| الثقافية
ظظطفي تلك الزاوية المحاصرة بجدران الطين، تصميم فريد في مواجهة شمس الصباح، ودفء يغمر أعماقي وأنا أنظر إليها وهي تحتضن كل ضحى العديد من كبار السن يتجاذبون أطراف الحديث.
هل تذكر «سنة الهدام، ولا سنة السبلة» تتذكرون ما حدث لنا.. تتسع عيون الأطفال الجريئة التي تحاصرهم أحياناً وهي تستمع إلى أحدهم يفجر قنبلة قائلاً.. تصدقون أننا لم نأكل في إحدى السنوات لمدة أسبوع.
لقد انصتت تلك الجدران الطينية بكل عناية إلى هذه الأحاديث، وكأنني بها في قمة سعادتها تنتظر شروق الشمس لتمارس هوايتها المعتادة.. فن الانصات لشيوخ يتحدثون جميعاً في وقت واحد.. وتتأمل تلك القدرة العجيبة لديهم في الجمع بين الانصات والحديث في لحظة واحدة، ومتابعة أكثر من متحدث.
لم تكن تلك الجدران تستطيع أن تصل إلى السر الذي يقف وراء هذه القدرة العجيبة..
كنت صغيراً لم أتجاوز الثامنة من العمر أعبر من أمامهم بحذر كي لا أثير اهتمامهم خوفاً من كلماتهم وتعليقاتهم اللاذعة التي تعلق وساماً على كل كبير وصغير يعبر ذلك المسمى «عاير»..
الحصير المهترئ.. كم يشتاق لمداعبة أقدامهم المتشققة.. مازال يثير اهتمامي ما كنت ألحظه من حرمة رفع الأقدام أمام الوجوه..
رغم أن قدم أحدهم تكاد تغري بالقراءة.. فكل شق يحكي تاريخاً وأسفاراً وحوادث لا تنسى.. كانت تصور أرضاً حرمت من المطر سنوات طوالاً.. لم أكن استطيع أن أهرب من مشاهدة هذا الصراع الدائم بين الوجوه والأقدام.. هرولة الأطفال بجانبي لم تغرني بالانطلاق بقدر ما كانت تلك الصورة التي نقشت أمامي في تلك الزاوية تشدني بعيداً عن مساحات لعب الأطفال..
ولم تحرمني اشارات «أبو صالح» التي تأمرني بالابتعاد من التمتع.. وأنا اتجاهلها بغباء..
الشمس كانت تعطي وجودي بعداً أكثر مشاركة.. حين تحمل ظلي إلى تلك الحصيرة.. لتحقق ذلك الحلم بملامسة الحصيرة.. التي لم تجد محاولاتي للاستيقاظ مبكراً في الوصول إليها قبل الشيوخ.. ولم تعوضني حصيرة المسجد التي تشبهها في كل شيء عدا العمر.. وأنا أمرغ أنفي في السجود.. امتص كل ما تبعثه من رائحة.. وأحاول بأسناني أن أحصل على عود من قلبها أمضغه لأصل إلى طعم السنوات التي تسللت إلى قلب حصيرة الزاوية..
أقدام أبو صالح ووجهه الداكن وملامحه القاسية كانت صورة أخرى ثانوية في ذلك المشهد الرائع..
المشهد الذي تكرر كثيراً ولم استطع أن أغير فيه شيئاً ولم أحقق أكثر من المشاهدة رغم تلك الحرب التي طال أمدها بين اشارات «أبو صالح» ونظراتي البريئة.. رغم ما تحدثه من كهربة لأجواء «أبو صالح»..
أصوات قديمة وهو ذاهب ليحضر القهوة تحدث ايقاعاً جميلاً ولم يحدث ذلك كثيراً.. لأن صالح الشاب الوحيد الذي دخل حدود الحصيرة يقوم أغلب الوقت بفعل ذلك.. ويشارك قليلاً في تلك الأحداث.. ثم لا تلبث أن تظهر عليه علامات الضجر.. فيمارس حركاته المعتادة.. مغافلة العيون المتصارعة في تلك الوجوه المنحوتة من رخام داكن فيهرب وكأنه يريد أن يقضي عملاً مهماً.. رغم تصوري في ذلك الوقت أن لا شيء يمكن أن يكون مهماً.. فالحياة منتهى البساطة وكل شيء يمكن تأجيله.. عدا الأحاديث الشيقة واللقاءات الحميمة..
في صباح أحد أيام الأسبوع.. لم يكن من اهتماماتي أن أعرف أي يوم كان ذلك اليوم.. إلا أنني أذكر أنه كان يلي يوم العيد بأيام.. وكان عيداً.. لا ينسى.. فهو العيد الوحيد الذي عشته لم يستطع أن يخرج فيه أحد لغزارة الأمطار.. فذبحت الذبائح في اليوم التالي.. فتمتعنا بقضاء يوم اضافي مع البقر التي كانت تشارك جدتي البيت.. ولم أنس أبداً تلك البقرة الضخمة وهي تدوس قدم أحد الأطفال.. وتسير بمنتهى التبختر داخل البيت.. والظلام الذي تضربه السحب السوداء الغاضبة على الحياة.. جعلت السُّرج تنتشر في أرجاء البيت فنحس بالدفء لمجرد رؤيتها.. وبالأمان حين نحملها معنا بعد الظهر حتى لا يخرج لنا «السعلو» من أحد الممرات المظلمة..
كان يوماً مشهوداً ذلك اليوم الذي خرج فيه النساء والأطفال إلى الأزقة.. ليطمئنوا أن الجميع بخير وليهنئوا بعضهم بعضاً بهذا العيد الذي لم يكن سعيداً.. على الأقل بالنسبة للأطفال الذين حرموا من الاستمتاع بالمطر والعيد معاً.. فذلك قد لا يتكرر كثيراً..
يوم لا أنساه.. كل شيء عادي جداً في القرية.. البيوت الطينية الهادئة في مواجهة جيش من النخيل..المجرى الضيق للماء الذي يعبر على امتداد النظر فاصلاً القرية عن النخيل في ذلك الجو الصباحي البارد.. يبعث أبخرة تجعل الدفء يشع من أعماق الجميع..
وقفت كما كل صباح.. أمام تلك الحصيرة.. ياله من حدث سعيد وانجاز لم أكن أحلم به.. ها هي الحصيرة أمامي خالية.. الآن يمكنني أن أجلس وأن أتمرغ عليها واستمتع وحيداً مع تلك الحصيرة النائمة في هذا الصباح الجديد..
طال أمد تمرغي وتمتعي دون أن يحدث ما اعتادت عليه الحياة هنا.. لا بد أن هناك أمراً غريباً يحدث.
الشمس تواصل رحلتها الأبدية إلى كبد السماء دون أن يظهر أي ظل لجسد أي شيخ.. جلست مكان «أبو صالح» على الحصيرة أتأمل كل قادم.. دون أن يستجد شيء..
مضت الساعات دافئة..
لم يطل الانتظار.. ها هم جميع أهل القرية قادمون.. بدأ الرعب يدب في أرجاء جسدي.. لا بد أنني ارتكبت جريمة خطيرة في حق شيوخ القرية.
أقدامي تحاول الفرار أمام هذا الجمع القادم ولكنها تنغرس في الأرض باستمرار.. صوت قادم من أعماقي يقول إلى أين.. نعم إلى أين أهرب..؟
اقترب الجمع العظيم من تلك الزاوية.. مر بي الجميع كطوفان وأنا أقف مكاني دون حركة متأملاً بصمت مرعب ذلك الجسد المحمول فوق السلم الخشبي..
الوجوه تبدو ذابلة كئيبة.. مصدومة.. وجوه أطفال بدت كعلامة تعجب تلت عبور ذلك الجمع.. الشاب صالح بدا أحمر العينين.. الدموع.. تسافر عبر تضاريس وجهه..
لم يكن هذا المحمول على ما أظن سوى «أبو صالح».
|
|
|
|
|