| مقـالات
يبدو أن مفهوم «المجتمع المدني» أضحى صرعة من صرعات هذا العصر، فما من مطبوعة عربية تكاد تخلو من مادة تعرض وتحلل وتوزع رؤى وتصورات متعددة ومتباينة، حول هذا المفهوم الذي أصبح، اليوم، بمثابة «قيمة مرجعية» لا تختلف كثيراً عن مفاهيم «الديمقراطية»، و«حقوق الانسان» التي نمت وتطورت في ظل التطورات العديدة التي شهدها التشكيل الحضاري في العالم الغربي. ولعل الانتشار الواسع لهذا المصطلح دفع البعض للقول متندراً: إن المرء يخشى أن يطالعه مفهوم المجتمع المدني، اليوم، لا حين يفتح كتاباً أو مجلة، بل حين يفتح الباب أو يطالع من النافذة، ويرى البعض الآخر أن «المجتمع المدني هو الآن بؤرة النقاش والحوار في الشرق الأوسط» وهنا محاولة لرصد هذا المفهوم بنشأته التاريخية وأسسه الفلسفية، وكيف تعاملت معه الليبرالية الغربية المصدّرة لهذا المفهوم، ومن ثم عرض لملامح المجتمع المدني في الدولة الإسلامية الأولى.
النشأة والظرف التاريخي للمصطلح
مصطلح «المجتمع المدني» مر خلال تطوره بمجموعة من المراحل التاريخية، فاستخدمه ارسطو كمرادف للدولة وأسماه «المجتمع السياسي» )Koinonia Politike( في اليونانية التي ترجمت إلى الانجليزية )Political Community( وبقي هذا المصطلح يحمل صبغة سياسية في دلالاته اللغوية إلى أن قام الفرنسيون بترجمة كتاب «السياسة» لأرسطو إلى اللغة الفرنسية فاستخدموا كلمة )civil( مدني، بدلاً من )Political( التي تعطي معنى سياسياً.
وأياً كان مصدر المصطلح فلا يمكن ، بأي حال من الأحوال، عزله عن السياق التاريخي الذي نشأ فيه، فالتاريخ يمكننا من الاستدلال أولاً على الظروف التاريخية التي أحاطت بتشكيله وتشكله حتى استقر على ما هو عليه الآن «قيمة مرجعية حاكمة». ومن ثم فهم التضمينات الفلسفية التي تقف وراءه وتثير كثيراً من الالتباس، كما أن هذا الادراك يساعدنا، كعرب ومسلمين، في تحديد وبناء موقف أكثر عمقاً في النظر الى مفهوم «المجتمع المدني» والتفاعل معه، وبالتالي بلورة وتحديد الملابسات التي يجب أن نعيها عند نقل هذا المفهوم الذي نشأ داخل تشكيلة هي مصدر الحوار والجدل والصراع الفلسفي والسياسي، حول ازدواجية التناقض بين الدولة السياسية والمجتمع المدني، وعلاقته بأزمة المشاركة السياسية للجماهير بجانب الدولة.
ان الليبرالية الغربية التي تمثل اليوم ايديولوجية «المجتمع المدني» تعتبر الحرية هي المبدأ والغاية، واستطاعت هذه الفلسفة بناء منظومة فكرية مكتملة حول الحرية داخل «المجتمع المدني» خلال مراحلها الأربع التي مرت بها. ففي المرحلة الأولى من تطورها ركزت على مفهوم الفرد باعتباره صاحب الاختيار والمبادرة. وفي المرحلة الثانية تم تشييد علم الاقتصاد السياسي وعلم السياسة النظرية، والمؤسسون على تناقض تام مع الاقتصاد الاقطاعي وسياسة الاستبداد الاقطاعي اللذين كانا سائدين في القرن الثامن عشر.
أما المرحلة الثالثة من الليبرالية الغربية فقد عرفت بنزعة المبادرة الفردية المبدعة. في حين كان حق الاختلاف والتباين والمعارضة هو أساس مفهوم الحرية في المرحلة الرابعة. الا أن ما حدث لاحقاً هو استحلال الدولة السياسية لمبدأ الحرية أحد المكونات الأساسية «للمجتمع المدني» وتحويله الى مبدأ الاضطهاد، وهذا بات مألوفا في الدول الرأسمالية الصناعية الغربية، ذلك أن سلطة الدولة هناك باعت حقوق الفرد المالك المبدع باسم حقوق مجردة للفرد العاقل. والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية حولت الأغلبية المسحوقة من المجتمع المدني الى مجرد قطيع خاضع لأقصى درجات الاستغلال.
فالحرية في هذه المجتمعات المدنية، هي في يد الفئات أصحاب المصانع والتجار وأصحاب الأراضي والمؤسسات المالية وذريعة الدولة السياسية أو بعض الهيئات الفعالة، لكي توفر للأفراد ظروف الحرية الايجابية المتمثلة في مشاركة «المجتمع المدني» انتخاب ممثلين عنه في البرلمان، باعتبار هذه المشاركة السياسية هي ركيزة الايديولوجية الليبرالية، وأساس الديمقراطية الغربية.
كما أن ظهور القوة المتطرفة للنزعة الفردية الليبرالية، والدعاوى الايديولوجية والسياسية لسيادة الديمقراطية الليبرالية، باعتبارها أسلوباً تقنياً للتوفيق بين الحرية السلبية والحرية الايجابية، أدت إلى تسليح الأقلية من الأقوياء والرأسماليين ضد الأغلبية الساحقة من الضعفاء من «المجتمع المدني» تحت ستار «قدرأكبر من الديمقراطية الليبرالية». وهذا الوضع يعزز سيطرة المجتمع السياسي، بأدواته المادية والقهرية على «المجتمع المدني»، فالأيديولوجية الليبرالية التي تؤمن بسلطان الحرية غير المحدود، وسلطة العقلانية، عملت على تقوية الحكم البرجوازي للدولة السياسية، التي تكمن سياستها الاقتصادية الرأسمالية في احزابها ومنظماتها السياسية وأجهزتها البيروقراطية الادارية، وليس في معاقل «المجتمع المدني». فالمشاركة السياسية للأخيرة عبر آلة الديمقراطية، تم بموجبها تأمين ضمان ولاء الطبقات الشعبية عبر اخضاعها واتباعها لحكم البرجوازية. والديمقراطية في حضارية غربية إلى تشكيلتنا الحضارية بقيمها وفلسفتها ونظرتها الى الكون والحياة والإنسان. فمفهوم «المجتمع المدني» تاريخياً، نشأ في أوربا القرن السابع عشر والثامن عشر في اطار الصراع بين القديم والجديد، أي في اطار التخلص من أزمنة العصور الوسطى، واعلان القطيعة مع النظام القديم جملة وتفصيلا، والقبول بنظام جديد على أسس مختلفة ومخالفة، وقد التبس بمعارك فكرية وأيديولوجية، كما ارتبط بقوى اجتماعية صاعدة وأخرى مختصرة، فتركت هذه المعارك آثارها على الأسس الفلسفية التي تشكل قاعدة ومنطلقاً لمفهوم «المجتمع المدني».
والصراع لم يكن مقصوراً بين المجتمع والدولة، كما يصوره العديد من أنصار «المجتمع المدني»، وانما كان صراعاً أيضاً بين الأفراد والتكوينات داخل المجتمع، بهدف تحقيق مصالح خاصة، «فالمجتمع المدني» يعرّف بأنه «مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها».
واذا كانت نشأة المفهوم تمت في اطار الصراع بين الأفراد لتحقيق مصالحهم الخاصة، فإنه نشأ أيضاً نتيجة للصراع بين الدولة والمجتمع في أوربا، وفي ظل تطورات العلاقة التي قامت بينهما عندما تكونت لدى الدولة ارادة السيطرة والاحتواء وتكوّن لدى المجتمع نزوع نحو المزيد من الاستقلال والتمايز عن الدولة والتخفيف من وطأة حضورها.
فنشأة «الدولة القومية» في أوربا كانت الطريق والأداة الأهم في التخلص من العصور الوسطى والانتقال الى العصور الحديثة. فكانت اداة توحيد للقوميات المتباينة والمنقسمة بشدة، كما كانت السبيل لتحقيق «السوق الواحدة» التي تعد مطلباً جوهرياً من متطلبات الانتقال من المرحلة الاقطاعية الى المرحلة الرأسمالية، على اعتبارها هي السبيل لتبادل السلع والخدمات بحريَّة كاملة، وما يرتبط بذلك من انتاج كبير يسمح بهذا التبادل. لكن وفي هذا السياق ولتحقيق هذه الأغراض تجبّرت الدولة القومية، وزادت سطوتها على المجتمع، اذ ارتبط بها تحقيق العديد من المهام والأدوار لصالح بعض الفئات الاجتماعية الصاعدة وخاصة الرأسمالية. وقد تأكد هذا التوسع في الدور حين تحولت الدولة إلى أداة الاستعمار الغربي ووسيلته الأساسية. كل هذه التطورات رجحت الكفة لصالح الدولة على حساب المجتمع، فكان لابد للمجتمع أن يعود للتوازن بينه وبينها في مرحلة تالية من مراحل التطور.
الليبرالية الغربية والحرية الموهومة
اذا كان مفهوم «المجتمع المدني» قائماً على مبدأ الحرية، فهذا يعني أنه حر فيما يختار. وقد كانت حرية «المجتمع المدني» التي لا يحق لسلطة الدولة السياسية، عادة، التجاوز والتعدي عليها، المجتمعات الرأسمالية اضحت عملية اشراك واستيعاب شمولية «للمجتمع المدني» كله، من جانب الدولة السياسية البرجوازية بواسطة حقيقة دولة القوانين المسيطرة.
وعلى هذا الأساس كان البرجوازيون عموماً قادرين على تكييف الديمقراطية وطبيعة الانتخاب والترشيح العام والانتخابات الحرة ومسؤولية الحكومة تجاه الناخبين، بحيث تتلاءم جميعها مع جهاز الدولة.
إن هذه الحياة المزدوجة للانسان في الدولة الديمقراطية البرجوازية، أو هذا الانشطار بين حياته الواقعية الخاضعة لسلطة رأس المال وبين حياته الموهومة على سيادة موهومة، باعتباره مواطناً مجرداً في الدولة السياسية، ان هذا الانشطار هو الذي أفضى إلى الانشقاق أو الفصام بين المجتمع المدني والدولة السياسية الغربية.
التجربة الإسلامية
عملية انماء المجتمع عملية مركبة، ويصعب في أحيان كثيرة تحديد مفرداتها، لأن المجتمع هو مجموعة من القيم والمبادئ والموازين والمقاييس التي تعرض على المحك العملي ليحدد من خلالها نجاح أو فشل تجربة اجتماعية ما. و«المجتمع المدني» يتشكل من خلال مؤسسات وفعاليات ثقافية وسياسية متحركة، تشكل أساس تمدنه، وإلا فهو عبارة عن تجمعات متناثرة كما هو حال مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل الاسلام، حيث كانت القبيلة أو العشيرة وحدة مستقلة تنفرد ببعض التقاليد والأعراف التي تتعارض مع نظيراتها في نفس البقعة الجغرافية.
وحين قدم الرسول صلى الله عليه وسلم كان أول عمل قام به هو لم شتات قبائل العرب في اطار وحدة اجتماعية متماسكة «فالمسلم أخو المسلم» وعملية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة تعد عملاً مثالياً نادراً في التاريخ البشري.
فكيف لأعرابي يرى كل من لا ينتمي الى قبيلته أجنبياً، أن يتخذ له أخاً من قبيلة أخرى. بل ان بعض الأنصار طلق بعض زوجاته لتزويجها من أحد المهاجرين القادمين من شعاب مكة.
وهنا كان للمدينة الاجتماعية التي شيدها الرسول صلى الله عليه وسلم دور بارز في ارساء قواعد هذا التشكيل المجتمعي الجديد، فكان المسجد / الجامع أول مؤسسة «قانونية» شرعية تمثل رمز الدولة الإسلامية الحديثة. وكان الحث على حضور المسجد / الجامع أمراً واجباً، فبدأ الشكل المؤسساتي يتبلور داخل هذه المؤسسة الصغيرة، وتتبين معالم الدولة المدنية من تعليمات هذه المؤسسة التي جمعت بين القداسة في المفهوم الديني والشعبية في العرف الاجتماعي، حتى ان التجمعات الحزبية، ان صح التعبير، بدأت من أروقة هذا المسجد، في دلالة على مدنية الدولة وتحضرها، خاصة وأنها نبعت من مجتمع أبعد ما يكون عن الأشكال الحضارية.
كما كان لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وأجواء الحرية التي أشاعها بين أفراد هذا المجتمع الجديد الدور الأهم في تسريع عملية الانماء الاجتماعي الحضري للدولة الاسلامية، فيأتي الأعرابي من أقاصي الجزيرة ويمسك ب «قائد الدولة» النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: «اعدل يا محمد».
فحجم المسؤولية وعظمها كان في الجسر الموصل الى رعاية المجتمع تأمين مطالبه الأساسية. هكذا كانت البداية لتتضافر بعدها جهود مخلصة في انماء «المجتمع المدني» في المدينة المنورة، أهمها شخصية قائد الدولة، ثم الفطرة البدوية التي تختزن العوامل الأخلاقية في أفراد الجزيرة، وبالذات سكان المدينة المنورة والتي تعد أحد أسباب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لها كمركز لإقامة دولته، التي ظل هاجسها وهدفها الأسمى هو الانسان، الإنسان في حريته وضمان أمنه الاقتصادي والاجتماعي. وقد اتضح مظهر التفاعل الاجتماعي مع السلطة الدينية، حين اتخذ اشكالاً مثالية جاءت نتيجة لعدالة هذه الدولة ورغبتها في خدمة المجتمع.
ولم يكن القائد أو من يعينه هو المسؤول الوحيد في الدولة والمجتمع، بل ان الفرد، أي فرد، هو مسؤول بنص الحديث الشريف «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». وقد نمت الحياة الدينية وازدهرت في «المجتمع المدني»، حتى غدت ثقافة هذا المجتمع هي النموذج المعتمد في التنظيم الاجتماعي للأقاليم وتوابع الدولة الإسلامية فيما بعد. وكانت الخطوات الأولى التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي:
)تغيير اسم يثرب الى «طيبة» وبناء مسجد المدينة و ايجاد الاخوة الاسلامية( فكانت عملية ذوبان المهاجرين والأنصار في نظام المجتمع الجديد.
وفي المدينة بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بإنشاء أول مؤسسة اسلامية ضمت العديد من المؤسسات الفرعية الأخرى، تمثلت في المسجد الذي اشترك في بنائه جميع المسلمين حتى الرسول الكريم بنفسه المباركة، وبعد ذلك تمكن عليه السلام من جعل المدينة قاعدة اجتماعية نظامية ودينية محكمة، وكان القصد من ذلك هو استمرار نظام سياسي قوي قائم على أساس الاسلام في شبه الجزيرة لينطلق بعد ذلك الى العالم أجمع. وقد ضمت مؤسسة المسجد / الجامع عدة مؤسسات في المفهوم الحالي مثل: المؤسسات القضائية، حيث تجري جميع الشؤون القضائية من أحكام وجزاء ومقاضاة داخل هذه المؤسسة. اضافة لقضايا الزواج والطلاق، والمؤسسة المالية المسؤولة عن ادارة أمور الزكاة والخمس والجباية، وموارد صرفها، وقد أنشىء مركز اقتصادي اسمه «بيت المال» تجمع فيه الوجوه الشرعية من الزكوات وغيرها وتصرف في مصالح المسلمين. اضافة لذلك فان الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عين مسؤولين متخصصين في خمس الغنائم، يتولون ضبط الغنائم وكتابتها والحفاظ عليها بدقة متناهية.
وقيل: ان الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل هجرته الى المدينة قد عين للأنصار نقيباً ليتحدث عنهم، كما عين لكل اثنتي عشرة قبيلة رئيساً، كما جعل العريف، وهو الممثل لمجموعة قوامها عشرة أفراد، تحت اشراف وتصرف النقيب، وكان النقيب ممثلاً لكل القبيلة، بعهدته مسؤولية الحرب والصلح ونحوها، فاذا لم يستطع النقيب حل نزاع في مجموعته أو ان أحد طرفي الدعوة مرتبط بقبيلة أخرى يكون الحل النهائي لهذا النزاع برده الى الرسول صلى الله عليه وسلم. في التشريع الإسلامي يقال لكل من يضبط المخالفين «الشرطي» أو «الحرس» وقد أنشئت مؤسسة «الشرطة والحرس» هذه قبل قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة، لتقوم بمهمة الحراسة وحماية الناس من اللصوص وغيرهم، في مسعى من الرسول الكريم لإشاعة الأمن الاجتماعي لأهالي المدينة، ومع ذلك فقد كانت مهمة هذه المؤسسة محدودة جداً، لأن النظام الاسلامي رسخ عملية «التسيير الذاتي» التي ضمنت سير العملية الاجتماعية بشكل مثالي رغم وجود المعارضة المتمثلة باليهود والتي احتفظت بحقوقها في ظل الدولة الجديدة.
لقد استمر النظام الاسلامي بفروعه ومؤسساته المختلفة حتى العهود الاسلامية المتأخرة متضمناً أرفع أشكال الدولة ومنظماً لأدق شؤون الناس الحياتية وهذا يؤكد بأن مفهوم «المجتمع المدني» ليس مشروعاً عصرياً في عالمنا الاسلامي، وأن الاسلام يملك من أدوات البناء الاجتماعي ما هو كفيل ببناء مجتمع «مدني» سليم من أمراض ارتباك حالة الرؤية وفقدان المنهجية العلمية وتكرار القديم بمصطلحات جديدة.
|
|
|
|
|