| الاخيــرة
قرأت كتابا استهواني متنه وإن لم أكن من أرباب فنه، كتاب «بطلان المجاز» بقلم الأستاذ مصطفى عيد الصياصنة، وقد ذيل مؤلفه مقدمته بانتهائه من تأليفه في مدينة بلجرشي بتاريخ الخامس عشر من شهر صفر عام عشرة وأربعمائة وألف. وقد اتفق مع جلِّ ما ذهب اليه المؤلف، غير انني قد لا أتفق معه في قليل مما ذكر. وأورد المؤلف ان الناس لا يفتأون يرون ان المجاز هو عبارة عن ذلك اللفظ الذي استعمل في غير ما وضع له أصلا، أما إذا استعمل فيما وضع له في أصل اللغة فإنما هو الحقيقة ليس غير. واسترسل المؤلف فقال: «وقد حفل كثير من العلماء في شتى أسفارهم بمثل هذه القسمة وما برحوا يدندنون حولها، حتى صار يخيل الى عامة الناس، انها الحقيقة اللازمة، التي لابد من الوقوف على دقائقها حتى يستطيع أي أحد فهم كتاب الله الكريم وتفسير آياته، وفهم كنة لسان العرب ومراداتها الفهم الواضح السديد.. هذا مع ان «مجازهم» هذا، لا يعدو ان يكون سرابا خادعا وشبحا موهوما، ليس له أدنى نصيب من عالم الحقيقة والواقع، إذ هو وليد اللفظ أعجمي النشأة، غريب المنبت، مقطوع الأصل، هجين الساق والفرع».انتهي
من المتفق عليه ان المجاز قد تم استغلاله من بعض النحل وتم امتطاء صهوته في سبيل البحث عن وهم الحقيقة كما يعتقدون وأمر البحث عن الحقيقة ذاتها التي يلهث خلفها بعض الفلاسفة، هي البعد عن الحقيقة ذاتها، فما كان لأصحاب علم الكلام والجدل من فضل في التقريب منها بقدر ما جلبوا من ابعاد عنها والحقيقة حقيقة، لا تحتاج الى أن تبحث في أعماقها لكونها هي الحقيقة.
وذكر المؤلف ان متأخري العلماء قد انقسموا في قضية المجاز الى طرفين ووسط فمنهم من قال بوجود المجاز في اللغة والقرآن معا، ودعم ما ذهب اليه بمجموعة من الأدلة العقلية كأبي حسن الآمدي صاحب «الكشاف» و«أساس البلاغة» والفخر الرازي صاحب التفسير، وابن حجر العسقلاني في كتابه «غراس الأساس» وكذلك الامام الشوكاني. وأنكر فريق وجود المجاز في القرآن الكريم ولغة العرب بالكلية مثل أبو اسحاق الاسفرائيني والامام ابن تيمية في فتاويه وتلميذه ابن القيم في «الصواعق المرسلة». أما الفريق الوسط فقد ذهبوا الى ان المجاز موجود في اللغة الآن.
إن وجوده في القرآن الكريم مردود، وممن قال بذلك محمد البصري المالكي، وداود بن علي الأصبهاني، ومنذر البلوطي وكذلك قال بقولهم الشيخ محمد أمين الشنقيطي، أما الإمام ابن حزم فقد وقف موقفا متأرجحا.
والمجاز مأخوذ من الجواز، واختلاف العلماء هذا حوله نابعة من حدود دلالته، ومقدار التوسع في ذلك، والعرب في نثرهم وشعرهم يستخدمون المجاز لأنه أحد أنواع البديع كقول زهير بن ابي سلمى:
قف بالديار.. التي لم يعفها القِدم
بلى، وغيَّرها الأرواح والديم
فقد رجع عن قوله «يعفها القدم» بقوله «بلى وغيَّرها الارواح والديم» او كقول المتنبي:
لم تحك نائلك السحاب، وإنما
حمت فصبيبها الرُّخصاء
فهو يدعي ان السحاب قد اصابته الحمى، من الغيرة من كرم الممدوح فانصب منه العرق، وما هذا الماء الذي يتصبب منه العرق، وما هذا الماء الذي يتصبب منه إلا ذلك العرق المنصب من شدة غيرته.
والرخصاء العرق يكون أثر الحمى.
كفى بجسمي نحولا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فوصول الشخص الى هذه الحال من النحول جائز عقلا، ولكنه ممتنع الوقوع عادة، وهذا من باب الاعراف في المبالغة، والإغراق ما أمكن عقلا، واستحال عادة، الغلو. ما استحال عقلا وعادة، وهو مقبول عند اهل اللغة كقول أبي العلاء المعري:
يذيب الرعب منه كل عضب
فلولا الضمد يمسكه لسالا
فذوبان السيف وانصهاره فرقا من الممدوح ستجعل عقلا عادة الا ان هذا القول مقبول من أصحاب اللغة وكلا المظهرين من مظاهر المبالغة الإغراق والغلو.
ومن ذلك الاستعارة التخيلية حيث يتم تخيل شيء لا وجود له بل هو أمر وهمي ثم يستعيرون له كقول ابي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني
صب، قد استعذبت ماء بكائي
فقد توهم للملام ماء، فأطلق اسمه عليه على سبيل الاستعارة التخيلية والمجاز من بديع اللغة اذا استحسن استخدامه في موضعه. أما اذا تعداه الى البحث عن الحقيقة ومن ثم البعد عن الحقيقة فهذا مردود على صاحبه.
|
|
|
|
|