| تغطية
لو كانت نهاية الإنسان كما يصفها الملحدون موتاً لا عود بعده لصار المصير كارثة وإحباطاً للعقل واحتقاراً للذات البشرية، ولأصبح الحيوان اكثر عقلانية وواقعية من الانسان، غير أن الله سبحانه امتن على الإنسان بأن كرمه من أن يكون مصيره بهذه القسوة والنهاية المهينة التي يظنها الملاحدة الآثمون.
فجعل الموت نهاية البداية وبداية اللانهاية. حيث تبدأ الحياة السرمدية التي هي للمؤمنين الموحدين خير من هذه الحياة الدونية الحقيرة بملذاتها وظلمها وآثامها.
وجعل هذه الحياة الدنيا فترة تحضيرية ودورة تدريبية لامتحان قادم ومزرعة تحصد ثمراتها في الحياة الاخرى، حيث يتجدد لقاء لايكدره فراق، وتتجدد آمال المؤمنين باحتساب الاجر واللقاء الاخروي عند كل مصيبة من خلال رؤية ايمانية شفافة وعقلانية متجردة، ووعد الصابرين بخير الجزاء «الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون» كما جعل الموت احد المواقف الروحانية التي يراجع فيها المسلم نفسه ويحاسبها قبل يوم الحساب وكفى بالموت واعظاً.
وعندما فقدنا صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلمان اصبنا بهذه الصدمة الإيمانية التي يقف العقل امامها في حيرة والموت حق والتسليم بقضاء الله عقيدة، ولكنها مصيبة خامرت كل قلب ودخلت كل بيت استشعرها الجميع. وأقسى الموت موت الفجاءة، لذا نبه للاعداد له. وفهد رحمه الله فريد من نوعه، فريد في خلقه وطبعه، فريد في كرمه وإحساسه وفريد في رؤاه الإنسانية وعقلانيته وثاقب نظره، وفقد مثله يعصر القلوب والايمان يقضي بالتسليم و«إنا لله وإنا إليه راجعون».
يقول الناس «الموت عشاق» وإذا نبغ فيهم الفتى قالوا عنه «ولد موت» يفجعون بالأفذاذ وكأنه لم يمت سواهم فهم الذين يبقون في الذاكره تخلدهم أعمالهم الخيرة، وفهد رحمه الله من هؤلاء القلائل وله من المواقف ما لا يحصى غير أنني أذكر بعضها للدلالة وأرى أنها حرية بأن تسجل في شيم الأكرام.
ذات صباح كاد شيخ كبير يقود سيارة متهالكة «خردة» أن يصدمه فلاطفه فهد بنظرته وابتسامته الساحرة ناصحا له بالاهتمام بحياته وحياة الآخرين، فترجل ذلك الشيخ عن سيارته وتوجه اليه قائلاً «أنت وجه سمح ويظهر عليك الخير وأنا موظف مستخدم راتبي ثلاثة آلاف ريال وقد سلط الله علي مديرا يكره الخير لكل احد يشطب اسمي من الدفتر لو تأخرت خمس دقائق مهما كان عذري ويحسم علي راتب ذلك اليوم بدون وجه حق وأنا فقير كما ترى يؤثر علي ذلك فهل تتكرم بأن تكلم ذلك المدير ان يرأف بحالي؟» فابتسم الأمير فهد يرحمه الله وقال حسناً ما اسمك واسم رئيسك وعمله؟ فكتبه سموه رحمه الله وأعطى ذلك الشيخ رقم هاتفه وأمره أن يتصل به في الساعة الرابعة من عصر ذلك اليوم دون ان يعرف هويته، واتصل ذلك الشيخ على الموعد المحدد فوجد ان لدى عامل الهاتف توجيهات واضحة وسأله عن موقعه وأرسل له سيارة لإحضاره فلما جاء استقبله الأمير فهد بلطفه المعروف عنه رحمه الله وقال له لقد تحدثت مع رئيسك ووعدني خيراً فاذهب اليه وهذا خطاب مني له للتذكير ثم سلمه مفتاح سيارة كابرس جديدة بدلاً من تلك السيارة «الخردة» وودعه بابتسامته الساحرة ناصحاً له بأخذ الحيطة والحذر في القيادة.
وفي موقف انساني آخر عندما أودى حادث مروري بزميلين لابنه الامير احمد من مدرسة دار السلام في يوم خميس وكانا من الطلبة المتفوقين وقد قامت المدرسة بإعداد حفل يكرم فيه المتفوقون وسبقت مشيئة الله ان يسبق الأجل فرحتهما فجاء سموه للمدرسة وحضر الحفل وتسلم شهادات ودروع المتفوقين نيابة عن اولياء امورهم المشغولين بأحزانهم وآثار الحزن والتأثر بادية على محياه وتوجه بنفسه لمنازلهم وسلم آباءهم ذلك التكريم.
ومن مآثره رحمه الله ان اشتكت اليه عجوز تعول خمس بنات ضيق ذات اليد فاشترى لها منزلاً يؤويها ويؤوي بناتها، وغير ذلك من المواقف الانسانية حيث يدعم الجمعيات الخيرية ولجان اصدقاء المرضى وترأس لجنة اصدقاء مركز زراعة الاعضاء حتى جمع له مبالغ كبيرة. وقد سبقت المنية امانيه في تكوين لجنة اصدقاء مرضى السكر وضغط الدم وآخر ما اعلمه من مآثره رحمه الله هو تبرعه ليلة وفاته للجمعيات الخيرية بمحافظة رماح وقبل ذلك الجمعيات في القويعية وغيرها وهذا هو حسن الختام كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالخواتيم» وهو إن شاء الله مِن مَن حسنت خاتمته بهذه الاعمال وغيرها مما يصعب حصره وعندما نذكر ذلك فإنما نحيي سنة حيث يقول صلى الله عليه وسلم «اذكروا محاسن موتاكم» لتستمطر لهم الرحمة ويكثر لهم الدعاء فهم احوج ما يكونون اليه وهو افضل ما يهدى لهم، وعندما مرت جنازة بالنبي صلى الله عليه وسلم أثنى الناس عليها خيراً فقال صلى الله عليه وسلم «وجبت» والناس شهود الله في ارضه.
وفي يوم جنازة الامير فهد رحمه الله تذكرت قول الامام الشافعي رحمه الله «بيننا وبينهم يوم الجنائز» حيث ان كثرة المصلين والمشيعين من دلائل الخير للميت وحس اجتماعي لمدى حب الناس له ومدى نفعه لهم.
خرجت الرياض كلها لتوديعه وحرص من هم خارج المملكة للعودة وقد لمست ذلك بنفسي في مطاري بيروت ودمشق عندما علمت بوفاته رحمه الله وحرصت على العودة وفاء لحقه وبحضور جنازته والصلاة عليه والتعزية فيه وتوجهت للمطار فأفادني الموظفون هناك أن الازدحام شديد فالكثير حريصون على المشاركة ولم اجد المقاعد الا بعد جهد، دخلت الاحزان كل بيت وشعرت كل اسرة انها افتقدت احد ابنائها.
خرجوا للمشاركة حباً في فهد بن سلمان الانسان لذاته وشخصه وكريم شمائله، وخرجت حباً ووفاءً وولاءً لوالده الأمير سلمان وخرجت حباً لهذه الاسرة الكريمة التي يبادلها الشعب حباً بحب ووفاء بوفاء، فكيف وقد اجتمعت كل هذه الخلال الثلاثة في فهد بن سلمان!. قال طفل من اطفالنا لم يتجاوز الثامنة «خذوني معكم للأمير سلمان، قلنا لماذا؟ قال لان الامير سلمان جاء ليعزيني في والدي ولابد ان اعزيه في ابنه» كلام هذا الطفل رغم براءته، فهو يدل على معان كبيرة فما من اسرة في الرياض بل في غالبية مدن المملكة وقراها الا وسبقت من سلمان الحسنى اليهم، يشاركهم افراحهم واتراحهم، يعزيهم ويصلي على جنائزهم ويزور مرضاهم ويحضر افراحهم ويجيب دعواتهم ويخالطهم ويقف معهم في ازماتهم، حتى صار اباً لكل يتيم وقيماً لكل اسرة فقيرة وعوناً لكل محتاج وناصراً لكل مظلوم، وملاذاً للمسلمين والمضطهدين في مشارق الارض ومغاربها في فلسطين وفي الشيشان وفي البوسنة وافغانستان يلبي داعي الانسانية حيث يبلغه الصريخ. نذر نفسه للخير فاتسم به وانزل الله عليه البركة في وقته وجهده وفكره وماله ولو استطاع اهل تلك البلاد المشاركة لجاءوا اليه زحفاً، ليشاركوه مصابه وليعبروا له عن عرفانهم بجميله. وإننا لنرجو لفقيد الوطن والانسانية الامير فهد بن سلمان الرحمة والمغفرة وان يرفع الله درجته في الجنة ويخلفه على عقبه بخير وان يحقق لوالده الامير سلمان ووالدته وعد نبيه صلى الله عليه وسلم لمن صبر واحتسب وحمد الله عند مصابه بأن يبني الله له في الجنة «بيت الحمد» وإني لأراهم ان شاء الله من الصابرين المحتسبين. و«إنا لله وإنا إليه راجعون».
|
|
|
|
|