| مقـالات
تعتبر الجريمة ذات تكاليف كبيرة في أي مجتمع من المجتمعات، وهذه التكاليف باهظة، ليس فقط من حيث الجوانب المادية المتصلة بها والمرتبطة بنفقات بناء المؤسسات العقابية وإقامة النزلاء بها، بل كذلك من حيث النفقات والأجهزة والآليات والمختبرات.
والجريمة من جوانب أخرى تعتبر ذات تكلفة أكثر خطورة على المجتمع إذا ما نظرنا الى نتائجها السلبية وآثارها المدمرة من النواحي الانسانية والاجتماعية على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع.
وتشكل الجريمة في مختلف دول العالم عبئاً اقتصادياً ضخماً، اضافة الى الجوانب والأعباء المتعددة لتكلفتها على المستوى البشري والاجتماعي والأمني. ولقد لوحظ ان ارتفاع معدلات الجريمة في أي مجتمع يقابل دائما بردود أفعال تتمثل في التوسع في الأجهزة القضائية والأمنية. وهذا يشكل حملاً صعباً على كثير من دول العالم، فتنعكس آثار ذلك سلباً على كافة جوانب الحياة الاقتصادية وعلى التنمية الاجتماعية التي تحتاج باستمرار الى المزيد من النفقات والخدمات.
يقول د. حاتم هلاوي في كتابه «تكلفة الجريمة في الوطن العربي»: إن الاعتمادات المالية التي ترصدها العديد من تلك الدول )أي الدول النامية خاصة(، لمكافحة الجريمة والحد من انتشارها، إنما تعتبر على حساب خدمات أخرى مفيدة كالتعليم والصحة والبرامج الاجتماعية الأخرى. إن ارتفاع معدلات ارتكاب الجريمة وارتفاع تكاليفها نتيجة لذلك، سيؤدي الى اهمال كافة جوانب الحياة الاجتماعية مما سيؤدي لمزيد من الاخلال بالقوانين، من ثم زيادة في الاعتمادات المرصودة لمكافحة الجريمة. وما زال مفهوم تكلفة الجريمة يعاني من الغموض الى حد كبير، إذ أن الجريمة ظاهرة اجتماعية ونفسية معاً فضلاً على أنها تمس جميع أفراد المجتمع وليس فقط أولئك الذين وقع عليهم الفعل الاجرامي. ولعل الغموض الذي يرتبط بموضوع التكلفة ناتج من ان هنالك العديد من التكاليف، فضلا عن أن حساب تكلفة الجريمة ربما يمكن حسابه بصورة موضوعية في بعض الأحيان ويصعب ذلك في حالات أخرى. وعلى الرغم من أن العديد من الدراسات التي تمت في مجال الجريمة تتحدث بصورة مقتضبة عن التكلفة بيد أن هذه الدراسات قد أخذت اتجاهات متباينة وغير موّحدة. فهذا د. صلاح عبدالعال في كتابه «التغير الاجتماعي والجريمة في الدول العربية» يشير الى بعض تلك الاتجاهات المتباينة بقوله:«إن أول ما يتبادر للذهن هو الذي يقتضي حسابه في بادىء الأمر: هل المكاسب والخسائر المادية التي تنشأ عن النشاط الاجرامي أم الأضرار الاجتماعية التي تسببها الجريمة بوجه عام، وبعض الجرائم بوجه خاص؟ هنا يؤكد د. صلاح أن موضوع حساب التكلفة يواجه بالعديد من المشاكل والصعوبات. ويرى د. علي شتا في كتابه «علم الاجتماع الجنائي»: أن حساب تكلفة الجريمة يندرج تحت الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجريمة خاصة ما تتحمله الدولة من جرائها، نتيجة ما يصيبها من خسائر مالية وتصدعات اجتماعية. فبالنسبة لآثار الجريمة على الدول، فإن لها آثاراً واضحة اضافة لما تنفقه الدولة على أجهزة العدالة والضبط وأجهزة الرعاية الاجتماعية للمذنبين وما كلفها ذلك من توفير الأموال والأدوات والقوى البشرية اللازمة. وليس هذا هو الجانب الملموس من تكلفة الجريمة من الناحية الاقتصادية فحسب، فهناك القوى المنتجة في مجال التعليم والرعاية الاجتماعية. هذا فضلا عن تأثر انتاج الدول بما يقتطع من ميزانية سنوية لهذا المجال أو تعطيل هذا الجانب المالي من الاستثمار والانتاج. أضف لذلك الخسائر الاقتصادية المرتبطة بشخصية الجاني والمجني عليه إذ أن المجني عليه إذا أصيب بعجز أو أن تبعد نهائيا من مجال القوى المنتجة يكون خسارة مالية تتكلفها الدولة، لأنه يعوق عن الانتاج ويحتاج لانفاق مالي عليه. أما الجاني، فإنه يسقط من حساب القوى المنتجة خلال فترة العقوبة. وهذه صورة من صور تكلفة الجريمة الاقتصادية. إن الآثار الاقتصادية للجريمة على الأفراد تتمثل بما يترتب على الجاني من حرمانه من نتائج جهده العادي والحال نفسها للمجني عليه فضلا عن حرمان أسرتيهما من ناتج عملهما، وما يؤدي له ذلك من ويلات اقتصادية على أسرهم. والتكاليف المادية للجريمة تبدو متعددة للغاية ومتنوعة ولعل أهم أنواع التكلفة المادية هو الفقدان المباشر للمتلكات كما هو الحال في جرائم الاتلاف، والتي تقلل من وجود السلع المفيدة في المجتمع، فتحطيم مبنى أو حرق سيارة، لاشك يلعب دورا في تقليل حجم السلع المفيدة في المجتمع. كذا فإن المبالغ التي تصرف على الدعارة والمخدرات والمقامرة تشكل أيضا نوعاً من أنواع التكلفة المادية ذلك لأن الأموال التي توظف لهذه الأغراض كان من الممكن توظيفها في أنشطة انتاجية مفيدة.
وعليه، فإن انتشار هذه الأنواع يؤثر سلباً على الطلب على السلع الأخرى المفيدة. إن جرائم ذوي الياقات البيضاء تعتبر ضمن التكلفة المادية غير المباشرة للجريمة. فالرشوة والتسهيلات مما ترتكب تحت شعار الوظيفة العامة تعتبر من أنواع الجرائم. لقد اهتم ريتشارد كويني بالتكلفة الاقتصادية للجريمة في المجتمع الرأسمالي، حيث يعتقد أن الاهتمام لابد أن ينصب حول مدى قدرة المجتمع على تحمل الجريمة أكثر من السعي لحلها. وقد ميّز كويني بين التكلفة الاقتصادية المباشرة للجريمة والتكلفة الاقتصادية غير المباشرة، حيث يرى ان التكلفة المباشرة تتمثل في الأموال والأرواح المهدرة من جراء ارتكاب الجريمة، على حين أن التكلفة غير المباشرة تتمثل في نفقات تسيير نسق العدالة الجنائية. كما اهتم مارتن وويلسون بتكلفة الخدمات المرتبطة بالجريمة من شرطة وقضاء، وأشارا الى أنه وخلال خمس عشرة سنة فإن نفقات الشرطة قد زادت تكلفتها بحوالي 200%. وأبانا أن المصروفات الكلية للدولة قد زادت بمعدل 163% على حين ان تكلفة خدمات الشرطة قد زادت 256% خلال الفترة نفسها. إن حساب تكلفة الجريمة يعد من الأمور بالغة الصعوبة وذلك في اطار عدم توافر البيانات الاحصائية. فقد تبين على مستوى البلاد المتقدمة ان الاحصاءات لا تمثل واقع المشكلة. وإذا نظرنا للاحصاءات في الدول النامية، فإننا نلاحظ ان هناك عوامل اضافية للقصور في الاحصاءات الجنائية. حيث لا تعطي الاحصاءات اعتبارا للمتغيرات السكانية، كذا فإن اهمال النواحي القيمية التي قد يكون لها دور حاسم في التبليغ عن بعض القضايا عامل مؤثر في بنية الاحصاءات.
ختاماً أقول إن الوقاية من الجريمة إنما تتم عن طريق اقامة المجتمع الفاضل الذي يقوم على أسس من التكافل الاجتماعي والاقتصادي، ويعني تكافل الجماعة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، كما يعني تحقيق العدالة الاجتماعية. إن قيام المجتمع على أساس من التكافل من شأنه أن يزيل كافة مظاهر الغبن الاجتماعي والفساد الاقتصادي التي تؤدي للانخراط في الجريمة والاعتداء على مصالح المجتمع الأساسية.
*عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
|
|