| الثقافية
ما زالت القصة القصيرة في السعودية رغم تطاول عمرها وبروزها جزءا مهما من نسيج الثقافة السعودية المعاصرة بعيدة عن ميادين النقد الجاد الذي يستنطق النص ويستنتج ملاحظات تستهدف القراءة الاعمق من حيث استيعاب النص وتيسير سبل الصداقة المبنية على التفاهم بين القارىء والنص، ملاحظات لا تذهب إلى المدح ولا إلى القدح، ولا تعيد انتاج النص كما لا تسرد نظريات نقدية تحول النص إلى مجرد شواهد عليها، وإنما ملاحظات تجعل النظريات في خدمة النص.. ملاحظات تُعني باختراع الأسئلة لا بالتفتيش عن الاجابات، وعلى كل حال ليس هذا موضوعنا هنا، وإنما كانت هذه المقدمة اعتذارا عما يلحقها، فقد اطلعت على ثلاثة نصوص للقاص السعودي عبد الله الفهيد وهي )المحطة(، )الارض المسكونة(، )الحصيرة(، وودت ان أخوض تجربة جريئة بتقديم كتابة نقدية حول النصوص الثلاثة الا ان محدودية المساحة التي قد يظفر بها مثلي جعلتني اختصر الامر إلى خمس ملاحظات اقدمها حول نص )الحصيرة( مع الاشارة العارضة للنصين الآخرين آملا أن تكون هذه الملاحظات بوابة للدخول إلى )الحصيرة( وإلى كاتبها تماما مثلما ارجو ان تكون تمهيداً لكتابة نقدية اشمل حول نصوص الفهيد.
عبد الله الفهيد قاص له نكهة وعبق القرية ورائحة الطين، وهذا ما نجده بوضوح في مثل هذا النص )الحصيرة(، فتجد في النص: الجدران الطينية والعاير والحصيرة واللقاء الصباحي لكبار السن فضلاً عن مفردات موغلة في المحلية، فتتذكر وأنت تقرأ )الحصيرة( روايات نجيب محفوظ النابضة من عمق التاريخ والواقع المصري فهي روايات مصرية خالصة ولاشك ان القارئ المصري يجد في روايات محفوظ ما لا يجده غيره من القراء ولا شك أيضاً في ان القارئ الذي عاصر القرية النجدية وعرف كبار السن فيها خبر عاداتهم ومنها هذا اللقاء الصباحي على الحصيرة لهو أكثر استمتاعاً بقصة )الحصيرة( من غيره.
الملاحظة الثانية في )الحصيرة( أن النص مكثف الصور بمعنى انه يعطي السيادة للخيال، فالنص يمنح تصويراً دقيقاً لعادة اللقاء الصباحي التشريق حسب المصطلح المحلي ، وتصويراً مماثلاً لكبار السن من خلال الاشارة إلى تعليقاتهم اللاذعة، وأقدامهم المتشققة، وانهم يتحدثون في وقت واحد، والصراع الدائم بين الوجوه والأقدام.. الخ، فيقدم الفهيد من خلال النص رؤية إخراجية بعدسة حساسة تلتقط التفاصيل الدقيقة الا ان هذه السيادة للخيال جاءت على حساب العناصر الاخرى وخصوصا العاطفة التي ظهرت ضعيفة في النص فحتى في المشهد النهائي لحظة التنوير لا يظهر على البطل أية تعاطف مع موت أبي صالح، بعبارة أوضح ليس في النص أية عاطفة سوى رغبة جامحة للدخول إلى الحصيرة، فلماذا جاء النص دقيقاً في تصويره بارداً في عاطفته؟
وهل يستلزم هذا ذاك؟... الحقيقة انه لا يمكن لي القطع باجابة نهائية لكنني أرى أن الفهيد كان مشغولاً بنقل المشهد برؤيته، الطفولية أكثر من أي شيء آخر، وإذا وافقني الفهيد على هذا فأقول انه نجح فيما ذهب إليه.
الملاحظة الثالثة ان النص إجمالا لا يحمل حدثا محركا فالحدث الفاعل في النص هو موت أبي صالح الذي نتج عنه وصول صاحبنا إلى الحصيرة وهذا الحدث هو مجرد حدث ختامي للنص، وهنا تحضرني رائعة همنغواي )العجوز والبحر( فقد كانت عبقرية همنغواي في قدرته الهائلة على تقديم دروس موضوعية في نسيج فني مشوق وممتع برغم غياب الأحداث المحركة بل وغياب الابطال، واذا ربطنا بين هذه الملاحظة والملاحظة السابقة فقد نفهم اكثر ان غياب الاحداث والاكتفاء بالطفل بطلاً هما اللذان قادا إلى سيادة الخيال وضعف العاطفة.
الملاحظة الرابعة: ليس هذا النص هو الوحيد لعبد الله الفهيد الذي يحمل لحظة تنوير في نهايته، فهنا في )الحصيرة( يموت ابو صالح ليصل صاحبنا إلى الحصيرة، وفي قصة )الارض المسكونة( يكشف البطل انه المسؤول عن سيادة الاعتقاد عند سعد ثم الجميع من خلفه بأن الارض مسكونة مما انتج الاحداث التالية في النص، بل حتى في قصة )المحطة( على اختلافها النسبي عن هذين النصين تأتي حكمة النص في آخر جملة، واستنادا إلى ذلك أرى ان عبد الله الفهيد مخرج يكتب قصة والمقصود بهذا التعبير هو وصف اسلوب عبد الله الفهيد من خلال النصوص الثلاثة المذكورة في كتابة القصة بعيداً عن المدح او القدح.
يبقى لي ملاحظة نهائية أن النص في عمومه يروى بوجهة نظر طفولية فبطل النص الذي يرويه لنا هو طفل، ويتكرر هذا في نص )الأرض المسكونة( لعبد الله الفهيد، فلماذا يلجأ الفهيد إلى الطفل ليروي من خلاله نصوصه القروية اذا جاز التعبير ؟، هل هي مسألة استرجاع للماضي.. للبراءة.. للدهشة؟؟، أم أنها أحاسيس كبتت في الطفولة وآن للشاب أن يكشف عنها، بمعنى أن الشاب عبد الله الفهيد يفسح المجال في هكذا نصوص للطفل عبد الله؟؟؟؟
* سبق نشر نصي )الحصيرة( و)الارض المسكونة( في جريدة الجزيرة.
سعد المحارب
|
|
|
|
|