أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 2nd August,2001 العدد:10535الطبعةالاولـي الخميس 12 ,جمادى الاولى 1422

الثقافية

كتابة
الصبح
أحمد الدويحى
البارحة تلقيت ركلة خفيفة في باطن رجلي، وكنت متعباً غارقا في النوم، وفي الأحلام بالناس الذين رأيتهم أمس في صبيا، للتو بالكاد مضيت ساعة زمن بعد، ما خلعت معطف ضياع أمل بنت يوسف، وهجعت في فراشي هامداً، وقد دخلت إلى بيتنا في جنح الظلام، فتحت عيني وإذا صديقي الكناس المريض بالقلب وقريب عمتي، الذي صار ملازما لي في البيت، ويضرب أبر القلب العلاجية بيده ثلاث مرات في اليوم، ونهضت لتأدية صلاة الفجر وفي الطريق إلى المسجد، يقرأ الامام الآية الكريمة من سورة الكهف، قوله تعالى: «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا»، وفي المسافة ما بين باب بيتنا وباب المسجد أخرج صديقي المريض قلما من جيبه، وناولني قائلاً:
- أنت جدير به!
ولم أظن للحظة أن حكاية القلم تتجاوز الهدية، القلم الذي ظل يخط لأثنين وأربعين عاماً لم يتعب ، ولم يضع مرة أخرى مثل ما فعل الآخرين، قلت بدهشة:
- ما حكاية هذا القلم؟
- أنت اكتب بحبره المميز تفاصيل اليوم، وأنت ستعرف في النهاية المكتوب، ودع حكاية القلم إلى النهاية أبلغك بها..!
في اللحظة التي بدأ القلم يسيل حبره فيها، تجاوزت الإشارة الأولى في شارع العليا العام، ثم الثانية والساعة توشك التاسعة صباحاً، ثم أنعطف إلى اليسار ليرافقني مندوب تأجير السيارات إلى مرور شمال الرياض، المندوب شاب في الثلاثين أسمر له لحية من ضرورات العمل بين أصحاب البناطيل، شاحب نحيل له عينان غائرتان وابتسامة شاحبة على وجهه ، ميزني فور دخوله مباشرة وقد انتظرته عشر دقائق، في الطريق إلى مرور شمال الرياض الذي ينتظرني فيه فصل جديد، أشعل سيجارته الأولى ورائحة التبغ تجرح صدري وحلقي، بعد ما فقدت صوتي ويمامتي..
مضى يسوق لي تفاصيل أخرى من قضايا، وسرحت في حدس وشك حول بطلة النص التي يسوقها لي حبر، قلم صديقي مريض القلب الكناس قريب عمتي هذا اليوم، وليس من بأس فما علي إلا أمضي إلى النهاية، المدينة تجوب بالسائرين ونخوض أنا والمندوب اتجاهين في حكاية واحدة، وفجأة يسألني:
- أنت بتحرر السيارة من الحجز، ولا تدور تحرر سائقها..؟
- معا إذا أردت!
شعرت أني تسرعت في إعطاء جواب لأمر لا أملكه، فالمندوب معني بتحرير السيارة والعطف الذي دفعه لي الآن ولآخرين في قضايا، لم يمل بعد يروي لي غرابة بعضها والتفاصيل التي أخذتها، لتصبح قصص يتسلى بها المعقبون والضباط، كان يعرف تماما المسافات والاتجاه الذي سيأخذنا إليه، وبين سيارات كثيرة، عرفت أننا وصلنا في مواجهة مقر مرور شمال الرياض، في المدخل قضبان حديدية يمسك بها وجوه متعددة من البشر والأجناس، وضع المندوب رأسه في داخل الشبك الحديدي ونادى بصوت حاد:
- سائق السيارة «الصني»، المستأجرة من ينبع هنا؟
يبرز شاب في الثالثة والعشرين نحيل من بين عشرات من أصحاب البناطيل، ويتبعه شابان في عمره آخران، يقفان بعيدا وراءه، يبتسم له المندوب:
- أبشر يجئك الفرج!
وصعد درجات السلم، وفي الطريق إلى مكتب الضابط كنت أمشي وراءه بصمت، ألقي تحية الصباح إشارة وتقبيلاً، على كثير من الذين شاهدهم هذا اليوم، ودون تحت اسم قائد السيارة «عاطل»، وملاحظات كالتالي:
- تفحيط متعمد في مواجهة رجال الأمن
- تفحيط وهروب..
- هروب مترجل..
الضابط شاب في الثلاثين وسيم، له لحية تفرضها نواميس القبيلة التي تسمه، وله صلعة كبيرة وصموت ومؤدب، يناول المندوب الأوراق الذي يعرف ما يفعل، ويوجهه:
- روحوا خلصوا الأوراق من الدوريات - وحدة المعارض وحرروا السيارة، وتعالوا لي بثلاثة عروض من الورش!
هز المندوب رأسه دلالة المعرفة بما عليه أن يفعل، وقفت دون أن أدري ما هو دوري فسألت الضابط الذي توسمت فيه الأدب:
- والسائق يا طويل العمر..؟
- خليه ينطق!
سحبني المندوب من ذراعي، وفي الدرج الأرضي لباب الخروج، المواجه للباب الحديدي الذي يقف الشاب خلفه، قال لي المندوب مبتسماً:
- ما قلت لك الدعوى ما هي بسيطة!
وغمزني مضيفاً:
- أنت غريب الناس تشغل الجوالات في أمور أكبر من هذه، وإذا الأمور استدعت أكبر ما يهم! المسافة ما بين مرور شمال الرياض، وما بين الدوريات - وحدة المعارض- في داخل البلد، تذكرت في هذه المسافة رحلتي ليوم أمس، ليس فيها بطلة منتظرة إلى حد الآن، وما بينهما هذا الطقس الحار الجاف اليوم والرطب أمس، المسافات تزداد متاهة داخل المسافات والمندوب يفاجئني قائلاً:
- اليوم ما يمد، زوجتي مدرسة وحان وقت خروجها، أجيبها للبيت وأمر على الدوريات، وأخذ ورقة تحرير السيارة، وأواعدك في العصر نذهب إلى الحجز في لبن لنأخذ السيارة!
وفي العصر بلغني المندوب أن علينا أن نتواعد في الصباح، لنأخذ ورقة أخرى من مرور شمال الرياض لنحرر السيارة من الدوريات - وحدة المعارض- في داخل البلد، ولنأخذ ورقة إلى الحجز في لبن لنحررها، وصحت به بقرف:
- ألم نأخذ ورقة تحريرها اليوم من مرور شمال الرياض؟
- أنا أدرى منك!
لم أصدق المندوب، وفي المساء جاء صديق كناس قديم من أصحاب البناطيل لزيارتي، هذا الكناس يحدد مساحة كنسه في «لوحة»، يرسم عليها شخوصه الذين يود كنسهم، وهو لا يفعل هذا كثيراً ويستعيض عنها برسم الطبيعة، بسبب حدث غير مجرى حياة هذا الصديق الكناس العتيد، إذ أراد مرة أن يمارس جنونه وفنونه في الكنس على اللوحات، إذ كان في بلد عربي في شمال أفريقية، ورسم بطيخة خضراء فوقها ديكا بعرف أحمر، وجعل الديك ينقر بحقد وكبرياء منفوش حبوب البطيخة المفتوحة السوداء..
وحينما حاول صديقي الكناس، أن يكنس حبوب البطيخة، من وجه لوحته التي تبدو كأنها أسناس مسمومة، خاف بسبب تفسير معنى لوحته، وخوفه الأكبر من مصير معروف بات ينتظره، لم يستطع ليجد نفسه مكنوسا من بلد إلى بلد، وفي مدينتنا هذه لم يستطع أن يكون إلا كناسا ماهراً، إذ غضب حكى مثلنا كل شيء، ومن قال اننا نحكي في غير الغرف الأخرى، هذه الغرف الأخرى قال لي حكايتها مرة فكاد يجنني، البطل يصرخ من غرفة إلى أخرى وفي كل غرفة وجوه تتغير بطبيعة الحال، ولابد أن تكون يقظاً ولا جننت، وأنت في لحظة خارقة ونادرة، تقتنص ما تريد من هذه العوالم، وتدفع الثمن من أعصابك وروحك وعمرك في لحظة أيضا، قلت له بغرابة:
- بصراحة شديدة لم أفهم؟
- دعني أبسط المسألة لك إذا سمحت وسامحني على البوح!
قلت له وأنا أصغي بمنتهى التحديد والتحديق، وغير راغب في مقاطعته:
- طبعا كعادتك إشارات على مطاردة أحصنة جموحك!
- عندك سبع بنات، طبعاً هذا البلد الطبيعي أن تضمن للبنت فيه حياة كريمة، ان أنت أردت أن تستر عرضك؟
وظللت صامتا دون جواب مني وأضاف:
- الخطورة أن تأتي لحظة وتشعر فيه أنك خسرت كل شيء، إذا وقع الحظ العاثر لواحدة من البنات في وجه من لا يصونها..
- هذا طبيعي أنت تعرف التحولات الحادة التي مست كل شيء، ولابد أن يكون لها إفرازاتها، وأول من يتأثر بها سلبا الشباب بنات وأولاد، ولابد أن تحذر..!
- كدت أكلها على رأسي، والله الذي يستر في الأخير، لما عرفت الولد قلت في المال ولا في العيال!
وفلتت زفرة من صدر صديقي الكناس العتيد، في اللحظة التي بدأ فيها طيري يصيح «طيط.. طيط.. طيط»، وقد نسيته منذ فترة طويلة، كما نسيت أزهاري التي أصبحت فواحة نضرة، تقطف منها أختي كل يوم لتضعها فوق صدر ابنها «ساري»، قلت لصديقي الكناس الذي أخرجني من عالمي:
- غداً لدي مشوار لتحرير فتى «عاطل»،وأنت تعرف همومي التي حكيت لك عنها!
- والوظيفة على أضمنها لك في نفس الشركة، من أجل عينك!
وتبادلنا نظرات ذات معني، إذ يودعني صديقي الكناس العتيد لهموم يوم جديد.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved