| الاخيــرة
يا لكمين الأمكنة حين يكون مسلحاً بسلطة الذكريات الشخصية وبجبروت الذاكرة الجمعية ومحفوراً بطاقة الخلود في مرورنا الآتي الزائل.
يا لكمين الأمكنة حين يتمكن من اقتناص ارواحنا فينصب شراكه الرحبة وأشواكه الشفافة حول أشواقها الشرسة للترحال لئلا تضيع منا تماماً في وحشة الأماكن الجديدة، في حمى التنقل أو في ألفة التعود على الأمكنة بما يفقدها غموضها ودهشتها.
يا لكمين الأمكنة حين يذكرنا في كل لحظة كم نحن عابرون، وكم أعمارنا راكضة وكم اقامتنا مهما طالت مؤقتة ومهددة.
عندما حملني الشوق الخفي مرة أخرى الى المدينة المنورة هذه السنة وبعد أن وجدت نفسي غريبة للمرة الثانية بين طوق الفنادق واسورة الشقق المفروشة بالغلاء بين أوقات الصلوات كان عليّ أن أعود بيسر وخفة الى ذاكرة الطفولة لأنبش منها ولكن بعسر ومشقة التاريخ والجغرافيا معاً بحثاً عن معالم أخرى غير المتاجر الباهظة ومطاعم الوجبات السريعة بمركز طيبة لأستعيد منها أطياف وأخيلة المدينة المنورة كما لقيتها أول مرة.
المدينة المنورة الشامخة المتحالفة مع المستقبل من قبل 1422 عاماً كيف ندخلها وكيف نعلم ابناءنا وانفسنا طيب جوارها النبوي الكريم وكيف نرى فيها ما لا نراه.
في كل شبر من أرض المدينة المنورة قصة بطولة وكفاح وملحمة بناء وفتح، وفي كل ذرة من تراب أرض المدينة لؤلؤ. من عرق ملايين البشر الذين حملتهم أشواقهم توقاً الى مجاورة المصطفى صلى الله عليه وسلم عبر مئات السنين. حتى انه لا يكاد يوجد عرق من اعراق البشر إلا ويوجد فيها.. وحتى أنها صارت على مر العصور بوتقة للانبهار والتمازج البشري في غير تمايز أوعنصرية.
فهل حين يجود الزمان ونزور المدينة المنورة نعي ونبصر بغير عيوننا اننا لا نسير على قطعة من الأرض كسواها من أرض الله الواسعة وانما نسير على برزخ من اسرار التاريخ وعظمة إعادة كتابته.. أم اننا عندما نزور المدينة المنورة نفعل ذلك على عجلة من أمرنا بقصد السلام على اشرف البشر صلى الله عليه وسلم وزيارة الحرم المدني الشريف فنعجل في قضاء هذا المقصد وهو دون جدال مقصد فوق المقاصد كما أنه أساسي وعظيم بكل المقاييس ولكننا لا نمكن أنفسنا في تلك العاجلة من استيعاب الأبعاد الاخرى الكامنة في مثل زيارة هذه الارض بالذات وفي استنشاق كل ما يملأ هواء المدينة المنورة من عناصر التأمل والإكبار. فاذا كان الهواء خارج أرض الهجرة يتكون من ثلاثة عناصر فإن هواء المدينة المنورة يتكون مما لا يحصى من عناصر الحياة والحلم معاً.
عندما أتيتُ الى المدينة المنورة للمرة الثالثة في عمري الزمني وللمرة الأولى في عمر الاستيعاب والوعي وكنت في حوالي التاسعة نزلنا ككل زوار المدينة بالقرب من المسجد النبوي الشريف بباب المجيدي لنكون في أطيب صحبة كما يصبو إلى ذلك كل زوار تلك البقعة الطاهرة الآسرة. ولا أنسى إنني نهلت لأول مرة من نبع الإسراء والمعراج وقصص حياة الأنبياء من بسطات تلك المكتبات التي كانت على الطريق من الحرم الى البيت. غير أن من اعز غرف الذاكرة لتلك المرحلة الزاحفة بعيداً عني بالاضافة الى الصلاة في الحرم والوقوف أمام شباك الروضة الخضراء الشريفة هو ذهابنا في جولات عبر حواري المدينة المنورة ومناطقها المحيطة وبساتينها السوداء وبرك مائها المزرقة بما لا يرجع منها الذاهب كما أتى وإن سلك نفس الطريق للعودة حجراً حجراَ.
فمن مقبرة بقيع الغردق الى مرقد سيد الشهداء حمزة وشهداء أحد ومن وادي العقيق بين جبلي غرابة وجمة الى وادي رانوناء بمنطقة قباء الغناء حيث بني أول مسجد في الاسلام الى مسجد الغمامة ومنه الى أرض مسجد سبق بمنطقة المناخة حيث كانت أول موقع رياضي للمسلمين وأقيم فيها أول سوق للمسلمين.. ثم أصبحت ناخة للرواحل.
لم تكن هذه مجرد أسماء تعريفية للاماكن بالمدينة المنورة بل كانت رموزاً ضاجة بالماء والهواء لحفريات التاريخ.. كنت في تلك الطفولة المنسربة كمغيب شتوي أمر بها ويقشر شعر بدني وأنا اسمع بمنتهى الصفاء والوضوح أصوات أولئك الرجال والنساء الذين غيروا وجهة التاريخ من ثنية الوداع الى منطقة الخندق الممتدة من حرة الوبرة الى ما وراء وادي بطحان من منطقة الأولى الى منطقة البيعة مروراً بالعنبرية وجرف والعوالي والأنصار والروضة. فسلام على سيد البشر النائم هناك وصحبه الى يوم يبعثون. وللمدينة المنورة أن تتجدد بالجوار العظيم.. ولنا ألاّ تفلت من بين أيدينا تلك الأبعاد التي لا ترى بعيون حرمت من الدهشة والتأمل. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|
|
|
|
|