| مقـالات
تأتي المجادلة أحياناً «عن مشروعية الاعتداء على حرية الجماعة والثوابت، وعن تدليل حرية الأفراد وبينهم المضلل بصيغتي اسم الفاعل واسم المفعول، والإمعة، والفضولي، والهامشي » بأسلوب الإنشاء العائم المبالغ في مجازاته.. الأسلوب الذي يغرف زبداً ويجرفه التيار عما تحته، وإذا حققت مدلوله وجدت كاتبه لا يعني ما يقول، أو لا يفقهه ولا يدريه.. ومن هذا النموذج الأستاذة الفاضلة السَّرِيَّة من السروات أهل الرفعة سعاد الصباح في كلام لها عن أحزان الكتاب العربي، فقد طرحت تساؤلاتها بمبالغات غريبة كل الغربة عن الواقع.. تقول: «الكتاب العربي إلى أين؟.. ما موقعه على خريطة العالم العربي، وما حاضره، وما مستقبله؟.. أسئلة تحفر في رأسي في الليل والنهار!!.. أما حاضر الكتاب العربي فلا يدعو إلي البهجة أبداً، لأن الكتاب يعيش في حال حصار دائم، ويعامل كما يعامل السجناء والمعتقلون السياسيون.. أما«2» مستقبله فلا أحد يستطيع أن يتنبأ به إذا بقيت الحال كما هي، لأن جميع الدلائل تشير إلى أن شمس الكتاب العربي آخذة في الأفول، وأنه في سبيله إلى الانقراض كما تنقرض أية شجرة لا تستطيع الحصول على غذائها الأرضي والهواء الضروري لتنفسها».)3(
قال أبو عبدالرحمن: ما بلغ الكتاب في الشيوع والطيران في الآفاق على مدى التاريخ ما بلغه اليوم، بسبب وسائل التجشيع على التأليف..
وهي وسائل حضارية كثيرة في سهولة المداد والورق والطباعة والتصوير استعمالاً واستملاكاً ، وكثرة الخزانات للتراث، وكثرة المترجمين والمتمكنين في لغات عالمية.. على أن هذا الطفح العظيم من الكتاب العربي في أغلبه لا يتصف بجدية السلف في المثابرة على الرغم من صعوبة الوسائل، بل أكثره كلام جرائد، وتأملات، وسخاء إنشائي، وسطو على تراث عربي قديم أو تراث أجنبي قديم أو حديث.. وأما القُرَّاءُ قراءةً حرة غير مقيدة بمنهجية الدراسة الطلابية المرحلية الإجبارية: فهم على كثرتهم من الجنسين لم يصلوا إلى مستوى القراءة الجادة لدى الأسلاف في بيوتهم ومساجدهم وما يقرؤونه أو يُقرأ عليهم أو يُملونه.. مع أننا في عصر محو الأمية!!.
وإن كانت المسألة مسألة مقارنة راهنة بين العالم العربي والأجنبي فلا تعدو المقارنة أحد أمرين:
أولهما : عن المفاضلة بين قيمة الكتاب العربي والأجنبي.
وثانيهما: عن المفاضلة بين الذيوع والانتشار لدى الطرفين مع المفاضلة بين جمهور الطرفين من ناحية القراءة.
قال أبو عبدالرحمن: أما الأمر الأول فلا نكلف الأستاذة الفاضلة بمعاناة استقراء وإحصاء رياضي للمقارنة، بل يكفي أن النخب في العالم العربي دارسون للنخب في العالم الأجنبي.. وقلما اهتم العالم الأجنبي بدراسة النخب العربية، بل عنايتهم بدراسة تاريخنا وأسلافنا.. ولا أستثني من ذلك إلا التدبير الأجنبي الخفي سواء أكان تبشيراً، أم تضليلاً صهيونياً .. وهذا التدبير من أجل تلميع أقزام راثوا على مبادئ أمتهم من أمثال من هم في حضانة التثقيف الفرنسي من أهل الجنوب!!.. أو من أجل رصد ظواهر في عالمنا العربي لدى المثقفين المبعثرين بين السلفية والانسلاخ.. والغرض بعد هذا إعادة تدبير المواجهة الأجنبية«ذات الحصار الشرس» لأي وعي عربي يأبى التخثر التاريخي أو أن يمزج مستقبله بالريح.. ولا يكاد يوجد ذلك إلا في دوائر محددة لهذا الغرض بمعنى التبشير والاستشراق والتضليل وإن اختلفت الأسماء والتعليلات.. إن عشرات من نخبنا يدرسون مثلاً سارتر، ولا أحد منهم أي الأجانب يدرس مثل عبدالرحمن بدوي.. وعشرات من نخبنا يدرسون شكسبير إلى بلزاك.. إلى تولستوي.. إلى آخر ذي إمامة في الرواية والشعر مثلاً، وقلما درس أولئك الأجانب نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم أو إبراهيم ناجي أو شوقي.. إلا في دائرة التأريخ لآداب الأمم.. إن نخبنا تدرس نخبهم على أساس الإعجاب بالعبقرية، والتتلمذ المخزي كما في تتلمذ مترجم رسالة سبينوزا والأخير صهيوني يمضغ التضليل والإلحاد باستخفاف يحتقر عقولهم.. ونخبنا لا يجرؤون على المحاكمة للنخب الأجنبية الإلحادية بواحد في المئة من جرأتهم على نقد زهد الإمام أحمد بن حنبل، ووسطية الشافعي بين التقليد والآراء، ونفوذ الإمام ابن جرير من أغوار الروايات المتراكمة.. إلخ.. إلخ.. وإن حاكموا فبأسلوب المتعلم، أو التتلمذ لأغلف آخر!!.
نخب الخواجات فلاسفة، ونخبنا دارسو ما استجد من فلسفةٍ دراسةَ التلميذ الأمين الذي يُحصِّل بتتلمذه جديداً وريادة!! .. ونخب الخواجات منظِّرون أدبياً وجمالياً، ونخبنا دارسو نظريات أدبية.. إلخ.. إلخ.
ونخب الخواجات ينعمون«!!!» بحريات مطلقة من جهة الدين عند بني جلدتهم، ويتمتعون بهذا الظلم لغير أبناء جنسهم على الرغم من الحريات الأربع التي أعلنها روزفلت وبقية الحلفاء وتتضمن حرية الأديان.. ومن حريتها حمايتها من التهجم.. ولا يكاد الغرب يستعمل هذا الحق إلا في مآرب سياسية محددة.. وللنخب الغربية حريات واسعة في القول والنشر ولكن في حدود الإرادة الصهيونية التي تُسَيسِّ العالم.. ونحن نرى قادة روسيا يعتذرون للوبي الصهيوين وللصهيونية بعد ساعات من نقدهم للظلم الصهيوني في روسيا، ونرى زعيم فرنسا شيراك يستقبل السفاح شارون استقبال العبدالذليل، وينزل ليفتح له باب السيارة في ظرف بات فيه الشارع في بلدان العالم يحس بمأساة فلسطين.. وتلك هي نخب النظريات والآداب والجماليات واللغويات وميتافيزيقا التاريخ والمضغ الفلسفي، وتلك الحريات هي حريات هذه المواد التي يضجُّ منها المفكرون والمصلحون ومعاييرُ القيم.. أما نخب العلم اكتشافاً واختراعاً فتعمل بتخصُّصٍ صامت، وليس ذلك العلم حظاً مشاعاً يتمتع بحرية العرض والطلب، بل حرية العالم الثالث في هذا المطلب كحريته في صنع قراره السياسي والاقتصادي والثقافي، وكحريته في امتلاك السلاح المحدد بغايات هجومية أو دفاعية!!.
وخلاصة القول: أن كتابنا العربي حزين بمقاييس تلك المنطلقات التي تريد من أمتنا أن تكون غير مسؤولة عن مقومات كيانها، ذلك أن نخبنا «!!» لم تصل إلى الحرية الدينية المطلقة التي ينعم بها العرب )!!!( إلحاداً وإباحية وألغاءَ حسبةٍ إلا ما يتعلق ببوليس الآداب لحماية اللاقانون بالقانون!! منذ أَنِست آذان الجماهير الأوربية لسماع مثل إعلان نيتشة عن موت الإله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. ذلك أن نخبنا تلاميذ صغار لنخب الإباحية والإلحاد.. ذلك أنهم يدرسوننا في نطاق تنظيم سياسي مُوَجَّه لتقويم استجابة نخبنا لأعباء التتلمذ الجبان، ولتقويم رد الفعل لدى عقلاء أمتنا وجماهيرها!!.. ذلك أننا لاننعم بحرية التخصص العلمي الصامت اكتشافاً واختراعاً.. ذلك أن نظام العولمة من حيِّز الوجود بالقوة إلى حيِّز الوجود بالفعل ووراءه ميتافيزيقيات دينية، وكيد صهيوني يُسيِّس القوى الكبرى التي تسيس العالم الثالث يخنقنا في حرية صنع القرار في جوانب عديدة.. ذلك أن كتاب نخبنا ذات التتلمذ الجبان محاصر الذيوع في العالم الأجنبي لا بقرار يملك المحاصرة، بل لفقد القابلية، لأن العفن الذي تريد أن تنفذ به النخب إلى العالم الأجنبي هو العفن الذي استوردته من ذلك العالم!!.. ذلك أن كتاب نخبنا لا يجد القابلية لدى أمتنا وإن رُفع كل حاجز رقابي، وإن بلغ نشاط التوزيع ذروته ، لأن الله جعل الخير في هذه الأمة «أمة الإجابة» إلى يوم القيامة، فلا تجتمع على ضلالة.
قال أبو عبدالرحمن: أما المفاضلة بين الذيوع والانتشار لدى نخبنا ونخبهم في محيطهم وخارجه: فنحتاج من الأستاذة الفاضلة إلى إحصائية موثقة تحدد أحزان كتابنا بأننا أمة غير قارئة كالأمم الأخرى، وأن ذلك سبب إخفاق حاضر الكتاب العربي من جهة انتشاره في محيط العالم العربي أما خارج هذا المحيط فقد أسلفت القول فيه ، ليكون نقدها لأحزان الكتاب العربي نقداً علمياً غير ادعائي.
والذي أحققه من غير إحصاء كمي، بل عن ملاحظات دارسين: هي جِدِّيةُ ومثابرة القراءة التخصصية الواعية في العالم الأجنبي في ميدان الكشف والاختراع، وتعلُّمُ وممارسةُ ما تم اكتشافه واختراعه، من أجل ممارسته حرفةً بعد التعلم في الأحياء والطب والذرة والفضائيات..
وميوعةُ هذه القراءة التخصصية لدى كثير من نخبنا، لعامل الحكر والحجز في بعض العلوم، ولأن الهدف في الأغلب ممارسةٌ وظيفيةٌ إدارية قد تكون خارج نطاق التخصص!!.. وبرهان هذه المقارنة تفوُّقُ الطبيب الخواجي على طبيبنا، ومهندسهم على مهندسنا، وأن ندوات التشاور العلمي لذوي الاختصاص في حقل معيَّن بعواصمهم لا عواصمنا، وأن الأعجوبة منا في تخصصه يتأمرك أو يتألمن.. إلخ، وأن أكثر نخبنا على هامش التخصص العلمي المتوحل في الأدبيات والنظريات، وأن المتوسط في إدراكه العلمي التخصصي يتحول عند أمته إلى موظف في غير نطاق عمله، وأن بعض نخبنا تحصل على المؤهل الجامعي والأطروحات فيما بعد شراءً أو منحة بدافع التلميع..
ولا ينال الطالب في العالم الأجنبي ذينك إلا بكدِّ عرقه!!.
والذي أحققه أيضاً أن الطبقات الأمية عندهم تساوي الطبقات المثقفة ذات الثقافة النظرية عندنا، فهم يلتهمون الرواية والقصة والمسرحية قراءة ومشاهدة على الشاشة، وهم يلتهمون كل كتاب يُحَوِّل العلوم إلي ثقافات مقروءة، وهم يلتهمون كل كتب العجائب والغرائب والأساطير والرحلات والسياحات.. أما النخبة المثقفة عندهم ذات الثقافة النظرية منهم المفكرون الذين يقرؤون الفلسفة العامة وفلسفات العلوم، وهم يمثلون الفقهاء والمحدثين وعلماء الدين عندنا، لأن القوم في فراغ ديني، فتدينوا بالفكر والفلسفة.. وإذا وجد عندنا قلة من دارسي الفلسفة كعبدالرحمن بدوي أو زكريا إبراهيم، أو إمام عبدالفتاح، أو الشنيطي.. إلخ.. إلخ..، ولم يوجد حاجز رقابي دون أعماله: فرواجها قليل، لأن العلماء العاملين في غُنية بدينهم، ولأن الجمهور أمي الثقافة والفكر سوى قلة أو متشبث شعاره: «وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم»، فَيُزَيِّن مكتبته بجناح فلسفي!!.
والأستاذة الفاضلة سعاد حسب كلامها المطول عن أحزان الكتاب العربي إنما تريد ربط الأحزان بقلم الرقيب وهاجس الرقابة المُلَبِّييْنِ لحرية الأمة، وهذا هو ما يستحق النقاش، وإنما نقلتها إلى الكتاب في واقع أمتنا وواقع الأمم للحيلولة أولاً دون حيل التضليل بالمبالغات والادعاء، فإلى لقاء إن شاء الله.
الحواشي:
«1» للرنين الفخم في شعارات الشيوعية التي أفلست فسقطت: ورث بعض نخب الحداثة أسلوباً أعجمياً من أجل التفخيم فحسب، فقالوا نخبوية ونهضوية وشعبوية!!.
«2» عندما تتعدَّدُ الفروع لقسم واحد فإن«أمَّا» تكرر بلا واو عطف، فإذا انتقلت إلى قسم آخر عطفت كقولك:«أما ذكاء زيد.. أما عمله.. أما شجاعته: فليس كل ذلك محل خلاف.. وأما سعد فلا يصل زيد إلى مستواه في كل هذه الأمور»، وعلى هذا فينبغي وضع واو العطف قبل أمَّا هاهنا.
«3» جريدة الحياة عدد يوم الاثنين 27 نوفمبر عام 2000م 1/9/1421ه
|
|
|
|
|