| مقـالات
«إنني أعرف شيئاً واحداً، وهو أنني لا أعرف شيئاً»..، مقولة بليغة بمضامين تبدو على أحدث (طراز) وصل إليه الإنسان من الموضوعية، غير أن هذه المقولة ليست وليدة هذا العصر، بل هي مقولة لفيلسوف يوناني لا يحضرني الآن اسمه وإن كنت لا أزال أتذكر زمنه ألا وهو التاريخ القديم بكل الصور الذهنية التي نحملها عن إنسانه (المُقولب) في أذهاننا جهولاً بدائياً متوحشاً. وبغض النظر عن مدى حضارية وموضوعية العبارة المذكورة آنفاً ، فالسؤال الأكثر إلحاحاً هو ما الذي دَفَع بهذا الفيلسوف/ العالم إلى أن يتبرَّأ من العلم؟ هل هي خيبته في العلم أم في العلماء أم في مُدّعي العلم؟ حسناً لندعَك تفكر في الإجابة وإن كنا نقترح عليك ترك اليونانيين القدامى وشأنهم في قبورهم والاتيان في معيتنا لنواصل طرح التساؤلات اشتقاقاً مما هو (منا) وما هو (فينا) وذلك كما يلي: ما سر إيجابية الموقف (السلبي!) الذي اتخذته الثقافة العربية - على الأخص في عصورها الزاهية - ليس ضد مدّعي العلم فحسب، بل حتى ضد العالِم الذي يُقر بسعة علمه؟ وما هو سر عدم تردُّد علمائنا الأوائل عن إشهار كافة أسلحة (اللجْم والتحذير) لمدّعي العلم تلميحاً وتصريحاً وأحياناً (تجريحا!)، بل إلى الدرجة التي اضطر هؤلاء العلماء إلى أن يشتقوا أسلحة نفسية/ لغوية لمكافحة الادعاء هذا وذلك حين استعاروا من الجهل أحد مفرداته ليكافحوه بها، وأعني بها عبارة (لا أدري) تلك التي تبوأت منصب (نصف العلم)، وتم تسخيرها (طُعماً) لإلجام أنصاف المتعالمين، وحثاً لهم كذلك على التعلم، حيث إن التحذير من الشيء هو في الواقع حث على الأخذ بنقيضه المحذَّر منه، مما يمكن القول معه إن في مجرد النهي عن التعالم حث - ضمني - على التعلم. وعند هذه النقطة يتضح لنا أن هذه المواقف السلبية تجاه ادعاء العلم ليست حكراً على ثقافة بعينها، وليست لبشر عن بشر، استدلالا بتواتر المواقف ذاتها تاريخياً رغم تباين الثقافات والأزمنة والأمكنة والبشر.
الغريب أن وعينا بذواتنا نادراً ما يرتقي إلى مصاف مضامين ما نُطلقه جزافاً على مدار الساعة - من عبارات (التحذير والتنفير) من ادعاء المعرفة، إذ إننا لو راقبنا قاموسنا اليومي العامي - على سبيل المثال - لوجدناه يعج بعبارات التحذير من الادعاء من دون أن نعي ذلك، مما يدل على أن ردة الفعل هذه هي طبيعية تلقائية إنسانية متأصلة بكل البشر، وما عليكم إلا استعراض الترجمات العالمية لصفات من قبيل (المدعي، السطحي، أنصاف المثقفين..) لكي تروا كم هي ظاهرة إنسانية مشتركة. بل بإمكاننا تأكيد المؤكد - الادعاء - بالاقتصار على مضامين ما يعج به التراث من الأقوال المأثورة، والأشعار المروية، والحِكَم الناطقة أحكاماً مثل: («من قال أنا عالم فهو جاهل»..،، «نصْف العلم أخطر من الجهل».. «لا يدري ولا يدري أنه لا يدري»...، «فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة.. حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء..») وخلافها.
ما السر وراء هذه التحذيرات، وهل لها من التبعات الخطرة ما يستحق تكرار التحذير منها؟... لا مناص من الإجابة بالإيجاب حيث إن تكرار التحذير في حد ذاته هو دليل على خطورة المُحذَّر منه، فالعلم قد يكون الشيء الوحيد في الحياة الذي (نصْفه) أخطر من كله، والسبب في ذلك لأن نصف العلم يمثل نصف الجهل.. نصف الحقيقة، وما (نصفه) غير حقيقي فمصيره انتفاء حقيقته كلية، وهنا تحل الكارثة المحذَّر منها وذلك حين يتم تزوير الحقيقة باسم العلم، فتلبس الحقيقة المزورة (ثياب) العلم، وتستعير صفته التراكمية، فيزداد خلل علاقة العلم بالواقع المعاش، ويتحول دوره من مؤثر إلى متأثر..، ومن مستقل متبوع إلى تابع، ومن غاية إلى وسيلة..، وهنا تختلط الأشياء، فيعيث غثها وسمينها فساداً في الأرض، ويتبادل الثابت والمتغير الأمكنة، ويضحي المثالي المأمول هو الحكْم والحَكَم رغم أنف عنقائية المثالي، وعدمية المأمول،. ومرة أخرى يُثبت العلم قدرته على إرخاء سدول الظلام الدامس قدرته على الإنارة والتنوير... (يتبع).
|
|
|
|
|