| الاخيــرة
* يقال إن المجتمع الصناعي في الغرب لا يتحمس في الغالب لهجرة المؤهلين من أبناء العالم الثالث إليه إلا في حالات نادرة تحكمها ندرة التخصص نفسه، والتركيبة السائدة للقوى العاملة في ذاك المجتمع. وأحسب ان قولاً كهذا لا يحتاج إلى برهان ولا دليل، وكل مجتمع غيور على أبنائه المؤهلين حريص على حمايتهم من لهث الأفواه الوافدة اليه من خارج الحدود!
* * *
* من جهة أخرى، الجُلُّ يدرك أن هناك مواطنين عرباً وغير عرب، خانهم الولاء لبلادهم، وهجرهم الحنين لجذورهم، وساقتهم حمى طلب العيش بعيداً عن أوطانهم، فسلكوا دروباً متفرقة وصولا إلى تلك الغاية، تجمع بين الحيلة النظامية حيناً، والاحتيال على نظام الهجرة في البلد المعني، بعض الأحيان.
* * *
* يقذف باحدهم مثلاً موج الهجرة إلى الشاطئ الأمريكي، ثم يتعرف على فتاة من تلك البلاد فيوجس نحوها ميلاً، ثم يمضي يوهمها أنه قد شغف بها حباً، ويزين لها سبل الاقتران به زوجاً، فتصدقه، ثم ترتبط به، ويستثمر هو ذلك الرباط في توثيق عرى اقامته، وتذليل حواجز العبور نحو «الوطن البديل» بدءاً ب البطاقة الخضراء the green card، التي تمنحه الاقامة الدائمة، مروراً بالوظيفة، وانتهاء بالجنسية كاملة!
* * *
* ثم يستوي عوده، وينمو دخله، وتتنوع علاقاته، ويبيت قاب قوسين أو أدنى من بوابة الجنسية، فيقلب لفتاته ظهر المجن، وتخرج هي من داره وقلبه كالقابض على الريح، عدا حفنة من الذكريات!
* * *
* وقد يعيد صاحبنا كرة الزواج من فتاة أخرى يعشقها عشقاً لا انتهاز فيه هذه المرة ولا احتيال، ويتزوجان، وقد يشد رحال الحنين الى وطنه الأم، فيقترن بقتاة هناك اصطفاها الأهل له من قبل أو احتضنتها ذكرى حب قديم، ثم يرحل بها الى عالمه الجديد.. ويكون بعد ذلك من أمرهما ما يكون!
* * *
وأذكر في هذا السياق انني تعرفت خلال فترة دراستي الجامعية في أمريكا على طالب عربي، قدم الى أمريكا مهاجراً، وقد حدثني ذات يوم عن نيته في الاقتران بممرضة أمريكية، وصفها بأنها متواضعة الجمال، طيبة القلب، مكسورة الجناح.
سألته بفضول: ولم الزواج الآن ولما يمض على قدومك الى أمريكا سوى بضعة أشهر؟
فرد بلغة الواثق من أمره: ليس زواجاً كما تفهمه وافهمه، بل صراطاً أعبره نحو الوظيفة.. فالجنسية، فاذا ادركت بها وطري، طلقتها، بلا رجعة ولا التزام!
فقلت له معاتباً: أمن العدل لك.. ولسمعة بلدك وسمعتنا نحن العرب معك أن تعبث بقلب فتاة كهذه، فتوهمها انك فارس الحب القادم من أقصى الديار، لتصدقك وترتبط بك وتنال منها ما تنال.. ثم تلفظها كما تلفظ نوى تمرة، فقال مدافعاً: ما أطيب قلبك يا عزيزي العربي الغيور: لولا سوء الحال في وطني الأم ما هجرته الى هذه البلاد، ثم، أونسيت أن امريكا مجتمع رأسمالي يطبق نظرية «الأمير» الشهيرة للفيلسوف الايطالي مكيافيلي، فعاجلته سائلاً: ما علاقة نظرية ميكافيلي بما أنت مقدم عليه، فرد ضاحكاً، وكأنه يهزأ بسؤالي: ان اقتراني بهذه الممرضة ليس سوى «وسيلة» تبررها «الغاية» التي قدمت من أجلها أصلاً الى هذه البلاد، وما دام ان في نظام الجنسية الأمريكية ثقوباً يمكن اختراقها وصولاً الى ما أريد، فلم لا أفعل ذلك؟! فزواج الأجنبي بأمريكية أمر مباح.. وهو لا شك سيفتح لي الأبواب ويختصر المسافات، ويقربني من سدة المنى!
* * *
قلت له مودعاً: انني أفهم ما أنت مقدم عليه، لكنني لا أتفهمه ولا أقره لنفسي، أو أوصي به لمن سألني مشورة خير.. يبتغي بها خيراً!
* * *
وبعد.. فان الثروة الحقيقية لأي بلد نام.. ليس في حقول نفطه، ان كان به نفط، ولا في أرصدة بنوكه، ان كان ذا مال، ولا بترسانة مصانعه ومتاجره وناطحات سحابه، ان كان له بعض من هذا أو ذاك، ولكن بشبابه المتعلم المؤهل! وحري بمجتمع كهذا ان يحصن الشريحة الشابة من شعبه تعليماً وتدريباً وتنمية دينية وثقافية سوية، ويمنحه من الحوافز والمزايا ما يجعله لا يلوي عنقه صوب المشرق ولا المغرب.. بل يربط مصيره ببلاده، ولاء وانتماء وبناء وعطاء، وعكس ذلك.. يعني التشرد داخل الوطن، أو الهجرة خارج حدوده، بحثاً عن وطن بديل، ومستقبل أوفر حظاً.
|
|
|
|
|