ولن تجده، وهذا مما حكم الله باستحالته!! وعلى هذا تجدنا وعلى حد قول القائل:
إني أعزيك لا أني على ثقة
من الحياة ولكن سنة الدين
ليس المعزى بباق بعد ميته
ولا المعزي ولو عاشا إلى حين
وهكذا ... قلب صفحات التاريخ واستقرئ آثاره وأخباره، تنبئك بالعجب!! وأسأل صفحات أيام السعادة، ألها ضد؟! وهل لها ديمومة؟!
يجبك وجهها الخفي !! وأنه لا فرح إلا ويعقبه ترح، ولا أنس إلا ويخلفه بؤس، ولا نعم إلا وينغصها السقم، وهلم جراء، وهكذا سنن الله في خلقه، ألا ورب مصيبة يهون عندها الموت، أو أكرم منها الموت، والعياذ بالله، ولا غرابة ولا استغراب، أن نفقد الحبيب، وما فقد شيء كفقدك الحبيب ولله القائل:
شيئان لو بكت الدماء عليهما
عيناي حتى تؤذنا بذهاب
لم تبلغا المعشار من حقيهما
فقد الشباب وفرقة الأحباب
وبحق، والحق أقول، ما أشدها نازلة، وما أقسى وقعها فاجعة، ساعة أمن واطمئنان، فجعت بها الأمة بعلم من أعلامها، ورمز من رموز الرجولة، والمروءة، والحياء فيها، وهي في فصل استبشرت بحلوله لتروح عن نفوسها بالزيارات والأسفار، كل ذاهب إلى وجهته، منهم من هو إلى الأماكن المقدسة معتمراً أو زائراً ومنهم من هو إلى مصايفنا الطيبة متفسحاً متنزهاً، ومنهم من هو في زياراته الخاصة متنقلاً في أنحاء مملكتنا المعمورة، ومنهم من هو في رحلات استطلاعية إلى أنحاء العالم، لدفع السأم وملل العمل، خلال عطلة اجازة كل يتشوق إليها بعد عام دراسي عملي ينهك ويثقل، أقول: خلال هذه الاجازة والتي وأستغفر الله أشجت وآلمت من يعرف الفقيد يرحمه الله، فكيف بالملاصق له والعارف عن أفعاله ومناقبه بل وكيف بوالديه الكريمين، وإخوته النبلاء وأعمامه الفضلاء وأبناء عمومته النقباء، وأولاده النجباء، ومن هذا الفقيد الذي فجعنا به؟! وهل يخفى القمر؟! وليته مرض يرجى برؤه!! أو غيبة تنتظر الأوبة منها، ولكنه القضاء الأزلي الذي لا راد له، لله ما أخذ وله ما أعطى، وأجل شيء عنده في أجل مسمى، له القضاء، وعلينا التسليم والرضا:
أحقاً ما أذيع وما يقال؟!
وما في الأمر شك واحتمال
أحقاً أن فهداً غاب ذاتاً؟
وصورته تجدد حيث قالوا
وما مات امرؤ في الذكر يبقى
إذا افتقرت إلى الذكر الرجال
حياة المرء ما أبقاه ذكراً
وأما أن يعمر فالمحال
وسيّان الفتى حياً وميتاً
إذا ما لم تخلده الفعال
أجل يا فهد بن سلمان، إن مصيبتنا بك عظمى، وإن فقدنا لك لعظيم، ولكن مما يسلي ولا مثلك ينسى، أن أفعالك قائمة ومآثرك شاهدة، وعزاؤنا بفقدك، في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحبه الكرام، ثم في دوحة المجد الوارفة، وشجرة التوحيد الباسقة، لا فجعنا الله بها بمصيبة، ولا ثلمها بجائحة، ولا أصابنا ما ينسينا مصيبتنا بك يا ابن سلمان!! وأقول:
مصائبنا إذا عدت كثار
وفقد الأكرمين هو المصاب
ولقد عرفت الفقيد، كما عرفه غيري، رمزاً وعلماً، لا يني ولا ينثني، متنقلاً في ميادين الخير، ساعياً بها، باذلاً لها، سعيداً فيما يقدمه من عون للناس، متلمساً ما ينفعهم، صادقاً في تحسن أحوالهم، والتفتيش عن حاجاتهم، أقصى جهده، وقدر استطاعته، يؤاسي المنكوب، ويسلي الحزين، أباً لليتيم،أخاً للمحتاج، ناصراً للمظلوم، عوناً للمستعين، ولا يعلن ذاك، ولا يحب أن يعلم عنه. إن الكل يعرف هذا الرجل، ومثله لا يخفى، مهما تكتم على أعماله الطيبة، وقد انتقل إلى جوار الكريم، وهو في عز شبابه وقوة فتوته وكمال عقله واكتمال تجاربه وهو الكريم السخي والشهم الوفي.
أقول: ما سمعت وأشهد بما علمت عراقة في المجد وتسلسلاً في المروءات، ربا وتربى في بيت السمو والعلو والكرم بيت سلمان بن عبدالعزيز، وقد بلغ في مقاييس الرجال ومقومات الرجولة، درجة الكمال، والذي جاء نبأ وفاته يرحمه الله صاعقة صخت الآذان فبقي العاقل الحكيم، مع إيمانه بالقضاء والقدر، فزعاً من يقينه إلى الشك تساولاً، أحقيقة أم ماذا؟! ومن الأكيد إلى الأمل تعلقاً، لعل وعسى الخبر سبق خبر، ومن رؤية العين وصادق الخبر، إلى الأماني والترجي، حتى توطنت له النفوس، وهو اليقين وتأكدت منه، وهو آكد ما وعد به الجميع، ويالله!! وقد سمعت الخبر من الأخوين الكريمين الأخ صالح بن عبدالمحسن العصيمي والأخ عبدالله بن محمد بن حنيحن مهاتفة وكنت ساعتها في الزلفي يوم الخميس ذاته، وكلاهما يعلمان مقدار المحبة لهذا الرجل يرحمه الله، وحال مهاتفتي منزلي في الرياض أخبرت أن مهاتفاً هاتف المنزل قائلاً أبلغوا عبدالعزيز بوفاة سمو الأمير فهد بن سلمان وأن الصلاة عليه في مسجد الإمام تركي بن عبدالله عصر ذلك الخميس، وهنا تأكد الخبر وتحقق، فحمدت الله واسترجعته، ويا للمصيبة ويا للفاجعة، إذ كنت على صلة بسموه في موضوع استشاره، وقبل ليال من وفاته كانت بيننا مهاتفة، لهذا بقيت في ذهول وصدمة لا توصف، لهول النازلة، ولكن مما يخفف الصدمة، حكمة القيادة إذ تعاملت حاكماً ومحكوماً بالعقل، وفق ما جاءت به الشريعة المطهرة ، وكما هي العقيدة السليمة في هذا البلدالجليل، وتنزلت السكينة، إيمان وتسليم في القضاء، وأن كل ذلك من الله وإليه، والحمد لله على ما قضاه وقدره «إنا لله وإنا إليه راجعون» و «إنك ميت وإنهم ميتون» و «كل نفس ذائقة الموت»، ثم سلاح المؤمن « لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ومع هذا التعامل الذي خفف من شدة وطأة النازلة، ووقع الألم والذي زادنا إلى ما نحن عليه من إيمان، إيماناً ، فإنه يحسن وكما ورد في ذكرى محاسن الأموات «اذكروا محاسن موتاكم»، تخليداً للمتوفى وليدعى له، وإيقاظاً للغافل ليعمل مثله، فيبقى المجتمع متلاحماً مترابطاً، ولتتواصل أعمال الخير فيه، بذكر تلك المآثر، والسير عليها ولتوطين النفوس وأن المصير واحد وأن كلاً مرتهن في عمله:
أرى كل حي والحياة قصيرة
إلى حتفه مهما اتقاه مسيرا
فوطن لهذا النفس عن توقانها
إلى غير ذا من أن تعيش معمرا
وكن جلداً عند النوازل ثابتاً
وإياك أن تبقى لها متضجرا
فوالله لا أخشى من الموت لحظة
ولكنني أخشى عواقب ما أرى
ومامصاب الأمة في فهد بن سلمان رحمه الله خاصة في هذا البلد القائم على التواصل والتراحم والترابط إلا المصاب الذي حل في كل بيت وكم سمعت وكم رأيت رأي العين من المواطنين من قام يعزي بعضهم بعضاً فسمعت الدعوات الصادقة والتعازي الحارة ولو لم يلتقوا بسموه لأن الصلة بينهم وبينه أعمال الخير التي كان يقدمها ويقوم بها ولما له من المنزلة والمحبة والمكانة ولما لها من قرب تملك بها قلوب الناس، من كريم الخلق، وجم التواضع والبذل السخي والصدق الواقعي وليت شعري إلى من يوجه العزاء به يرحمه الله، وقد حزن عليه كل فرد وتألم له كل شخص ولا شك أن هذا من نعم الله على هذه الأمة بعامة الملك فيها والأمير والعالم وغيره لما هي عليه من ترابط وتعاطف، وهو من نعم الله على الفقيد إذ أجمعت الأمة على محبته، وذاك دليل الرضا والقبول بمشيئة الله تحقق له ذلك من الرحمن الرحيم، وهنا فالعزاء للأسرة السعودية عامة، ثم هو إلى الأسرة الحاكمة بخاصة، وإني لا أنسى ذلك الموقف وقد أجمع أعمام ووالد وإخوة وأبناء الفقيد وأبناء أعمامه ومحبوه يلهجون بذلك الدعاء الصادق، والترجي الذي يفوح بالإخلاص إلى الكريم أن يثبت الفقيد ويسدده في الجواب حال السؤال!! وأخص سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز والذي تحقق لنا وكما أنه وحيد زمانه حكمة وحباً، وقوة وعزماً، أنه رحيم زمانه قلباً وحباً، لما بدا عليه من التأثر الرجولي فأملي بهذا الموقف:
وأكرم دمع فاض من مقلة امرىء
لعمرك دمعا جاد فيه كريم
أبيُّ أبى عند النوازل قوة
ولكنه في المكرمات رحيم
كما أعزي والد الفقيد والدنا سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز عظم الله أجره وخفف مصابه والذي كأننا به حال تبلغه الخبر بعد أن يسترجع ويحمد الله يتمثل قائلاً:
أيا فهد لو نعطى الخيار لما بدا
لمثلك عنا في الحياة رحيل
فقدناك فقدان الحياة كريمة
ولكننا رغم المصاب نقول
لك الله ما أعطيته وأخذته
مصاب جليل والعزاء جميل
وكأني بسموه، وقد ضم ابني الفقيد إلى نحره وأسدل عليهما جناحيه واحتضنهما بيديه وحنا جسمه وقلبه عليهما، في موقف يا له من موقف ساعة وداع حبيب، لا لقاء بعده إلى اليوم المعلوم، وهو واقف يأخذ الماء ويفيض به إلى ابنيه ابني الفقيد، لم يذقه شارباً في حرارة الجو القائظ، بل بقي يحوط أشباله بنظراته وجوارحه وحركاته وقد ثبت ثبوت الرواسي واشمخر اشمخرار العوالي لم يتضعضع ولم يلن ولم تسفح له دمعة ولو سفحت لكان كما قيل «دمعة كريم فاضت على كريم»، أو كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم «القلب يخشع والعين تدمع..»، الحديث. ولكنه وقف موقفاً ذكرنا به في قول العربي:
وتجلدي للشامتين أريهمو
أني لريب الدهر لا أتضعضع
وبحق فلا أقسى من ذلك الموقف وقد وقف على شفا القبر واحتضن ابني الفقيد، وحنا عليهما ذلك الحنو الكريم، في ذلك الموقف المهيب وكأني به يتمثل في:
أنهنه عبرات تجيش بخافقي
وأحكمها كيلا تفيض ولا تجري
وألزمها صبراً وإني لصابر
ولله ما أشكو وفي حكمه أمري
بل وكأن الشاعر عناه حين قال:
أبت منك آيات بدا دونها الصبر
وحلم أثيل لا يقاس له سبر
وأيسر مكظوم عليه لدى امرىء
كريم السجايا دونه يعذب الصبر
أبيُّ لدى وقع النوازل لم يزل
كشم العوالي لا يزعزها الذعر
كما نكرر نعزي أعمام الفقيد عامة وأبناء عمه وإخواته والذين تسابقوا إلى النزول في القبر خاصة سلطان، وأحمد وعبدالعزيز لتهيئة القبر وتسويته ولاستقباله يرحمه الله، كما أعزي البقية الفاضلة منهم سمو الأمير الدكتور فيصل ، ومحمد ، وسعود ، وتركي ، وخالد، ونايف، وبندر وراكان ووالدة الجميع والدته ، وابني الفقيد سلطان وأحمد والذين كأني بكل واحد منهم يتمثل في:
فقدناك حال الأمن فقد فجاءة
وأقسى مصاب الحر فقد الأكارم
وليس لنا إلا نسلم للذي
قضى ما قضى حكماً مضى في التقادم
ولو غير هذا كان كنا له حمى
ومن دونه قطع الطلا واللهازم
بل وكأني بكل واحد منهم يردد:
وما فقدي الابن الذي هو متعتي
كفقدي أخاً إن المصاب جليل
أو:
نشيعه روحاً وفي الكل حسرة
تكاد لسوداء القلوب تذيب
أو:
نودعه هذا الوداع وما لنا
أمام قضاء الله إلا الترحم
نهيل عليه الترب حال وداعنا
ونلوي له الأعناق ثم نسلم
ولو كان في هذا يسر مدافع
لدافعت الأبطال والموت يهزم
ولكنما هذا القضاء مقدر
وما كان من حي لعمرك يسلم
عليك سلام الله ما ذر شارق
ونرجو لك الغفران والله أرحم
وداع فراق لا تلاقي بعده
تغشاك فيض الله والله أكرم
وكما أكرر العزاء لابنيه سلطان وأحمد فإني أرجو أن يجعل بهما الخير والبركة وأن يوفقهما للمسيرة الفاضلة وهنا لا أنسى وقفتهما إلى رأس القبر وقد بدت تتحرك شفتا كل منهما وكأني بهما يتمثلان في :
فقدناك فقد الروح يا أبتي وما
فراقك إلا قاصم يقصم الظهرا
فقدناك فقدان الحياة وما لنا
وقد غبت عنا من سرور بدا جهرا
ونقسم لو أن القضاء مخيّر
لكنا الفدى من أن تكن تسكن القبرا
بل وكأني بهما وهما واقفان على شفا القبر ويشاهدان جسد والدهما الطيب يوارى، كأني بهما يتمثلان في:
وما يوماً فراق الروح منا
بأقسى من فراق أبي علينا
ولكنا قبلنا الأمر حمداً
وتسليماً لرب العالمينا
وكأني بلسان الكل ساعة الوداع وما أقسى وقعها حرقة وألماً وتحسراً، يتمثل في:
نودعه وفي «العود» الوداع
ومثلك ليس ينسى أويضاع
نودعه وفي الأعمال رجف
وأسرار الأكارم لا تذاع
وهنا وقد بقينا بين شك ينفيه اليقين، ويقين يغالبه الشك، أحقاً أننا افتقدنا عزيزًا؟! كلنا يعزه ذاتاً وأفعالاً، وأباً وأعماماً، وأخوة، وأبناءً، وأسرة ومحتداً.
تقرر هذا لدنيا وتأكد ولسان حال الكل يردد:
أفهد وكم من أنة وتوجع
ودمعة مفجوع عليك تذال
وكم يا ترى من خاشع ومطأطئ
عليك حزيناً والتراب يهال
واجماعهم عند الوداع ترحم
وكل كريم في الثناء يقال
قضاء قضاه الله لاشك واقع
وأي بقاء في الحياة محال
ولو أن شخصاً مات ميتتك التي
حظيت بها قيل الوفاة كمال
عليك سلام الله وقفاً فقيدنا
لأنك حقاً في الرجال مثال
أجل أن كل الأمة تعزك يا فهد بن سلمان تعزك محبة وقدراً وشهامة وكرماً ومروءة ونبلا كيف لا تحبه وقد منحه الله خيما توجه به وتواضعاً رفعه به، وبذلا تفرد به، ومنهجاً اختص به وتعاملاً حببه إلى الناس وحبب الناس إليه، حتى بقي مضرب المثل حياً، ولا كفهد بن سلمان وميتاً، ولا كفقد فهد بن سلمان وعلى هذا شهوده وشواهده وإذا تحدثت الأفعال صدقت الأقوال ومن شهوده أن كل من عزا به وكتب عنه وكل من صلى عليه أو شهد تشييعه يرحمه الله فهو من شهوده لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أثنى عليه في خير في قوله «وجبت»، حين قالوا، وما وجبت يا رسول الله؟ قال «الجنة»، أو كما ورد، ثم قرر هذا بقوله «أنتم شهود الله في أرضه». وأما الشواهد فأكثر من أن يستوعبها هذا المقام وعليها أكتفى بضرب الأمثلة منها: أولاً: أنه في زمن ريعان شبابه وتدفقه وكان يدرس في الولايات المتحدة الأمريكية وفي مراحل من العمر يندر بل قد ينعدم وجود من يتحلى بتسلك الخلال في مثل سنه يرحمه الله وذلك في عام 1974م حيث وقع لرجل من أهالي الزلفي حادث مروع ما أبقى له على جارحة إلا فكره فعز علاجه في المملكة آنذاك، فأرسل إلى «بريطانيا» وكان ممدداً في الطائرة على سرير خاص لا يتحرك منه عضو، وبمشيئة الله اتفق نقل هذا المصاب وسفر هذا الفقيد المحبوب وكان شاباً متوثباً إلى المجد بمكارم الأخلاق، وكريم المورث وأصيل المحتد، وحال الأذن بفك الحزام، توجه إليه الفقيد وهذا المصاب هو الأخ الفاضل حمد بن محمد الأومير والذي مازال يعيش طيباً معافى بفضل الله، يقول حمد عن فقيدنا ما إن أذن بفك الحزام حتى فك حزامه وتوجه إليّ ذلك الشاب الوسيم النبيل فعانقني معانقة بحنو وتلطف، وسأل عن صحتي وحالي واساني أكرم مواساة لا أنساها عمري وكما يقول حمد عن نفسه ثم أخرج الفقيد نقوداً معه وهي دولارات، وأعطاني جزءا منها والجزء الثاني أعطاه إلى مرافق مريض آخر ممن معنا في الطائرة وهو رجل من أهل الأحساء كبير السن ثم أخذ يلاطفنا بطيب القول وأنه لو كانت دراسته في بريطانيا لتابع وأشرف على حالتنا شخصياً بنفسه هكذا كان يقول حمد الأومير عن الفقيد يرحمه الله، ولم يكتف بهذا بل أخذ يعتذر ولما علم أن موعد حمد الأومير لم يتأكد هاتف حال الهبوط في روما وهم في الطريق إلى لندن فأكد الحجز في المستشفى وعلى الملحق العسكري هنالك تهيئة الإسعاف لنقل المرضى ومتابعة الحالة، وما إن هبطنا حتى وجدنا الإسعاف في الاستقبال ثم قام سموه فودعنا أكرم وداع، أكرم الله وفادته، واستمر هو إلى أمريكا، رفع الله مقامه وأعلى منزلته هكذا يتحدث حمد الأومير عن فقيدنا يرحمه الله، إذ كان في زمن الشباب المبكر فكيف به وقد بلغ الأشد.
ثانياً: أنه حين كان نائباً لأمير المنطقة الشرقية سمو الأمير محمد بن فهد متعه الله بالصحة، قام الفقيد بزيارة لمحافظة بقيق وفي أثناء تجوله في مدينة بقيق استوقفته إشارة فتوقف فإذا برجل إلى جواره قد حدد النظر إليه فأشار إلى سمو الفقيد وقال: أأنت سمو الأمير فهد بن سلمان، قال: نعم، فقال الرجل: رجوتك رجوتك، فقال الفقيد: وما ترجو؟! فقال: لو تفضلت بزيارة لمنزلي تشرفني بها، قال سموه: ومعك إليه، فذهب وزار هذا المنزل المتواضع وشرب القهوة وبعد خروجه أفضل بتحسين أوضاع هذا الشخص المادية، وهذا ما رواه لي مؤكداً ثبوت هذه القصة الأخ الأستاذ عبدالعزيز عبدالله الضويحي حين كان رئيساً لبلدية بقيق وفي هذا قمة التواضع قمة من لدن سموه، رفعه الله به في الآخرة، حيث استجاب لرجل ما كان يعرفه، وقد فعل الفقيد هذا تواضعاً وكرماً وإنسانية وأريحية ومن تواضع لله رفعه الله.
ثالثاً: أنني أطلعت على صك عقار تبلغ قيمته ملايين الريالات مفرغ بأمر سموه إلى صاحب ذلك العقار قد وهبه سموه إليه هبة دون مقابل وعلى غير عوض، وقد سألت صاحب ذلك العقار شخصياً فقال: أجل لقد وهبني سموه هذا العقار وهبه الله جنته، وهذا قمة الكرم والنبل الذي قل أن يوجد.
ولو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها فليتق الله سائله
رابعاً: وما أكثر الشواهد، أنه حين تفضل سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز جبر الله مصابه وأعظم أجره أقول: حين تفضل بزيارة محافظة الغاط بدعوة من معالي الأمير فهد بن خالد السديري لتسليم جائزة معالي الأمير خالد بن أحمد السديري للتفوق العلمي، وكان الغداء في المساعدية لدى معالي الأمير مساعد بن أحمد السديري وألقيت قصائد في المناسبة من ضمنها قصيدة قالها الشاعر سليمان بن غزي الغزي في خادم الحرمين الشريفين حال مرضه حمداً له على شفائه، وقد نذر الشاعر لله أنه إن قام خادم الحرمين الشريفين معافى بأنه سينحر مائة جزور من الإبل، وكان من بين الحضور سمو الأمير الفقيد فهد بن سلمان ولما خرج المدعوون كان سموه ممن خرج قبل أن أخرج فأرسل إلى محمد الدوسري وطلبني ولم أنتبه أن الداعي فهد بن سلمان، وهذا أول لقاء لي مع سموه يرحمه الله وحين خرجت ورأيته واقفاً اعتذرت إليه بأني لم أفهم أن الداعي سموه فقال بكل أريحية، لا شيء في هذا ثم أسر إلي قائلاً: الشاعر الذي قال القصيدة قادر على السداد، قلت : نعم، فقال : يا أخ عبدالعزيز المبلغ قرابة خمسمائة ألف ريال فإن لم يكن قادراً فإني مستعد بدفع المبلغ إليه، فشكرت لسموه فضله، وأخبرته أنه أوفى بنذره ونحر الجزر كاملة فقال: على كل إني كما قلت لك، ثم طلب مني أن أسجل رقم هاتف منزله أنزله الله في جنته فسجلته عن إملائه، وما أكثر ماله من الأيادي البيضاء ، جعل الله رايته بيضاء، وما أوردته هنا إنما أوردته من باب ذكر المحاسن، وليدعى لسموه يرحمه الله، جعل الله ذلك في موازين حسناته، ورفع به درجاته وبحق فإن فهد بن سلمان وإن غاب ذاتا فلن يغيب ذكراً وسيبقى مضرب المثل:
لئن غاب جسماً والممات مقدر
على كل حي لا يقي دونه الستر
فمازال حياً بيننا بفعاله
وما مات منه العطف والبر والذكر
وإن موكبا كموكب جنازته يرحمه الله ليذكر بالقول «موعدهم يوم الجنائز»، وعليه يقع:
وفي موكب هابت له العين منظراً
أسود لها جنب السرير زئيم
تسير به تغلي الصدور وإنما
تنهنهها ألا تبوح حلوم
وأصعب ما يلقى الكريم تألماً
فراق محب والكتوم كليم
فيالك آساد لو الأمر بالفدى
لصرح عن ذاك الخشوع نهيم
وصدق من قال:
كل سيلقى ما لقيت وإنما
فقد الكرام على الكرام سهاد
صبرا بنيه رجولة وأخوة
صدقته لو أن القضاء يذاد
وما أجمل تلك الدلالات التي تبشر بالخير قبولا ومحبة برحمة الله ومشيئته:
ورحلت يا رمز الشباب مودعاً
ولكل قلب رنة وحنين
وأبصر ذاك الناس حقا مؤكداً
بأن دلالات القبول يقين
وليرحمك الله يابن سلمان فهد، فلقد كنت حاباً محبوباً كريما مهذبا، سخيا مؤدبا، أسبل الله على جدثه وابل القطر، وشآبيب الغفران، وتنزلت عليه وفيه الرحمات، وطاب حيث حل:
وجادك الغيث قبرا حل ساحته
رب اليتيم ومن كالغيث مدرارا
ولا فزعت به، والروح آمنة
في جنة الخلد أشجارا وأنهارا
عزاؤنا فيه لوما شيء يعدله
أن طاب خاتمة فعلاً وأذكاراً
وفي مثله يصدق:
عليك سلام الله وقفاً فإنني
رأيت الكريم الحر ليس له عمر
جبر الله عزاء من فقده وألهم والديه وإخوته وأولاده وذويه جميعاً الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون وهو المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.