فجع أبناء وأحباء الخال عبدالله بن عبدالرحمن بن محمد القاضي )أبي خالد( رحمه الله بوفاته ضحى يوم الخميس الماضي والخال الكريم هو عميد أسرة القاضي )من عنيزة( ورائدها ومحبوبها، بل محبوب كل من عرفه أو قابله أو اتصل به، وهو جد ابني حسان وإخوانه لأمهم، وقد عرفت الخال الكريم وسعدت بصحبته مدة ثلاث وعشرين سنة تقريبا وقد عرفت فيه من الخصال الطيبة والصفات النبيلة والسجايا الحميدة ما جعله يحظى بهذه المنزلة التي تبوأها بجدارة عند محبيه وعارفيه من أقاربه أهل مدينة عنيزة وكل من يعرفه. ولقد رأيت فيه مدرسة متنقلة في كثير من الآداب والأخلاق الحميدة، ولديه مهارة في التربية النظرية والعملية، وأثره فيمن حوله ظاهر؛ لأنه يربي بسلوكه، ويجعل من نفسه قدوة في تصرفاته؛ فيشق على نفسه ويأخذها بالعزائم حتى بعد ما كبر سنه وفقد بصره واثقله المرض، فنادرا ما يتخلف عن مناسبة فرح او حزن، فيبادر اصحابه بالتهاني، ويبادر الى التعازي وعيادة المرضى وهو محمول على كرسي متحرك، ويشهد الجنائز ويصر على الخروج الى المقبرة في شدة الحر وهو يُهادى بين رجلين، وكثيرا ما كان يلح على اطبائه للسماح له بالخروح من المستشفى لعيادة مريض او تشييع جنازة، وقد قام في العام الماضي بزيارة للشيخ محمد العثيمين )رحمه الله( في المستشفى التخصصي وهو حديث عهد بالخروج من المستشفى ويدفع على كرسي متحرك فتأثر الشيخ محمد كثيرا لمجيئه وعاتبه ودعا له. وقد كتب الدكتور عبدالله العثيمين مقالا مؤثرا حول هذه الزيارة. وللخال الكريم في هذا المجال قصص عجيبة يندر مثلها، وكان يصبحه في هذه الزيارات ويعينه على اداء هذه الواجبات شقيقه وعضده الايمن وأنيسه وجليسه عبدالعزيز العبدالرحمن القاضي )أبوأحمد( لكنه سبقه بعام الى رحمة الله ان شاء الله ويشاركهما في ذلك ايضا شقيقهما الاوسط أبويوسف حمد العبدالرحمن عندما يزورهم في الرياض، وقد زرعوا هذا السلوك الطيب في بقية اخوانهم وابنائهم وبناتهم واحفادهم وأقاربهم، وقد سعدت بصحبة هؤلاء الاشقاء الثلاثة في رحلة الى الدمام وسكنت معهم وعايشتهم عن قرب فرأيت صنوفا راقية من أدب التعامل والإيثار وسمو العبارة وحسن المنطق وكانوا يعدون أبا خالد والدا لهم فيتسابقون لخدمته وتقديم حذائه له وكان رحمه الله لا يقل عنهم ادبا وإيثارا وحسن منطق، وقد شدني ذلك المشهد وبقيت اصداؤه في نفسي، وقد خلّف هؤلاء الثلاثة الكبار رحم الله الميتين ومد في عمر الحي على طاعته لإخوانهم وأخواتهم وأبنائهم وبناتهم وأحفادهم ذكرا حسنا وسمعة طيبة وقواعد حيّة في السلوك والتعامل، وقاموسا لغويا راقيا تكاد تتميز به هذه الأسرة الكريمة )أسرة القاضي( يفيض عذوبة ويقطر حلاوة ويستميل القلوب وتطرب له الاسماع.. وللخال الكريم نصيب من هذا القاموس العذب حتى مع الصغار، فلا يمكن ان يناوله حفيد من احفاده الصغار شيئا إلا ويبادره بعبارات الشكر والثناء والدعاء، ولا يمد رجله بحضرة احفاده الا بعد ان يستأذنهم بألطف عبارة وأرقها. ومن شمائله الحسنة رحمه الله احتفاؤه بجليسه والاهتمام به وحسن الاصغاء اليه وإيثاره وتقديمه في الطعام والشراب والدخول والخروج وكثيرا ما نغالبه في ذلك فيغلبنا الا ان نحتال عليه.. وحُسْنُ حديثه وتنوع ثقافته وخبراته ورحلاته واهتمامه بالتاريخ يجعلك لا تمل مجلسه، وقد سمعت في مجلس من القصص والاخبار والنوادر من تاريخ المملكة ما لم اسمعه من غيره، ولديه معرفة بالرجال واخبارهم ودراية بأحداث المملكة ووقائعها وسيرة الملك عبدالعزيز وحياته في الحجاز ونجد وغيرها، وقد عمل في الدولة طويلا ثم تفرغ للتجارة، وتنقل بين الرياض والجبيل والبحرين والكويت وزار الهند وماليزيا وسنغافورة وبريطانيا وامريكا وغيرها، وقد حاولت اقناعه بتسجيل ما لديه من قصص واخبار ومعايشة للملك عبدالعزيز ورجاله فأبى، وحاولت اجراء حوار اذاعي او تلفزيوني معه إبان المناسبة المئوية فرفض، وقال إنه يكره الشهرة والاضواء، وسألته مرة عن تاريخ ميلاده فأفاد بأنه ولد في سنة 1327ه وهي السنة التي ولد فيها العلامة حمد الجاسر. ومن ابرز ما شدني في شخصية الخال الكريم رحمه الله انه مع سماحته ورقته التي اشرت الى طرف منها مهيب حازم قوي الشخصية يحسب له من حوله كل حساب. وهو ايضا سريع التأثر قريب الدمعة يحب الجد ويسعى الى معالي الامور ويكره الاستهتار والتبعية والتقليد ويمقت الاسراف والتبذير، وفيه تدين وحزم في اسرته مع سعة افق وانفتاح منضبط، وهذه سمة تكاد تجدها لدى اغلب كبار السن من أهل عنيزة تلك المدينة التي جمعت بين الأصالة والحضارة في تناغم محمود عجيب. وإن الحديث عن الخال الكريم رحمه الله حديث ذو شجون لا يتسع له مقال موجز، ولقد خسرنا بفقده أبا ومربيا ومعلما، وإني لادعو له بالرحمة والرضوان وأعزي فيه نفسي وزوجته الكريمة أم خالد ونجله الكريم أبا عبدالله، وبناته الكريمات وفي مقدمتهن أم حسان وإخوانه الكرام حمد وسليمان وصالح وأحمد وأخواته الكريمات وأحفاده وحفيداته وأسرة القاضي الكريمة وكل أحبابه ومعارفيه، نسأل الله ان يجمعنا بهم جميعا في جنات النعيم.