| شرفات
لماذا يسمح عدد كبير من البشر المحبين للسلم والذين ينبذون البغضاء بطبيعتهم بأن يتملكهم الحقد ويكونوا سببا للموت والخراب، في زمن الحرب، باصرار رهيب وغضب عارم؟.
إن نظرية فرويد في التحليل النفسي تحدد مصدره هذه العدوانية، التي يضطرم أوارها ويتسع نطاقها في اللاوعي الفردي إبان الحروب على وجه الخصوص. وهذا اللاوعي أشبه ما يكون بصندوق الشر، حيث يتم كبح وكبت النزعات العدوانية التي تنشأ مع الاتصالات الأولى للشخص بغيره من البشر. وقد عرف فرويد اللاوعي بأنه ذلك الموضع والذي يختزن فيه جراثيم الشر في النفس البشرية».
ومن ثم فإن الارتداد إلى الهمجية على نحو مانشهده في زمن الحرب يتحقق من خلال وجود تلك الهمجية داخل اللاوعي الفردي. وهنا وجه التطابق بين فكر فرويد وبين علم دراسة الجان في المسيحية، الذي يوجز الكاتب السويسري دنيس دي روجمون فرضيته الأساسية ببراعة في هذه العبارة: «إن العدو كامن دائما في داخلنا».
ويمكن أن نستخلص من ذلك نتيجتين أساسيتين الأولى أن البشر لا يتنازلون في زمن الحرب عن ذاتيتهم الفردية أو يغمرهم شعور جماعي بالعدوانية قد يختلف طابعه النفسي عن نظيره في علم النفس الفردي. صحيح أن الشخص «السوي» لا يشترك في فظائع الحرب إلا إذا شجعته على ذلك المشاركة الجماعية لغيره من أفراد المجتمع. إلا أن هذه المشاركة تتم بصفة شخصية. أي أن الشخص يكون لديه حافز ذاتي غير واع للمشاركة.
وإذا كانت بذور العدوانية كامنة في اللاوعي الخاص بكل فرد، ينتج من ذلك أن النزعة إلى الحرب عالمية بطبيعتها. فهي لا تنبع من الصفات الفطرية لأية جماعة عرقية أو أمة بعينها. وقد أشارت المحللة النفسية الفرنسية الشهيرة ماري بونابارت إلى ذلك بقولها:« إن أي شخص، حتى ذلك الذي يتصرف في زمن السلم على نحو بالغ الانسانية، يمكنه الارتداد إلى حالة من الهمجية البدائية».
وعلى ذلك فإن البشر يملكون من الدوافع ما يكفي لحفزهم على الحرب من خلال العدوانية الكامنة فيهم، والتي تسعى إلى تفريغ شحنتها في أشياء خارجية حتى لا تتحول إلى قوة تدمير ذاتية. بيد أن هذه العدوانية ليست السبب الأول للحروب بقدر ماهي سلاحها الرئيسي، أو بالأحرى «المورد الطبيعي» الأساسي الذي لا يمكن لاقتصاد الحرب أن يعمل بدونه.
وإزاء الأهمية الاستراتيجية التي يمثلها هذا المورد بالنسبة للدولة، فإن اهتمام هذه الأخيرة ينصب بصفة رئيسية على التحكم في ذلك المورد واحتكاره. وقد كتب فرويد في مؤلفه المعنون« أفكار عن أوقات الحرب والموت» «1915» يقول:« إن المواطن في أمة ما قد يتملكه الهلع وهو يتبين.. أن الدولة قد حظرت على الفرد أن يعمد إلى الظلم، لالرغبتها في استئصال الجور، وإنما لأنها تود احتكاره، كما تستأثر لنفسها بتجارة الملح والتبغ» كما تعقد ماري بونابارت على نفس النهج مقارنة بين الكراهية ورأس المال بقولها:« إن الكراهية الكامنة في قلوب البشر هي بمثابة رأس مال يجب استغلاله في موضع ما».
الأساطير والذات العليا
ماهي الاجراءات التي تلجأ الدولة إلى استخدامها في زمن الحرب حتى تستغل على النحو الأمثل احتكارها للعدوانية الكامنة في مواطنيها، وتجنى ثمار رأسمالها من الكراهية؟ أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن هذه الاجراءات مفعمة بالتناقض والغموض. فالمسألة ليست مجرد رفع الحظر على السلب والتعذيب والقتل. وربما كان البشر دوما، على نحو أشار إليه فرويد كذلك، «يخضعون لمغريات تدفعهم إلى اشباع حاجتهم إلى العدوانية على حساب جيرانهم.. عن طريق قتلهم من أجل عقيدتهم أو لمجرد القتل. إلا أن معارضة هذا الاغراء تأتي من الذات العليا... وهي الموضع الطبيعي للنماذج والمحظورات».
وعلى ذلك فإنه يجب خداع الذات العليا للفرد السوي حتى يمكن اطلاق العنان للعدوانية المكبوتة لديه رجلا كان أم أمرأة. والأمر هنا لايتعلق بتحييد الضغط الذي تمارسه الرقابة الأخلاقية أو إلغائه تماما، أي تحذير الذات العليا، وإنما بزيادة هذا الضغط، أي تضخيم الذات العليا. فالقتل في الحرب ليس عملا مذموما في نظر الجندي العامل في الجيش كما أنه ليس اشباعا لرغبة كامنة. بل هو واجب، وتضحية،وعمل من أعمال البطولة. ومن نفس المنطلق، فإن الذين يرفضون الاشتراك في الحرب هم من ينظر إليهم نظرة الازدراء الذي يستحقه المستهترون الذين لا يتحملون أية مسؤولية ولا يفكرون إلا في متعتهم الشخصية.
وهذا التناقض الظاهري إنما ينشأ عن عملية المطابقة، التي يصفها فرويد بأنها« استيعاب ذات لأخرى، مما يترتب عليه سلوك الذات الأولى على غرار الثانية من بعض النواحي، ومحاكاتها لها وقبولها من داخلها إلى حد معين». ويمارس الفرد قدرته على «التلقي الداخلي» لشخص آخر في بداية الأمر في صورة الاستيعاب الداخلي للنموذج الأبوي، أي تكوين صورة مثالية يسعى الفرد من خلالها إلى تأكيد الذات.
كما يبدو هذا الغموض كذلك في اسقاط علاقة الابن الأب على المستوى الاجتماعي والسياسي. ويشير فرانكو فورناري في كتابه بعنوان« التحليل النفسي للحرب» إلى ذلك بقوله:« إن الولاء الذي يستشعره الطفل بعد بلوغه سن الرشد تجاه قائده، أو الجماعة التي يجد فيها تجسيداً لمثله الأعلى، يتم موازنته من خلال الكراهية التي يشعر بها حيال رئيس آخر أو جماعة أخرى. ومن ثم فهو يشعر بالميل إلى الحرب.. ومن الآثار الأخرى المترتبة على انقسام صورة الأب إلى شخصيتين وعلى ذلك فإن الهيكل النفسي للفرد وطبيعة علاقاته بغيره من أفراد المجتمع قد يحفزانه على انتهاك الحظر المفروض على القتل. فإذا أريد للفرد أن ينتهك هذا القانون، كما يفعل في زمن الحرب، دون أن يتحول إلى مجرم أو معتوه، ينبغي أن يصور اللجوء إلى العنف المتطرف بصورة مقبولة.
وثمة طريقتان أساسيتان للقيام بذلك: الأولى من خلال اضفاء قيمة غير عادية، قد تصل إلى درجة التقديس على أعمال الحرب، وتدمير العدو على وجه الخصوص.
وهنا يصبح النصر من المسائل ذات الأهمية العليا. التي يتوقف عليها بقاء الأمة والوجودالمادي لشعب من الشعوب. ومن ثم فإنه يتعين القيام بكل مامن شأنه أن يدرأ خطر الهزيمة. وعلى الجنود البواسل أن يهاجموا العدو ويقتلوه كواجب مقدس.
والحرب التي تفرض علينا دائما وتكون دفاعية بالتالي تضعنا في حالة صراع مع عدو بعينه أو عدة أعداء. إلا أنها تصور كذلك بوصفها استمرارا للحروب السابقة التي شنها أجدادنا ضد أعدائهم، وهو ما يضفي بعدا أسطوريا على الصراع الحالي. إذ تشارك الذات في «الجماعية» القائمة على الساحةالتاريخية، ولكنها تنتمي كذلك إلى هوية جماعية في ذلك الوقت في الماضي فالحرب تتيح الفرصة للبشر للتوحد مع أسلافهم، ومعايشة تلك اللحظات العظيمة التي تتردد فيها أسماء أولئك الأبطال الأسطورية، فإن مكانة القائد «الأمة/ أو الجيش»، وهي إسقاط لحب الأب بلغة علم النفس. تتعاظم حيث يبدو تجسيدا لصورة البطل المؤسس للمجتمع. ويشير عالم الاجتماع النفسي سيرج موسكوفيتشي إلى ذلك بقوله:
«إن شخصية الزعيم تملك خصائص إثارة ذكريات الماضي..».
شراك الدعاية
لاغرابة إذن في أن نجد هذا الخط الفكري الموجه صوب الأسطورية في أساليب الدعاية الحربية. وتعد «الحرب الاعلامية» الجارية حاليا على أرض يوغسلافيا السابقة مثالا لذلك. فالغرض من تصوير الخصم في شكل« حيوان مفترس»، أو «وحش» أو «همجي» ليس مجرد إذلاله، وإنما جعل تدمير هذا المخلوق اللاإنساني من المآثر الجديرة بالأبطال الأسطوريين، أو بمخلصي البشرية الذين يضطلعون بواجب تقتضيه أسمى السلطات الأخلاقية، أي يتفق والذات العليا.
وهذا الاتفاق مع الذات العليا يمكن تحقيقه كذلك بأسلوب مختلف تماما عن طريق السخرية بدلا من الاثارة، أي استخدام الدعاية الحربية لتحويل الفظائع إلى دعاية، بل وتسلية، وإن كانت غير قابلة للتخلي عنها بالتأكيد. والوسيلة التي يستخدمها هذا النوع من الدعاية هي تلطيف التعبير، وذلك بأشكال مختلفة، على نحو ما يتضح من الصراع اليوغسلافي. ويتمثل أحد هذه الأشكال في الاشادة بالحياة في الخلاء، والنشاط البدني، والزمالة، والسمر، والغناء حول النار التي توقد للتدفئة في المعسكرات. وثمة شكل آخر يردد بدرجة أو بأخرى نفس النغمة المرحة، وإن كان يركز على فكرة أن الحرب تتيح للفتيان الفرصة لاثبات رجولتهم وبلوغ مرحلة الرشد.
أما من يرفضون الفرصة المتاحة أمامهم لاجتياز شعائر الانتقال إلى صفوف المحاربين مكتملي الرجولة، فيتعرضون للوم والسخرية بتصويرهم كأطفال مدللين.
وقد تصور الحرب، على نحو بديل، بوصفها عملية عقلانية ومعقدة إلى أبلغ الحدود، أي عملية تكنولوجية تخضع لسيطرة المتخصصين، المتمرسين في الفنون العسكرية. وفي هذه الحالة تنتفي الدماء والفظائع المصاحبة للحرب بمنتهى البساطة. لاكراهية، ولاقتل، ولامعاناة. كل ماهنالك هو مجرد« تحييد» للخصم، بعيدا عن أي شعور بالحماس. والصورة المثلى هي حرب بلا خسائر في الأرواح، يتحقق النصر أو الخسارة فيه «بحساب النقاط». وليس ثمة ما يسبب الازعاج في ذلك للذات العليا، حيث يمكن للفرد أن يشرع ، مطمئنا، في طريقه إلى ميدان المعركة، دون مساس بآدميته. وهكذا يكون الشيطان قد أدى مهمته على أكمل وجه.
«مختارة من مجلة اليونسكو عدد فبراير 1993
عنوانها الأصلي: دمدمات الحرب لإفان كولوفيتش»
|
|
|
|
|