| العالم اليوم
* رام الله نائل نخلة:
في كثير من الأحيان ينتاب الانسان الدهشة عندما يستمع إلى مأساة من مآسي أبناء الشعب الفلسطيني الكثيرة وحكاياته مع الاحتلال الإسرائيلي الذي خلق من كل بيت من البيوت الفلسطينية مكاناً تسرد فيه الروايات التي تحمل في طياتها معاناة لا تنتهي.
قد تكون حكاية الأخوين شادي وهادي فخري البرغوثي من أغرب تلك الحكايا فهذان الأخوان لم يشاهدا وجه أبيهما إلا من وراء القضبان والأسلاك الشائكة فوالدهما اعتقل قبل أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً ولا زال إلى الآن في المعتقل يعاني آلام الاعتقال وآلام الفرقة يتمنى أن يلمس أبناءه بحرية.. أن يقبلهم.. أن يسير معهم في شوارع بلدته.. أن يتحدث معهم دون أن يكون خلفه السجان.. دون أن يراقب عبارته.. دون أن يقرع الجرس المشؤوم إيذانا بانتهاء اللقاء مع الأحبة.
أم شادي تلك المرأة الصابرة ذات الوجه الذي يعلم العالم معنى الوفاء الذي يعلم نساء الأرض معنى التشبث بالفكرة والكلمة لقد فقدت زوجها في وقت هي أحوج ما تكون إليه وتروي لنا أم شادي تلك القصة التي روتها لمئات الصحفيين الذين يؤمون بيتها منذ زمن.تقول أم شادي «في شهر نيسان من العام 1978 أحاط قريتنا كوبر وهي واحدة من 98 قرية تتبع محافظة رام الله والبيرة وسط الضفة الغربية مئات من الجنود وعشرات من المدرعات والسيارات العسكرية وسيارات المخابرات وصلوا إلى بيتنا طرقوا الباب بقوة، استيقظ والد زوجي وانطلق إلى الباب وعندما فتحه دخلوا إلى البيت وسألوه عن فخري فقال لهم انه نائم فقالوا له إنهم يريدونه لمدة خمس دقائق فقط وهكذا استيقظ زوجي وارتدى ملابسه وخرج معهم بعد أن ودعني وودع طفله الصغير شادي الذي كان في شهره الثامن أما هادي فقد كان في أحشائي ومنذ ذاك الوقت وحتى الآن مازال فخري هناك، ابناه اليوم أصبحا رجلين يعتمد عليهما فشادي عمره 24 عاماً وهادي الذي لم يره أصبح عمره 23 عاماً وما زلنا جميعاً ننتظر عودته التي طالت».
قد تكون الكلمات التي تكتب على الورق أسهل من تلك التي مصدرها اللسان ومنبعها القلب، شادي شاب يافع في الرابعة والعشرين من عمره يعمل صباحا في صحيفة الحياة في مدينة رام الله وبعد الدوام يقوم بعمل الجبص للبيوت وبما أنه الابن الأكبر حمل على عاتقه المسؤولية وفي ظل غياب الوالد كانت هذه المسؤولية شاقة للغاية.يروي لنا شادي قصته مع غياب والده القسري عن البيت فيقول «كان عمري عندما اعتقل والدي ثمانية اشهر وبالطبع كنت يومها لا أدرك ماذا يدور حولي، كنت وأنا طفل أسأل أمي عن والدي فكانت تقول لي انه هناك خلف القضبان كبرت وأصبحت شابا وأنا لم أره إلا من وراء القضبان.
كنت أرى الأطفال ينطقون بكلمة بابا.
أما أنا فقد كان هذا اللفظ بالنسبة إليّ غريبا لم أعتد عليه «ويضيف شادي» وعندما كبرت شعرت بالمسؤولية بالذات أنني رأيت بوالدتي ذاك المثال للانسان الذي يضحي من أجل أبنائه تركت المدرسة واتجهت إلى العمل».
وحول نظراته إلى المستقبل يقول شادي «لا أظن أن هناك أمنية أكبر من رؤية والدي حولنا ونحن دائما نسأل الله أن يفرج عنه فقد طالت غيبته، لقد مرت بنا مراحل وصل الأمر بنا إلى التيقن بأنه سيتم الافراج عنه ولكن كان هذا التفاؤل يذهب أدراج الرياح ففي العام 1985 فرحنا وجلسنا ننتظر عودته إلا أن الصاعقة كانت عندما علمنا أن اسمه لم يدرج ضمن قائمة المفرج عنهم كذلك في العام 1994 عندما دخلت السلطة الفلسطينية إلى المناطق أيضاً وصلنا إلى درجة اليقين إلا أن ذلك لم يحدث أيضاً وها نحن بعد سبعة أعوام من دخول السلطة والعملية السلمية لا نعد الأيام بل أصبحنا نعد السنين وأملنا الآن أن يفعل حزب الله شيئاً لهؤلاء المعتقلين وتبقى الأنظار معلقة بشيء من الأمل أو حتى بضوء خافت لعل هؤلاء الشبان يرون والدهم يوماً.
أما هادي والذي ولد من الناحية الفعلية يتيما ومن الناحية النظرية يعلم أن له والداً ولكن في غياهب السجون التي تحمل في بطونها المئات أمثال والده يقول شادي «جئت إلى الدنيا لأسمع في كل يوم عن والدي أصبح الأمر معتاداً لي فقد كنا ونحن صغاراً نتوجه إلى السجون كي نزور وأصبح الأمر عادة لنا أن والدنا غير موجود وأنه هناك في مكان ما لا يستطيع أن يخرج ليحضننا كم كانت كلمة أبي وما زالت تخلق لدي احساساً غريباً لا أستطيع أن أعبر عنه فأنا لم أقلها يوما وحتى لا أعرف والدي جيداً فكل ابن يعرف تفكير والده طبيعته ماذا يحب ماذا يكره أما أنا فلا أعرف عن والدي شيئاً سوى ما تخبرني عنه أمي وأيضاً لا أرى والدي سوى ساعة في كل شهر لا تكفي حتى لأن ننظر إلى بعضنا البعض هذا اضافة إلى أننا ومنذ سنة تقريباً لم نره فكيف يمكن أن أتعرف إليه وهو بعيد عني».
شادي وهادي ترنو عيونهما إلى الفجر القادم من بعيد وتتأرجح مع كل ريح تنبعث منها رائحة تبشر بالعودة القريبة.. هكذا يعيشون على أمل لا ينقطع وعلى ثقة لا تنضب بأن ظلال الليل ينجلي مع الصباح وكذا ظلام السجن مهما طال واشتد لا بد أن ينجلي.
|
|
|
|
|