| مقـالات
«علاقات الشمال والجنوب» من أين جاء هذا التعبير الذي انفرد عصرنا ربما دون سائر العصور باستخدامه للدلالة على واقع يعيشه العالم؟.
هل يتعين علينا أن نُسبغ على هذا التعبير دلالة دائمة تمتد الى المستقبل، أم انه لا يعدو ان يكون تعبيراً عن وضع راهن بسبيله الى الزوال؟!
ما الشمال وما الجنوب؟.. واضح ان المقصود هو التعبير على نحو ما عن تفاوت في التنمية بين فريقين من البلدان. لكن هذا التقسيم القائم على الموقع الجغرافي هو تقسيم تقريبي الى حد بعيد.
والواقع ان تعبير «الشمال والجنوب» لم يأخذ في الشيوع والاشتهار إلا ابتداء من السبعينيات التي شهدت ذروة جهود الحوار بين الفريقين.
فقد كان الحديث يجري من قبل عن «حواضر استعمارية ومستعمرات، ثم بعد انهيار الاستعمار عن بلدان متقدمة وبلدان متخلفة أو نامية.
وفي موازاة هذا التمييز، ذي الطبيعة الاقتصادية أخذت تتحدد المطالب المعادية للاستعمار، ثم للامبريالية في مواجهة أطماع الدول الكبرى والبلدان الغنية في السيطرة على معظم البلدان الأخرى.
وظهر اصطلاح «العالم الثالث» لأول مرة في مقال لألفريد سوفي في عام 1952م، قياسا على الطبقة الثالثة.
ومع الصدمتين البتروليتين، غدت السبعينيات سنوات المواجهة والحوار بين الشمال والجنوب، وقد تغلبت المواجهة على الحوار وظلت مستمرة على امتداد أزمة المديونية في الثمانينيات.
ورغم ما شهده العالم من تبدلات، فإن المنظور الذي يطرح من خلاله اليوم، تساؤلاته القلقة حول مستقبله وحول السلام، لا يزال هو منظور «الشمال والجنوب».
إن التمييز بين الشمال والجنوب يعبّر، على ما فيه من افتقار الى الدقة، عن انقسام عميق شهده النصف الثاني من القرن العشرين. ووجه الصعوبة أن هذا الانقسام اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي في آن معاً.
والواقع انه ليس من الشطط أن نعتبر أن الشمال يضم بصفة أساسية البلدان مرتفعة الدخل على حين يضم الجنوب معظم البلدان الباقية.
والسؤال: لماذا نتحدث اليوم عن علاقات «الشمال والجنوب؟».
ألسنا هنا بصدد مفهوم ينفرد به عصرنا؟.
ذلك أنه باستثناء هذا التمييز، والتمييز الآخر الذي يماثله وهو علاقات «الشرق والغرب» لم يشهد التاريخ فترة أخرى استخدمت فيها مثل هذه الفكرة التي تقسم العالم الى منطقتين جغرافيتين.
فإذا كان لنا أن نقسم اليوم العالم الى شمال وجنوب وكأنه تمييز بدهي يمكن ان يدركه الكافة على الفور إدراكا يتجاوز معناه الجغرافي المألوف، فإذن: هذا يقتضي ان نفترض وجود جملة من العلاقات تعطي لهذا الاختلاف بين الشمال والجنوب دلالة يمكن ادراكها على الفور. إنَّ ما يشكل جملة هذه العلاقات ذات الدلالة هو «النظام الاقتصادي العالمي» على نحو ما نعرفه اليوم وعلى نحو ما أنتجه نمط التنظيم الاقتصادي الذي تكوَّن في أوروبا عقب الثورة الصناعية، ثم انتشر شيئا فشيئا في العالم كله.
فإذا كان التقسيم الثنائي الى شمال وجنوب يستخدم في معرض الحديث عن التنمية، فالسبب في ذلك هو ان التنمية نتاج لهذا النظام الذي نشأ أصلا في الشمال. إن تناقضات هذا النظام العالمي وحدوده قد تجلّت واضحة إبان العقد الماضي، فتجسّدت من ناحية في المديونية الباهظة الوطأة، بوصفها أحد المخاطر التي تنطوي عليها توسعية هذا النظام، كما تجلت من ناحية أخرى في التهميش والفقر.
إنه لا غنى عن التاريخ لفهم العلاقات بين الشمال والجنوب.
ولكن الحاضر، هو المهم:
فهل ما زال تناول العلاقات الدولية على أساس تقسيم العالم الى شمال وجنوب أمراً له دلالته اليوم؟.
وإذا كان الرد بالايجاب، فما هي هذه الدلالة؟ ألا يؤدي التباين المتزايد بين بلدان العالم في شتى مناطقه الى تجريد علاقة لها مثل هذا الطابع الثنائي من كل دلالة؟.
وهل ما ز ال لهذه القطبية الثنائية دور على مستوى القرارات الجيوسياسية، وعلى مستوى الاستراتيجيات العالمية للقوى المسيطرة؟.
وفي نهاية المطاف:
هل ما زال التمييز بين شمال وجنوب يتيح لنا أن نفهم العالم فهماً أفضل؟!.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
|
|