| مقـالات
تتطور الأحداث في هذا العالم بسرعة مذهلة، فهذه انقلابات سياسية وتلك ثورات اجتماعية واقتصادية، وهذه اختراعات علمية جديدة ابتكرها الإنسان فسيطر عن طريقها على قوى طبيعية هائلة لم تكن في الحسبان.
والعالم لا يكاد يهدأ من أحداث وتطورات في إحدى المناطق إلا وتظهر له أحداث مضادة أو مشابهة في مناطق أخرى. ولهذا أصبح طابع الحركة السريعة المتلاحقة هو الطابع الذي يسيطر على أحداث واقتصاديات العالم في القرن العشرين.
وهذه التطورات والأحداث حتمت على بني البشر التفكير في أحداث الساعة ومشاكلها بشكل بالغ التركيز. وليس بمستغرب هذا التفكير، فالإنسان وهو يواجه الحوادث والتطورات ينبغي أن يكون على بينة منها وأن يعمل دائماً على أن يجد لها الحل الناجع حتى يستطيع أن يشق طريقه في هذه الحياة في سهولة ويسر.
ولكن التركيز الشديد حول مشاكل اليوم وأحداثه قد ينسينا ما سوف يواجهنا في غدنا القريب أو البعيد ومن هناك يجيء الخطأ، فإحاطة الإنسان بالمشاكل التي تربطه بحاضرة قد تجعله مستسلماً للحاضر مرتبطاً به أشد الارتباط، مما يصعب معه التطلع إلى المستقبل في ثقة واطمئنان.
إن التقدم جسر دقيق يتخطاه الإنسان يوماً بعد يوم وسنة بعد أخرى، جسر يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل في وحدة مؤتلفة. وبنجاح الأفراد أو المؤسسات وحتى الأمم نفسها إنما يتوقف على سهولة عبورها لجسر الحياة وانتقالها من طور إلى آخر، كما يتوقف هذا النجاح على ما تفعله الأمم والأفراد في الماضي والحاضر من أعمال مجيدة تسطر بها حروف المستقبل.
ومن هنا كان علينا نحن المثقفين أن ندرس المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تحيط بنا في هذه الأيام فندرس المشاكل العديدة لسكان هذا الكوكب، ثم نربط هذه الدراسات بدراسة اقتصادية عن مشكلة إطعام هذا العدد الكبير من السكان، ونعالج بعد ذلك مشكلة الموارد المعدنية والطاقة المحركة ومستقبل التصنيع في البلاد النامية من العالم، وبذلك نرسم صورة كبيرة واضحة عن أهم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه سكان العالم!
إن الأحداث في هذا العالم تتغير بسرعة مدهشة يتخبط معها الإنسان في لجة من الظلام الدامس، بيد أننا كثيراً ما ننسى المشاكل التي سوف تواجهنا في الغد القريب أو البعيد، لأن اهتمامنا كله قد تركز في مشاكل وأحداث الساعة.
يقول هاريسون براون في كتابه «المائة السنة القادمة»: لقد حقق الإنسان خلال السنوات الأربعمائة الماضية درجة كبيرة من السيطرة والتحكم في البيئة التي عاش فيها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية بأسرها منذ بدء الخليقة. إن نجاحنا وتقدمنا المادي في زيادة مستمرة، كما أن معدل النمو في عدد السكان يرتفع بصورة ملحوظة. ومن هنا حق لنا أن نتساءل: إلى أي مدى سوف تستمر هذه الزيادة والتقدم؟ وهل ستظل الأعداد السكانية في زيادة متصلة؟ أم أن الزيادة ستتوقف في يوم ما؟ وهل يكون الإنسان بذلك قد وضع نفسه في مأزق حرج ومن ثمّ، نكون قد اتجهنا إلى كارثة محققة؟!
إن أكثر من نصف سكان العالم في الوقت الحاضر جياع لا يحصلون إلا على قدر ضئيل من الطعام، مما يزيد من خطورة هذا الوضع أن كل يوم جديد يزيد جيش الجياع بما يربو على مئات الآلاف من النفوس الجديدة تطلب الطعام بإلحاح. وقد يقول قائل: إننا نستطيع أن نطعم هذاالعدد الهائل من السكان ببذل الجهود الجبارة لزيادة معدل انتاج الطعام. بيد أنه ينبغي أن نسأل: إذا كان في الإمكان زيادة الكمية المنتجة من الطعام في هذا العالم فإلى أي مدى سوف تستمر هذه الزيادة على أساس المعدل الحالي لزيادة انتاج الطعام في العالم؟!
إن أول محاولة ذات شأن لتقدير مستقبل الجنس البشري على أسس علمية سليمة، هي التي قام بها مالتس منذ مائتي سنة.. فقد بدأ مالتس بدراسة مفصلة عن أحوال الفقراء في الفترة التي أعقبت الثورة الصناعية مباشرة. ثم خلص مالتس من هذه الدراسة إلي نتيجة مؤادها أن الحالة سوف تصبح أسوأ بمرور الزمن لأ ن مقدرة السكان على التكاثر أعظم بكثير من قدرة الأراضي على انتاج مقومات الحياة. ونادى مالتس بأن عدد السكان محدود بوسائل ومقومات عيشة الكفاف، ولكنهم يزيدون كلما زادت هذه الوسائل إلا إذا قامت أمام هذه الزيادة عقبات مانعة.
وقد أشار مالتس إلى أن عدد السكان يزيد بمتوالية هندسية وهو يعني أن عدد السكان في جيل المستقبل سوف يفوق بكثير عن عددهم الحالي وذلك على فرض أن مقومات الحياة لن تزيد بنفس السرعة التي يزيد بها عدد السكان. والحقيقة فإن مالتس قد جانبه التوفيق في تقديره إلى أن هذا التقدير جاء في وقت غير ملائم للزيادة الكبيرة في الأعداد البشرية. ولو تحقق هذا التقدير لكان الأجدى بنا جميعا أن نسطر اسم مالتس في سجل التاريخ كنبي عظيم من أنبياء الاقتصاد ولكن الأحداث لم تؤيد وجهة نظره المتشائمة. كما أصبحت تقديراته حجة فكثيراً ما يذكرها الاقتصاديون للتقليل من أهمية المحاولات الحديثة لتقدير مستقبل البشرية وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بوجهة نظر قاتمة متشائمة.
لقد كان طلب الإنسان على المواد الأولية فيما سبق طلباً ضئيلاً متواضعاً فخلال مئات الآلاف من السنين التي عاشها الإنسان يلتقط طعامه من هنا وهنا، كانت حاجاته ومطالبه الغذائية محدودة. إذ كانت مقتصرة على الفواكه التي كان يجمعها من الأشجار وعلى جذور النبات التي استخرجها من باطن الأرض، والحيوانات التي اصطادها من الفيافي والقفار. ولكنه بعد ذلك توصل الإنسان إلى استخدام النار والوقود والطاقة والآلات والأدوات الحجرية والنحاسية عندها بدأت مطالبه وحاجاته تزداد. ومن هنا، بدأت طلبات الإنسان للمواد الأولية تتزايد شيئاً فشيئا، وأصبحت السلع الكمالية التي كان يحلم باستهلاكها سلعاً ضرورية.
ومما لا شك فيه أن العالم قد وصل اليوم إلى مستوى من المعيشة يحتاج معه إلى كميات هائلة من المواد الأولية كضرورة من ضروريات الحياة في المجتمعات الصناعية.
إن طلب الإنسان للطعام والمواد الأولية والطاقة قد زاد تدريجياً إلى حد أنه أصبح اليوم يستهلك جميع هذه السلع بكميات هائلة.
إننا نعيش اليوم في حقبة من التاريخ تتصف بالفن الصناعي المعتمد على العلم وهذا الوضع يحتم علينا أن نعتمد على توافر عقلية علمية مدربة.
وبهذه الطريقة تستطيع الدول متقدمة كانت أم نامية أن تواصل تقدمها ورقيها، لتثبت وجودها وكيانها، وتنمي المعارف والعلوم بشكل فعال.
ختاماً أقول إن التنبؤ بما سيحدث في المستقبل يساعدنا على أن نترك لأطفالنا من بعدنا عالماً فاضلاً ملائماً للسكنى والعيش فيه، كما أن الأسس والقواعد التي سنضعه ستكون ذات أثر بالغ في رفاهية أولادنا وأحفادنا.
إن مصير الأجناس البشرية، ولا شك سوف يتحدد إلى حد بعيد بأعمال وتصرفات أولئك الذين يعيشون اليوم..
*عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
|
|
|
|
|