| مقـالات
أعلم أنك هذه اللحظة مشغول بقراءة الجريدة، ومع ذلك اسمح لي أن «أنغِّص» عليك فأسألك تكرما منك لا أمراً من قبلي أن تلقي نظرة عابرة على صفحات الإعلانات فتُخبرنا عما لَفَت نظرك فيها..؟ بالتأكيد لم تذهب هناك..، وحتى على افتراض أنك قد فلعت فلن يلفت نظرك هناك أي شيء، وما ذلك إلا لكونك معتاداً على الإعلانات والمألوف، كما تعلم، مُبتذل من حيث إن الألفة تذهب الدهشة وقود الفكر، بل إن الألفة لا تصد الفرد عن التبصر بالأشياء المألوفة فحسب، بل قد تقوده الى الحط من شأنها واحتقارها، ولهذا يُحثُّ على الزيارة )غبَّا(، ولهذا أيضاً يقول الأمريكيون تمثلاً: )الألفة مجْلبة للاستخفاف: Familiarity breeds contempt».
هذا ولأصدقك القول فدعوتي لك لزيارة الاعلانات لم تكن سوى عبارة عن اختبارك عما إذا كنت ترى أن الإعلانات )مألوفة مبتذلة(، وبما أنني استطعت على الأقل معرفة بعض )أسرارك!( غير المُعلنة تجاه الاعلانات!، فدعني أصارحك القول إنني أردت كذلك أن أُؤكد لك )مبتذلا( لديك حين دعوتك إلى هناك لكي تزداد يقينا على يقين كيف أن الحياة هي مجرد )اعلان وميزان( كفة )أخْذِهما( ترجح بكفة المنح والعطاء، وما ذلك إلا لأن الحياة )مفقودات لا موجودات(، تماماً كالاعلانات القادمة في مسار أحادي من فاقد التاجر إلى فاقد )أنت(، ترويجا لمفقود )سلعة مصيرها الفَقْد(، بل انك لو تصفحت كل صفحات الجريدة وليس الاعلانات فقط لوجدت فيها شواهد وشواهد على نظرية )المفقود لا الموجود(، فهذا أحدهم قد أعلن على رؤوس الأشهاد فَقْدِه لرخصة قيادته أو سجلَّ ملكية مركبته، وهذا شاعر قد فقد عقله لفَقْدِه حبيبته فطرَّز قصيدة شعبية تقطر ألما وفقْدا، وهذا قارئ وقارئة قد فقدا صبرهما مع شركة «الموت صبْرا!» فأخذ ألم الفَقْد منهما مأخذه، وبعد أن أخذ الألم فيهما )يجول ويجول ولا غيبة لمجهول!(، استنجدا بعزيزتي الجزيرة ليشاكياها ألم الأمل المفقود، وهذا فنان تشكيلي فَقَد الرغبة في التواصل الانساني مع بني جنسه فلجأ إلى مخاطبتهم من وراء الستار رسما ورمزا، وهذا فاقد آخر يبحث عن مفقود لدى فاقد.. أعني طبيباً يبحث عن مفقوده من المادة لدي مريض فاقد للصحة بسبب فقدانه للمادة..، بل وهذا خبر عن حادث مروري شنيع يفيدنا بأن السائق قد فقد فضيلة التأني والتروي مرورياً، ففقد السيطرة على مركبته، مما أدى به الى فقدانه حياته، وهذا بائع )فياجرا( فاقدٌ للحياء يلهث وراء فاقِد قدرات ذاتية..، وهذا كاتب فقد فرصة نشر مقالته لكونه تأخر عن إرسالها في الوقت المحدد مما أفْقَد «الريَّس!» صوابه وأعصابه ففقدت المقالة فرصة نشْرها..!، وهذا إنسان فقد بطاقة رسمية فأعلن عنها سعياً لبدل فاقد، وهذا كاتب أفقد عينيه النومَ القلقُ، فلم يجد له من العزاء سوى الغوص في سراديب فلسفة ما في الوجود من مفقود/ موجود مصيره مفقود مفقود مفقود )يا ولدي!(.. على غرار أغنية )قارئة فنجان( غراب البين.. طالع السعد المفقود.. إذن فالحياة كما قلت ليست هي الموجودات بل هي المفقودات، فهذا فقير يتمنى ما يفتقده من مال هو بيد غني، غير أن الغني هذا يتغنَّى تمنّياً ما افتقده من سعادة هي ملْك الفقير، بل إليك أمثلة من الماضي تؤكد ما أكّدتْه لك شواهد الحاضر، حيث يخبرنا التراث عن المرأة التي خيَّرها الحجاج الثقفي بين زوجها وابنها وأخيها وهناك استيقظَت غرائز حب الأخت الحبيبة لأخيها )المفقود( فاختارت المفقود لكونه مفقودا، بل أعلنت استعدادها لفقد الزوج والابن لا لشيء سوى انهما كانا من ضمن )الموجودات( بدليل قولها تحجّجّاً بأن الزوج موجود والابن مولود غير ان الاخ مفقود.
وهكذا هي الحياة المفارقات.. العَجب العِجاب.. بل أعجب الأعاجيب لمتمعن متعجِّب في حقيقة كونها رحلة بحث عن مفقودات.. )مفردات اعلانات عن مفقودات( بموافق فقدان حتمية: فقدان وظيفة.. فقدان عقل.. فقدان ذاكرة.. فقدان صحة.. فقدان أدب.. فقدان أعصاب.. فقدان شهية.. فقدان حبيب.. فقدان حكمة.. فقدان باءة.. فقدان أمانة.. فقدان سعادة.. فقدان شجاعة.. فقدان مادة.. فقدان أمل.. فقدان قوة.. فقدان رغبة.. فقدان غريزة بقاء.. وأخيراً فقدان مقاومة فاذعان للقدر رحيلا..، غير ان وقود الحياة هو حقيقة أن الحياة هي الفَقْد انتشارا على مسارح الفَقْد منادح الحياة مناكبها بحثا وتنافسا وتماحكا ووجدا وحسدا وغيرة ووهما وأملا وطمعاً ويقيناً وحبا وكراهية.. فموت بعد اعياء بحثاً عن مفقود، مصداقا وتحقيقا لحيثيات ما ورد في القرآن الكريم من مفاهيم حياتية كالتعارف والانتشار والهلع والطمع والأمل والجزع والحسد والعجلة.. وخلافها، وتحقيقاً كذلك لمضامين سنن الدفْع الكونية المتمثلة بدفع الناس بعضهم ببعض حكمة الله سبحانه وإلا لفسدت الأرض والأرض البشر.
.. الحياة المفقودات.. غير أن الألم الحيازة.. فواعجباً منك يا أرض العجائب والطلاسم والغرائب.. فها هو يمتطى ظهرك يلهث خلف مفقوداته غير أنه يعلم علم اليقين بأن مصيره وموجوداته الانزواء في مخازن ما تراكم أزليا في باطنك من موجودات.. فلا عجب ان تعيي الشاعر حيرة الواقع فيرتمي في أحضان الخيال ويختبئ في كنف المأمول هربا من الواقع.. لكنه من هناك يُطل برأسه لينشد مُحذّراً من المحال والمحال القدر:
ومن سره أن لا يرى ما يسوؤه
فلا يتخذ شيئاً يخافُ له فَقْدا |
|
|
|
|
|