| مقـالات
هل نحن أمام )ظاهرة( جديدة؛ اسمها )الهجرة( من البوادي والأرياف؛ إلى المدن والحواضر..؟
.. قد يقول قائل؛ بأن )الهجرة( إلى المدن ليست جديدة؛ وقد كانت معروفة منذ عشرات السنين. وهنا أقول: بأن هذا صحيح. لكن الهجرة التي أتكلم عنها هنا؛ هي )هجرة جديدة(؛ هجرة )المضطرين( للبحث عن واقع جديد؛ يوفر لهم متطلبات حياتية ضرورية؛ عزت عليهم في قراهم وهجرهم وبواديهم؛ وقد كانت وفيرة بين أيديهم حتى وقت قريب؛ ثم لم تعد موجودة في وقتنا الحاضر؛ إلا في المدن الكبيرة الصاخبة.
.. وللبحث في هذه )الظاهرة(؛ وهي مشكلة مستجدة على كل حال؛ فإنه يوجد من المؤشرات والأدلة ما يكفي.. وفي هذا المقال؛ أكتفي بعرض خمسة أدلة )جديدة(:
1 - نشرت جريدة )المدينة(؛ بعددها رقم )13924(؛ يوم الخميس الخامس عشر من شهر ربيع الأول 1422ه؛ تقريراً حمل هذه العناوين: )مدارس القرى مهجورة بعد رحيل سكانها - زحف جماعي على المدن بسبب نقص الخدمات - معظم المدارس لا يوجد بها سوى 7 طلاب - عشرات المدارس الأخرى مهددة بالإغلاق - غياب المعاهد وراء الزحف نحو المدن(.
2 - تردد كلام كثير عن نقص مياه الشرب في عدة مناطق؛ ويظهر مثل هذا جلياً؛ في أطراف المدن أو التجمعات السكنية البعيدة عن المدن؛ تلك التي تشرب من مياه التحلية. ومن ذلك على - سبيل المثال - ما جاء في كلمة للدكتور سعيد فالح الغامدي نشرت بجريدة )الوطن(؛ قبل عدة أسابيع؛ وفيها؛ أن كثيراً من أبناء غامد وزهران من منطقة الباحة؛ هجروا دورهم ومزارعهم؛ واتجهوا نحو المدن الكبيرة بسبب نقص مياه الشرب؛ وغلاء ما يصلهم منها بواسطة )الفناطيس(؛ التي يصل سعر الواحد منها إلى أكثر من )500 ريال(..!.
3 - كنت قبل عدة أسابيع في محافظة الخرمة؛ أحضر مناسبة فرحية لصديق هناك؛ وعلى مائدة العشاء؛ دار حديث طويل بين أبناء هذه النواحي؛ مفاده؛ أن بعضهم فضل الرحيل من المنطقة التي يعيش فيها منذ عشرات السنين؛ إلى الطائف أو إلى غيرها من المدن؛ بسبب نقص مياه الشرب؛ سواء للبشر أو لما يربون من الأنعام في ديارهم..!
4 - قال لي أحد أصدقائي وهو ثقة؛ بأن نزيلاً جديداً رآه قد سكن أحد الدور المقابلة لسكنه، وكانت تبدو عليه وعلى أسرته الكبيرة؛ مظاهر الفقر والحاجة؛ و)التبدي(. وكان هذا النزيل؛ يبدو رجلاً طاعناً في السن؛ ومعه أسرة من نساء وأطفال يربو عددها على العشرة أشخاص، ويركبون سيارة )ونيت( قديمة. والتقى هذا الصديق؛ أحد أولاد هذا الجار؛ واستعلم منه عن أحوالهم؛ فقال له: بأنهم من أبناء إحدى القرى التي لا تبعد عن الطائف كثيراً؛ ولكنهم كانوا مضطرين للتوجه إلى المدينة، مع أنهم كانوا يعيشون طوال حياتهم في قرية لهم وادعة، وبين جماعة لهم وأهل؛ وسط واد زراعي أخضر، وذلك أن ماء البئر قد )أملح(؛ فلم يعد صالحاً للشرب. وأن مواشيهم التي كانوا يربونها؛ نفقت بسبب تلك الحمى التي حمت المواشي فقضت عليها، وأن أشجار الفاكهة؛ لم تحتمل ملوحة ماء البئر؛ فماتت واقفة، وأن الخضار هي الأخرى لا تنمو في تربة فاسدة؛ ومع ماء مالح؛ وأن )فنطاس( الماء غالي الثمن فماذا يفعلون..؟!
5 - ثم إني رأيت بأم عيني؛ قرى كثيرة خاوية؛ وقد كانت عامرة بأهلها حتى وقت قريب؛ فلم يعد بها بعد هجرتهم؛ سوى غرابيب سود وأشباح؛ أو عمالة متخلفة متخفية من الأعين؛ ومتهربة من رجال الجوازات.
.. هذه أمثلة بسيطة؛ ولكنها حقيقة واقعة؛ تدلل على أننا نواجه من اليوم فصاعداً، هجرة جديدة )خطيرة(؛ من القرى والهجر وأطراف المدن إلى المدن؛ وتفسر لنا تزايد الطلب على مياه الشرب في المدن؛ والضغط المتزايد على مرافق الخدمات الأخرى فيها. وعلى المدى القريب والبعيد؛ فإن لهذه الهجرة الجديدة؛ آثاراً وخيمة على الحاضرة والبادية معاً، فنحن إذا لم نتدارك أمرنا؛ فنسارع إلى تبني حلول موضوعية جادة؛ تكفل لابن البادية حياة كريمة في بيئته التي ولد وعاش فيها، سوف نخسر كثيراً في جانب الثروة الزراعية والحيوانية؛ ونقف عاجزين عن استيعاب ملايين الناس في مدن كبيرة؛ لها تعقيداتها وتشعباتها، ولسكانها الجدد؛ متطلبات تتزايد مع مرور الأيام. ولهؤلاء وأولئك؛ مشاكل اجتماعية معقدة نعرف بعضاً منها اليوم. وقد نجهل ما هو قادم منها..!
.. ما سبب هذه الهجرة وكيف نتعامل مع هذه الظاهرة..؟
.. هناك أسباب كثيرة بدون شك؛ لكن أهم هذه الأسباب وأظهرها؛ هو النقص الحاصل في مياه الري والشرب؛ ثم )إفساد( ما هو موجود منها؛ بفعل الجهل وعدم الترشيد في استخدام مواد التسميد والإبادة.
.. يوجد شح عام في المخزون المائي الجوفي؛ بسبب قلة الأمطار وبسبب النزح الجائر لغرض الزراعة.. هذا صحيح. لكن ما زاد الطين بلة؛ أن كثيراً من المناطق الزراعية؛ بها وفر مائي في آبارها، لكن مياهها تحولت في السنوات الأخيرة؛ من مياه عذبة صالحة للشرب والري؛ إلى مياه مالحة لا تصلح للشرب ولا للري؛ وهذه الملوحة مثلما يقول العارفون ببواطن الأمور في شؤون الأرض والزراعة؛ نتجت عن جهل بمعرفة المكونات الكيماوية للأسمدة المستخدمة؛ والمبيدات الحشرية؛ وخاصة ازبال الدجاج )الصناعية(؛ والكبريت. وبذلك فسدت التربة أولاً؛ ثم فسدت المياه الجوفية ثانياً؛ وصار الناس لا يرون في مياه الآبار؛ إلا )راغاوى( صابونية؛ ولا يرون على سطح التربة الزراعية؛ إلا طبقات ملحية بيضاء..!
.. هذه هي أهم الأسباب التي تدفع بالناس إلى الهجرة من قراهم وبواديهم ومزارعهم وبيئاتهم؛ إلى المدن الكبيرة.. ثم تأتي بعد ذلك؛ أسباب أخرى هي أدنى وأقل من سابقتها، مثل طلب القرب من المعاهد والجامعات؛ ومقار الأعمال الوظيفية.
.. ماذا فعلنا للعمل على إيقاف هذه الهجرة..؟!
إن من أولويات هذا العمل - إذا نحن قد فكرنا فعلاً في فعل شيء ما ازاء هذه المشكلة - هو النظر في حل مشكلة المياه؛ وأعني بذلك؛ مياه الشرب والري معاً، ليس بجلبها إلى المحتاجين لها في قرى ومجمعات سكنية هنا وهناك؛ فهذا لا يكفي، وإن كان هو المطلوب حالياً؛ ولكن بمعالجة ما تتعرض له مصادر المياه الجوفية؛ من نزف غير مقنن؛ وإفساد واضح فاضح..
.. لا بد أن نوقف فوراً الأسمدة الكيماوية؛ وازبال مزارع الدواجن، والمبيدات الحشرية، لأنها تصنع من مواد كيماوية وهرمونية مركبة؛ لا تفسد المياه الجوفية والتربة الزراعية فقط؛ ولكنها تتسبب في أمراض سرطانية خطيرة؛ تصيب الإنسان والحيوان والنبات. وأن نعمل على تشجيع التسميد العضوي، ونشر الوعي البيئي والصحي بين المزارعين ومربي المواشي، ومراقبة الوسائل غير الصحية وغير المشروعة، التي تتبع في التغذية والتسمين لدى كثير من مربي المواشي والأغنام، ففيها خطورة كبيرة على البيئة، وصحة المجتمع لما يتبع فيها من طرق )مستحدثة(؛ تعتمد على الحقن بالهرمونات؛ ودس مواد كيماوية في الاعلاف؛ تسرع بالنمو وتعجل به؛ وتزيد من اللحوم والشحوم في الحيوان لرفع سعره. وقد أخبرني من أثق بكلامه؛ أن الطرق نفسها؛ راجت بين بعض المزارعين؛ في حقن أشجار الفاكهة بمواد كيماوية سائلة؛ ودس مواد كمياوية بكيفية أخرى؛ في مياه ري الخضار..! فماذا ننتظر بعد هذا كله يا تري...؟!
.. أعتقد أن هناك مسؤولية مضاعفة اليوم قبل أي وقت مضى؛ على أكثر من جهة، ومنها وزارة الزراعة، التي من مهامها؛ الحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية. ثم وزارة المياه )حديثة الظهور(. وهناك جهات أخرى؛ يطلب منها التحرك في هذا الاتجاه. اتجاه وضع حلول مرحلية؛ تعالج مشكلة الهجرة من البوادي والأرياف؛ إلى المدن والحواضر، وتعالج مسألة ما نأكل وما نشرب من أرضنا؛ وحماية ثرواتنا الزراعية والحيوانية؛ من الإفساد ومن الاندثار.. ومن هذه الحلول الملحة اليوم؛ استيعاب هؤلاء المهاجرين الجدد في المدن؛ والعمل على سد النقص في الخدمات العامة؛ وتوفير فرص العمل والمقاعد الدراسية، وغيرها من المتطلبات الحياتية الأخرى.
.. كنت قد كتبت في مسألة الماء ونقصه، والغذاء المنتج محلياً وما يتعرض له من عبث، وحذرت في أكثر من مقال نشر منذ أكثر من عامين من هنا؛ من مصير كهذا )نُدفع( إليه؛ أو نحن الذين ندفع بأنفسنا إليه؛ وهو الهجرة من منابت الخير والعطاء في بوادينا وقرانا؛ إلى المدن المستهلكة لكل صغيرة وكبيرة.. وها نحن اليوم؛ أمام هذه )الهجرة الجديدة( وجهاً لوجه. فماذا نحن فاعلون..؟!
.. نعم.. ماذا نحن فاعلون؟
assahm2001@maktoob.com
fax027361552
|
|
|
|
|