| الاقتصادية
* جدة عدنان حسون:
كلما جرى الحديث عن الماء، إلا وانسدل الستار على حقائق ساطعة لا يختلف حولها اثنان، لعل أهمها أنه ليست هناك موارد جديدة، وثمة كمية محدودة غير متجددة، هذا فضلا على أن ديمومة الحياة فوق البسيطة مرتبطة ارتباطا حتميا بالماء،
وتمثل مياه البحر 5، 97% من الموارد المائية الموجودة فوق المعمورة، فيما تختزن مناطق القطبين المتجمدين 24، 2% ولا تبلغ نسبة المياه المتاحة في شكل أنهار وبحيرات ومياه جوفية إلا 26، 0% ومن ثم يتضح ضآلة الكميات المتاحة لنا من المياه، والتي قد لا نتوانى في تبديدها على نحو غير معقول،
وتشير تقارير البنك الدولي الى أن 40% من ساكنة العالم موزعة على 80 بلدا يعانون نقصا حادا في الماء، وأن أزيد من مليار شخص لا يستفيدون من الإمدادات المائية النقية، بل إن عددا أكثر من هذا بكثير لا يدركون حجم استهلاكهم اليومي المباشر او غير المباشر من هذا المورد الثمين، وحسب تقديرات هذه المؤسسة المالية، فإن متطلبات الصناعة والزراعة الصناعية من الماء سوف تتضاعف في غضون خمس وثلاثين سنة، مما سيحرم ثلثي ساكنة العالم من المياه النقية، وإذا كانت الاستخدامات العادية للماء لأغراض الشرب والاستهلاك المنزلي معروفة لدى الجميع، فإن استخدامات أخرى تظل خفية، وتمر دون أو يدركها المستهلك العادي، فعلى سبيل المثال يحتاج انتاج كيلو غرام واحد من البرتقال الى 52 متراً مكعباً من الماء، وبعبارة أخرى يتطلب إنتاج ثلاثة أكواب من العصير 17 وايتا من الماء،
ثم إن إنتاج مجرد رغيف من الخبز يزن 200 غرام يتطلب 400 لتر من الماء، بدءا بزراعة القمح ووصولا الى قطعة الرغيف في شكلها النهائي ، ومما لا شك فيه فالمستهلك لا يرى الا المنتج في صورته النهائية، غير آبه بالكميات الهائلة من الموارد المائية الثمينة اللازمة لإنتاجه،
ولعل المثال الأكثر وضوحا على الاستهلاك غير العقلاني للمياه هو إنتاج اللحوم، فقد أورد كتاب نشر مؤخرا تحت عنوان «التكامل البيئي، ، متلازمة حماية البيئة والصحة» لكاتبه الدكتور دافيد بيمونتال استاذ علم البيئة والعلوم الزراعية بجامعة كورنيل احصائيات مهمة عن انتاج اللحوم إذ تبين أن إنتاج كيلو غرام واحد من اللحم يتطلب 100 ألف لتر تقريبا من المياه، ، فقد كتب الدكتور بيمونتال فائلا« أبانت المعلومات التي حصلنا عليها أن الحيوانات المعدة لإنتاج اللحوم تستهلك 100 كيلوغرام من الكلأ و4 كلغ من الحبوب نظير إنتاج كيلوغرام واحد من اللحم، وبتطبيق القاعدة الأساسية التي تقول بأن كيلوغراما واحدا من الكلأ والحبوب يتطلب 1000 لتر، نستنتج أن إنتاج كيلوغرام واحد من اللحم يتطلب 1000 لتر من الماء، وباستخدام نفس الطريقة الحسابية نجد أن إنتاج لتر واحد من الحليب الطازج يتطلب 4000 لتر من الماء، وإذا كان قطيع الأبقار الحلوب في السعودية البالغ عدده 56 ألف رأس يوفر الاكتفاء الذاتي للبلد من حيث منتجات الألبان، فإن ذلك يتم على حساب تكلفة ضخمة خفية، ولا تختزن أراضي المملكة العربية السعودية احتياطات نفطية فقط، بل تختزن ايضا احتياطات تحظى باهتمام أقل، وإن كانت ذات أهمية قصوى إنها المياه الجوفية، فقد أتاح استخراج هذه المياه بمعدلات تفوق بكثير معدلات تحددها تلبية احتياجات المملكة من المياه بحوالي 90 في المائة، وقد تجمعت هذه المياه الجوفية قبل آلاف السنين، ويبدو معدل تجددها ضئيلا جدا بحيث لا يكاد يذكر، وإذا علمنا أن معدلات المواليد في المملكة العربية السعودية تعتبر الأعلى في العالم، وأن ساكنة المملكة سوف تنتقل من حوالي 18 مليون نسمة حاليا الى 40 مليون نسمة بحلول عام 2025، فإن استخراج المياه الجوفية لن يعمر طويلا، ولن يكون الخيار الأنسب بحلول ذلك الوقت، وتستهلك الزراعة لوحدها 86% من الموارد المائية في المملكة، أغلبها من المياه الجوفية، وقد ظل الاكتفاء الذاتي الغذائي يحظى بالأولوية بالنسبة لجميع مخططات التنمية السعودية لسنوات عدة، وهذا ما جعل إنتاج القمح يصل الى 4 ملايين طن سنة 1992، في الوقت الذي لا يتعدى فيه الاستهلاك المحلي 3، 1 مليون طن سنويا،
وكان يتم إنتاج القمح بتكلفة تفوق ثماني مرات الأسعار العالمية، لكنه لا يباع الا بالسعر العالمي، وإذا كانت المملكة قد نجحت في تحقيق الاكتفاء الذاتي، فإن ذلك تم على حساب ملايين الأطنان من الموارد المائية غير المتجددة، ولعل الحرص على استمرار تحقيق الاكتفاء الذاتي سينعكس سلبا على احتياطات المياه الجوفية، فالزراعات التي تتطلب كميات هائلة من المياه خاصة إنتاج اللحوم والألبان الطازجة تعد السبب الرئيسي في نضوب الموارد المائية غير المتجددة، ومن المعلوم أن ندرة المياه في الجزيرة العربية ليست بمشكلة جميع بقاع العالم، إذ تقوم العديد من الدول التي يعتمد اقتصادها على الزراعة بتصدير أنواع شتى من الغذاء، مستخدمة المياة السطحية المتجددة فقط، ومستفيدة من ظروف مناخية ملائمة، وهذا ما دفع البنك الدولي الى تأسيس مفهوم «المياه التفاعلية» وينطبق هذا المفهوم على المياه المستخدمة في إنتاج المحاصيل والمنتجات الغذائية المصدرة الى الشرق الأوسط، ويكتسي هذا المفهوم أهمية قصوى بالنسبة للدول المستوردة، لأنه يمكنها من الحفاظ على مياهها الجوفية غير المتجددة، وهكذا فالمحاصيل الزراعية التي تحتاج الى كميات ضخمة من الماء كالقمح والحليب ومشتقاته يمكن استيرادها من الدول التي تملك الموارد المائية المتجددة، وفي ظل النضوب المطرد للموارد المائية الجوفية بالمملكة بحيث لن تصبح مصدرا يعول عليه في غضون بضعة عقود، يبدو أن الوقت قد حان لإعادة النظر في نوع المحاصيل التي تتم زراعتها بالمملكة، ويظل السؤال الأبرز وهو: ما مصير فكرة الاكتفاء الذاتي عندما تنضب الموارد المائية الجوفية؟ فالزراعة تستهلك نصيب الأسد من المياه بالمملكة، ويذهب الجزء الأكبر منها الى محاصيل معروفة باستهلاكها الضخم للماء، في الوقت الذي لن يكلف استيرادها إلا القليل بالمقارنة مع تكلفة إنتاجها محليا، ومن هنا يتضح أن مفهوم اقتصاد «المياه التفاعلية» فكرة في غاية الأهمية،
ودعك تنظر الى الأمر من زاوية أخرى، حينما تأكل مستقبلا قطعة هامبورغر صغيرة بالجبنة، تذكر أنك استنفدت كمية من المياه الجوفية غير المتجددة تصل الى 12 ألف لتر، وهي كمية قد تلبي احتياجات الأسرة السعودية المتوسطة لمدة تزيد على ستة أسابيع، ولك أن تتساءل بعد ذلك: الى متى سنظل قادرين على استهلاك الماء بهذه الطريقة؟،
|
|
|
|
|