| مقـالات
لاشك أن قرار مجلس الوزراء الموقر بخصوص إنشاء مجلس علمي للترجمة هو قرار حكيم، يعكس مدى الفهم العميق لمتطلبات المرحلة الزمنية القادمة. فتوطين العلوم والمعارف أصبح هو الهدف الاستراتيجي الأسمى التي تسعى معظم الشعوب لتحقيقه. وتوطين العلوم والتقنية لا يتأتى إلا بترجمة تلك العلوم والمعارف إلى اللغة التي يستطيع المجتمع بكل فئاته فهمها واستيعاب دقائق العلوم من خلالها.
وقد اثبتت الدراسات الجادة إلى أن من يتعلم التقنية بغير لغته الأم، قد لا يستطيع التلقي فقط، إذ أن الحاجز اللغوي سيبقى دائما حجر عثرة في سبيل الإبداع. وإذا تيسر لأحد الأشخاص أن يبدع في مجال تقني معين تعلمه من خلال لغة أجنبية فان ذلك الابداع سيبقى محدود الاثر في أمته ومجتمعه ما لم يترجم ذلك الابداع إلى لغتهم.
والترجمة هي الطريقة المثلى لنقل العلوم والمعارف وتأصيلها في ثقافة المجتمع، حيث ان «استنبات» العلوم وتجذيرها في الثقافة يسهم في تهيئة الظروف للتفاعل الايجابي مع الحقائق العلمية، وفهم دقائقها، ومن ثم الإسهام في تطورها، بل وكشف حقائق علمية جديدة.
وقضية الترجمة على وجه الخصوص من أحد مظاهر «الاستثمار اللغوي» الموجود في كل لغات العالم، إذ أنها تبث الحياة من جديد في اللغة التي تنقل إليها تلك العلوم. وتسعى كل لغة إلى التعبير عن المستجدات العلمية والتقنية بكلمات تنبع من اللغة نفسها، بهدف تيسير فهمها للمتحدثين بتلك اللغة. وفي ذلك يقول كابلان )Kaplan( وبلدوف )Baldauf(: «الاستثمار اللغوي حق مشروع لكل لغة للتعبير عن المستجدات ومتابعة المتغيرات، وهو من أهم عوامل النماء اللغوي» ص.7.
إذن الترجمة ضرورة لغوية إذ إن إقصاء اللغة أي لغة عن التعبير عن المستجدات يؤدي إلى اندثارها وتقلصها ومن ثم موتها. ولاشك أن اللغة العربية تعيش الآن فترة ركود فيما يتعلق بالعلوم الحية الحديثة وطرق التعبير عنها، وما ذاك الاّ لسطوة اللغات الأخرى في هذا المجال.
وقدرة اللغة على التعبير عن حاجات المجتمع من أهم مرتكزات الهوية الوطنية، حيث يشير فيشمان )Fishman 1997(إلى أن «الوحدة اللغوية هي أهم العناصر التي تحدد مسار برامج التخطيط اللغوي، ومن شأنها تأصيل الروابط التاريخية والثقافية وروابط الدم والقربى بهدف تكوين وحدة وطنية كبرى تذوب فيها الإقليمية، وتجمع شمل المجموعات البدوية والحضرية في مجتمع قوي متماسك».
كما أن الترجمة والتعريب من أهم وسائل التنمية على مستويات عدة: فعلى المستوى الثقافي يقوم التعريب بربط الأمة بماضيها الفكري )القاسمي 1987م(. أما على المستوى الاجتماعي فإن نشر الوعي الاجتماعي عبر اللغة التي يعرفها كل أبناء المجتمع أسهل وأيسر من استخدام لغة دخيلة أو مفردات دخيلة لا يفهمها عامة الناس )القاسمي 1987م(.
أما على المستوى التربوي وهو الأهم فقد أثبتت الدراسات كما أسلفت أن استيعاب المعلومات والمعارف يتم بصورة أفضل عندما تستخدم اللغة الأصلية للمتعلم، ولذلك فإن من يتعلم بغير لغته يجد صعوبة كبيرة في فهم دقائق العلوم ذلك الفهم الذي يمكن صاحبه من الاضافة والإبداع وليس التلقي فقط )القاسمي 1987م(.
والمملكة العربية السعودية انطلاقا من كونها قبلة المسلمين وقلب العروبة تعد المُحافظة على سلامة اللغة العربية )لغة القرآن الكريم( من مقومات المحافظة على هويتها الدينية والثقافية. ولذلك لا غرو أن تكون الترجمة أحد الأهداف الاستراتيجية التي تسعى لتحقيقها. فقد اهتمت المملكة العربية السعودية بالترجمة والتعريب منذ وقت مبكر، حينما كتبت إلى نقابة الأطباء المصرية في عام 1940م تدعوها إلى توحيد المصطلحات الطبية المعربة في جميع الأقطار العربية، مما يعكس مدى اهتمام الحكومة السعودية بقضية الترجمة والتعريب منذ البدء. وقد توالت الجهود بعد ذلك، حيث عُقدت المؤتمرات وأنشئت مراكز الترجمة في الجامعات. ثم توالت التعليمات بضرورة تطبيق التوصيات التي تصدر من المجامع اللغوية، مثل مجمع اللغة العربية في القاهرة. ومن التوصيات التي تم تعميمها على جامعات المملكة ما صدر عن مجمع القاهرة في مؤتمر عام 1992م. ومن هذه التوصيات ما يلي:
1 يجب أن تكون اللغة العربية هي لغة التدريس في الجامعات في الدول العربية، وكذلك في الدراسات العليا.
2 يجب على كل الدول العربية إقامة مؤسسات تعنى بما يلي:
أ ترجمة الكتب العلمية والطبية والتقنية، والدوريات العلمية، والموسوعات إلى العربية.
ب ترجمةالأدب العالمي إلى العربية.
إن قرارإنشاء مجلس علمي للترجمة يعكس مدى حكمة قادة هذه البلاد العزيزة وفقهم الله ومدى استشرافهم لتحديات المستقبل. ويعكس كذلك مدى الحرص على تقدم هذا المجتمع المعتز بلغته ودينه،واللحاق بالتقدم العلمي والمساهمة فيه، مساهمة الشريك الواثق لا المتلقي الضعيف.
معهد الادرة العامة بالرياض
<< هوامش:
Fishman,g. )1997(. Handbook of Language * Ethnic Identity. New York: Oxford Uiversity Press.
Kaplan, R. * R. Baldauf )1997(. Language Planning from Practice to Theory. Clevedon, England.
القاسمي، علي. )1987م(. «التعريب ومشكلاته في الوطن العربي». مجلة المنهل، عدد 34 )ص.43، 44(.
|
|
|
|
|