| شرفات
كان أبوه بول يوهان الحقوقي المعروف والاستاذ الجامعي بمدينة لاندزهوت يرغب في أن يكرس الابن نفسه لدراسة اللاهوت البروتستانتي. وعندما وصل لودفيج إلى جامعة هيدلبرج للدراسة ملأته الشكوك حول نظرية لوثر والتي أصابها الوهن إثر قرن هيمنت فيه العقلانية الحادة فاتجه إلى جامعة برلين عام 1824م.
يقول فيورباخ عن تلك الفترة: وصلت إلى جامعة برلين وأنا في حالة تمزق كبير، كنت تعساً وقلقاً، وكنت قد بدأت أستشعر في نفسي تفاوتا بين الفلسفة واللاهوت، كما كنت أشعر بضرورة التضحية إما بالفلسفة وإما باللاهوت، كان يشهد نقاشاً حيوياً ومستمراً بين المجالين ووجد في دروس هيجل امكانية المصالحة بين العقل والإيمان فكان هذا هو التوجه الذي نوى أن يتخذه لنفسه من الآن فصاعداً. هذا اليقين المؤقت جعله يحسم أمر الدراسة في رسالة إلى أبيه يقول فيها: لم أبدأ الدروس إلا منذ أربعة أسابيع.. وان العديد من المشكلات التي ظلت غامضة وغير قابلة للفهم ، تمكنت من فهمها بفضل بضعة دروس من هيجل.
أنهى فيورباخ دراسته للفلسفة على غير رغبة أبيه الذي كان يود من ابنه أن يكرس نفسه لدراسة اللاهوت وأرسل رسالة تخرجه: «العقل الواحد، الكوني ، اللانهائي» إلى هيجل ومعها خطاب يصف فيه نفسه بالتلميذ المباشر الذي يطمح إلى تملك ولو جزء يسير من العقل التأملي الذي يمتلكه معلمه . لكن المعلم والاستاذ لم يرد على الخطاب، ربما لأنه لمح في رسالة تلميذه بذور شك تكاد أن تنمو.
على أية حال أمكن لفيورباخ بهذه الرسالة أن يقبل كأستاذ حر في جامعة إيرلنجن ، ولكن لم يمض عليه وقت طويل حتى أصدر كتابه الصادم: «أفكار حول الموت والخلود»، ورغم انه تفادى التوقيع باسمه على الكتاب إلا أن الأمر انتهى بمعرفة كل شيء واستاءت الهيئة التعليمية مما به من أفكار وفصلت صاحبه من التدريس . وكان والده محقا تماما حين تنبأ له قائلاً: إنهم لن يغفروا لك أبداً هذا الكتاب، ولن تحصل على أي كرسي في الجامعة.
كانت نبوءة صادقة إلى حد الألم، فبعد خمسة عشر عاماً على نشر هذا الكتاب القاتل قدم فيورباخ مرة أخرى أوراق الترشيح إلى جامعة إيرلنجن عام 1845م ويومها أخبره نائب العميد عن استعداده لمساندته شرط أن يأتيه كتاب الترشيح بدليل على أن كتاب «أفكار حول الموت والخلود»، ليس من تأليفه!
بالطبع كان هذا الشرط في حكم المستحيل! وأيقن فيورباخ بالفشل وأن عليه أن يتحمل مصيره كمفكر ثوري. ولا شك أن هذا الفشل جعله يفلت من قيود الفلسفة الرسمية، لكن هذا الابتعاد عن الحياة الجامعية على المدى الطويل حكم على فكره بنوع من الجمود الذي ازداد حدة بمرور الوقت .. وكان دائم التفكير في حياته التي تتأرجح على الدوام بين ثورة الكبرياء وبين الاستسلام.
تارة ينتفض كمتمرد عنيد ويقول: «أنا لست شيئا ما إلا لأنني أظل لا شيء لفترة طويلة. وتماماً كما تحررت الروح في الماضي من الكنيسة عليها الآن أن تتحرر من الدولة. إن الموت المدنى هو الثمن الذي ينبغي دفعه الآن للحصول على خلود الروح» وفي موضع آخر يبدو مستشعراً بألم عميق ابتعاده عن التدريس.
إدراكاً مني للتعارض المطلق القائم بين روحي والروح المصادرة ذات الامتياز لم يسبق لي أبداً أن تمنيت من أعماق فؤادي تعييني أستاذاً. فأنا لم أسع لشيء سوى مكان يمكنني فيه أن أكون حراً ويمكنني فيه دون أن يزعجني أحد تكريس نفسي للدراسة والتطور وإطلاق الأفكار والقناعات التي كانت راقدة في ذاتي.
ثم نراه يقر بما يعتمل في داخله وهو يتحدث عن اساتذة الفلسفة الرسميين وما يتاح لهم من هدوء كثمرة للضمان المادي الذي تؤمنه الدولة فيقول عن هؤلاء: ان أناهم الآخر لم تزعجهم أبداً، فالأنا الآخر: الرجل، المرأة، الجسد، كانت الدولة تقوم بإعالته. ولقد وصل هذا الدور إلى ذروته لدى هيجل! فأخذ فيورباخ على عاتقه أن ينبش في فلسفته منذ كتابه القاتل السابق ذكره، حيث عمد إلى تطوير وتركيز الفرضيات في الفلسفة الهيجلية ووصل إلى قناعة بخلود العقل لا الجسد، ليصبح بذلك عدواً عنيداً في رأي الكثيرين. ورغم أن حياته بدت له خاسرة إلا أنه أقدم على الزواج من برتالو وارثة قصر براكبرج شراكة ومصنع للخزف، فأقام معها في أحد أجنحة القصر مستفيداً من أرباح المصنع، واضعاً نفسه على هامش النظام البرجوازي! وأتاح له هواء الريف والطبيعة أن يحرك فكره في اتجاه مختلف بعض الشيء ، يقول فيورباخ: المنطق تعلمته في جامعة ألمانية، لكن البصر فن الرؤية، لم أتعلمه إلا في قرية ألمانية. إن كل العلوم المجردة تمزق الإنسان أما العلوم الطبيعية فهي التي تعيد تكوينه، كانت الطبيعة بمثابة رسالة تعلم المحسوس، وعبر تعاطي الملموس تكف الروح عن اللعب مع ذاتها تبعاً لقوانين وهمية. أي أن قوة التأثير التي مارستها الطبيعة على فيورباخ أملت على فكره انتظامه الأساسي.
ومن المعروف أنه بعد رحيل هيجل عام 1831م انقسم تلامذته إلى جناحين هما: الهيجليون المحافظون والهيجليون اليساريون أو القدامى والمحدثون الشباب وعلى رأس هؤلاء كارل ماركس وآرنولد روجه وبرونو باور ولودفيج فيورباخ. وكان هؤلاء الشبان يوصفون بأنهم أعداء الماضي وأعداء الدولة، فهم منعتقون من كل قيد سياسي أو اجتماعي.
وتزعم فيورباخ من خلال مجلة «حوليات هال» نقد الفلسفة الهيجلية وإعادة النظر في مشكلة وحدة الفكر والكينونة مندداً بالطابع الخيالي للمنظور الهيجلي والاستعلائي أيضاً كما أنه اختار كنقطة للهجوم على فلسفة هيجل الجزء الأكثر ضعفاً والأقل إقناعاً وهو فلسفة الطبيعة ورأى احتقار الفلسفة الحديثة للطبيعة ما هو إلا ميراث مباشر للاهوتية المسيحية، وليس هيجل في الواقع سوى لاهوتي متنكر بثياب فيلسوف.
في المقابل كان فيورباخ يبني مذهبا حيا دون أن يتورط في الهجمة السياسية والاجتماعية التي يستعد اليسار الهيجلي لشنها.
في الحقيقة كان فيورباخ حذراً في مواقفه السياسية وليس في أفكاره فهو قد نشر كتابه حول الموت والخلود دون أن يصرح باسمه، وحين طلب منه كارل ماركس وأرنولد روجه الكتابة إلى مجلة «الحوليات الفرنسية الألمانية»، التي أصدرها امتنع فيورباخ متعللا بأن الاستعداد الايديولوجي للشعب الألماني لايزال قاصراً ولايسمح بالتحول من النظرية إلى الممارسة، كما أن اللاهوت مازال هو الحامل العملي الفعال والوحيد للسياسة، وكانت المساهمة العملية الوحيدة له حين شارك في ثورة الشباب عام 1848م بمجموعة من المحاضرات عن فلسفة الدين ألقاها في الساحة العامة أمام مبنى بلدية هايد لبرج.
كان فيورباخ منذ كتابه «جوهر المسيحية»، يسعى إلى التحليل وطرد أوهام اللاهوت لإنجاز فلسفة إنسانية حية لكنه سرعان ما أصيب بتدهور ذهني ازداد حدة مع مرور الوقت، رافقته صعوبات مادية خطيرة بعد أن أفلس مصنع الخزف واضطراره للهجرة إلى منزل ريفي آخر، حيث أخذت قواه الجسدية والذهنية تتدهور بسرعة. وبعد وفاته بخمسين عاما أقيم له نصب تذكاري «لذكرى فيلسوف المادية الفلسفية»، لكن حظ التمثال كان أسوأ من حظ صاحبه، فبعد عامين فقط حطمته النازية وهي تمحو كل آثار الماركسية في أرضها، وبعد اثنين وعشرين عاماً أي في عام 1955م عثر على كتل التمثال تحت 16 متراً مكعباً من الاطلال وجرت المناقشات لإعادة تشييد النصب كفعل تعويض على أحد ضحايا النازية، لكن الأمر اصطدم باعتراضات كثيرة بسبب الطابع التجديفي للكلمات المحفورة فوق الحجارة. ولا يزل فيورباخ بعد وفاته لغزاً محيراً فهو الفيلسوف الضائع بين هيجل الذي سبقه وبين ماركس الذي تبعه وانتقده كثيراً. وكتب أنجلز كتابه الهام: «لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية»، معتبراً أن فيورباخ هو الذي أنزل هيجل عن عرشه وعجَّل بكل الانتقادات حول فلسفته فأصالته تكمن أول الأمر في معارضته الضارية لهيجل، وكأنها بمثابة السطر الأخير في شهادة وفاة الفلسفة الكلاسيكية في ألمانيا.
شريف صالح
|
|
|
|
|