بهذا المقطع الشفاف المليء رقة وتحناناً قطع الفنان الشاب أصيل أبو بكر مذاريب صمته الخجول وانتفضت مدن إبداعه لتخرج لنا واحداً من أروع ألبومات هذا الموسم بلا مبالغة أو تزييف. وهذا الألبوم الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن يمثل باكورة التعاون الجديد بين الفنان وروتانا حمل عنواناً عريضاً للإبداع والطرب الأصيل ارتكز فيه مطربنا أصيل على عدة محاورأرست له قاعدة صلبة وقوية وحلقة وصل ذات محيط واسع وجدران عريضة بينه ومعجبيه الذين احتفوا بهذا الالبوم احتفاء كبيراً لأنه كان متفرداً في كل شيء
فكلماته جاءت على قدر طموح من استمعوا إليه بل تعدى ذلك بكثير كيف لاوقد شارك فيه مهندس الأغنية السعودية الأمير الشاعر المملوء فناً وعبقرية بدر بن عبدالمحسن الذي كتب كلمات الأغنية التي بدأت بها كتابتي هذه «سألتي» فهذه الأغنية جاءت مدهشة في كل شيء الكلمات اللحن الأداء وكانت تستحق أن تتوج عنواناً للألبوم.
أما اللحن فقد ساقة الملحن الرائع الجميل د. عبدالرب إدريس الذي خاطب عبر قافية حروفه الموسيقية كل مفردة من كلمات الأغنية بحسب اتجاهها الدلالي وحسب انفعاله بها فجاءت بالمعنى الرسالي الذي عبر عنه البدر وهذا الكلام نلمسه بعمق في المقطع الثاني من الأغنية التي تلمس من خلاله رقة وعذوبة الكلمة وصدق تناول معانيها ثم روعة انتقال اللحن الموسيقي بها حيث يقول المقطع:
آخر لقانا في الخريف
تذكري الثوب الخفيف
والبرد..
والبرد يوم خفتى علي من البرد..
وامطار الخريف.
ومرت سنة يمكن سنين
ويني أنا ووين السنين؟
ثم يعود نفس المرجع الأول:
قلتي كلام كله كذب
ليه اتصلتي؟.. عني سألتي؟
فتمعن السياق العام للجملة الموسيقية لهذا المقطع ثم انظر كيف ألف د. عبدالرب إدريس بين معاني الكلمات والحروف الموسيقية التي شده بها التقاسيم الدرامية للحدث المغنى. ولاحظ المرجعة الأولى لأول الكوبليه:
آخر لقانا في الخريف
تذكري الثوب الخفيف
وتوافق الكورال مع مقتضيات اللزمة الموسيقية كذلك«الاس» أو السكتة التي جاءت بعد كلمة «والبرد» والتي عمقت كثيراً من دلالة المعنى الحرفي للمفردة. فتجد نفسك أمام لوحة رائعة الألوان مكتنزة بتفاصيل الجمال فلاتقف الا فاغراً فاهك مليئا بالطرب مشدوهاً بهذا الخيال العذب.
تاج راسي
أما الأغنية الثانية «تاج راسي» والتي كتبها الشاعر حمد بن شهيل الكتبي ولحنها خالد ناصر فقد جاءت خفيفة الايقاع وكذلك الجمل الموسيقية لكنها حملت فكرة وأسلوباً جميلين فيهما الكثير من الروعة. فقد اعتمد فيها المحلن على الكورال كأساس «ركوز» لتوصيل فكرة الأغنية وهذه محمدة تصب في صالح العمل عموماً وعلى الرغم من أن الاتجاه الى الأغاني الخفيفة وأغاني «الشكشكة» بالتحديد أصبح ظاهرة منتشرة وسط الفنانين الشباب، إلا أن أصيل حاول قدر المستطاع أن يكسب هذه الأغنية بعض الرزانة والوقار إن جاز التعبير لعلمه بأن مثل هذا النوع من الأغاني يمثل فئة معينة من المستمعين وحتى هذه الفئة قد بدأت تمل من تكرار سمعها.
وعلى العموم فالأغنية «تاج راسي» تحسب لصالح الألبوم بقدر فكرتها الجديدة التي حاول خالد ناصر ملحن العمل توصيلها للمستمعين وليس عليه.
ما وحشتك
وأغنية ما وحشتك كانت محاولة جيدة لأصيل في مجال اللحن لذلك جاءت بلون مختلف تحمل في مجملها الكثير من الدلالات الطربية المتوازنة توازن «رتمها» وكذلك حملت الكلمات التي كتبها الشاعر بدر المليحي شفافية راقية وفكرة مرتبة وهو يحاور شوق المحب ويعاتب الحبيبة بكلمات بسيطة التراكيب ولكنها عميقة المعنى .
ما وحشتك ياحبيبي
بعدها الغيبة الطويلة
ولاشايف ها الليالي
اللي بعدناها قليله
أسيبك
ثم نأتي بالحديث عن رائعة اخرى جاد بها أصيل في البومه وهي أغنية «أسيبك» التي كتب كلماتها الشاعر الراحل حسين المحضار ولحنها الفنان الكبير أبو بكر سالم بلفقيه، فهذه الأغنية تضمنت العديد من الرؤى الجميلة التي جعلتها واحدة من الدرر في هذا الألبوم. لغة راقية مفردات عذبة وألحان غاية في الروعة.. تلك هي السمة السائدة والعنوان العريض لتصريفها.
لم يكن أبو بكر سالم راضياً عن ابنه فيهما قدم من قبل من باب طمع الوالد في إمكانيات الابن الصوتية الكبيرة وكذلك لنوعية الأغاني التي قدمها أصيل في البوماته السابقة، أراد بلفقيه «الوالد» أن يعاتب أبنه بلغة أخرى بعيدة عن التعنيف «واللوم» فأتى له بهذه الأغنية عميقة الاحساس، بديعة التناول شكلاً ومضموناً كلغة زاجرة وكأنما أراد أن يقول له هذا طريقك الصحيح وأرجو أن تسير عليه لاعلى غيره. وأبو بكر سالم طبعاً غني عن التعريف وله باع كبير في هذا المجال، لذلك كان لحنه هذا يحمل الكثير من الأصالة والذكاء والعبقرية. أما الكلمات فجاءت بلغة راقية و..
أسيبك والسبب.. إنك علي سايب
مع من هب ودب.. وقليبي الذايب
تركته للتعب.. دائم معاك متعوب
حسافة لو يضيع.. الحب يا المحبوب
وأعتقد بأن الموسيقى الجزلة التي غلفت كلمات
القصيدة هي السبب الحقيقي في إعطاء هذه الصبغة اللحنية هويتها وكينونتها تلك.
الكلمة الأخيرة
بكل هدوء.. وبكل محبة
أسمع الكلمة الأخيرة
ما أبيك..
وإن رجعت أترك الديرة
وأسافر غير ديرة
وبكل.. هدوء
عرفتك والنظر خداع
صدقتك وطاوعتك
سلمتك شعورى بساع
أتاري صح كل اللي سمعت
وشاع
أسمع الكلمة الأخيرة..
بهذه الكلمات الرائعة افتتح أصيل الوجه الثاني من الألبوم وهي للشاعر الأسيرصاحب الإحساس العالي فايق عبدالجليل، ويكفينا أن نعرفه بهذا المقطع الجميل الذي بدأته«الكلمة الأخيرة» ولحنها الفنان عبدالله الراشد الذي استطاع أن يرتب قوافي هذه الكلمات الرائعة في لحن أكد من خلاله نبوغه وسعة أفقه وذكاءه في تعامله مع تلك المفردات الشفافة.
وما يقال على أغنية «سألتي» يقال بالحرف على هذه الأغنية من حيث الكلمات واللحن وجمال وصدق تناولهما.
بذمتك
أما أغنية بذمتك فقد جاء لحنها حاملاً الكثير من فواصل الجمال والروعة. وبشكل مدهش غاص الملحن أحمد الهرمي بين الكلمات الجميلة وسطر لنا لحناً متميزاً أكمل به عقد الألبوم بدرة بهيجة. وأعطت في نفس الوقت للشاب البحريني «أحمد الهرمي» شارة الانطلاق نحو آفاق النجومية عبر بوابة التلحين، وقد كتب أغاني«بذمتك» الشاعر أحمد بن ظاهر.
من يضحك أخيراً..!
بقى أن نقول بأن أصيل بإصداره لهذا الالبوم قد خطا خطوات واسعات نحو الطريق الصحيح وأثبت عملياً لمن ظن من المطربين «إياهم» بأن أغاني الشكشكة التي ظلت تتصدر البوماتهم ليست مطلباً أولياً للمستمعين الذين أرى أنهم قد تجاوزوا هذه المرحلة كثيراً. وفي ذات الوقت فإن أصيل وبهذا الالبوم يكون قد طبق المقولة«من يضحك أخيراً.. يضحك كثيراً»، فأصيل قد طرح البومه بعد أن طرح عبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد ألبوماتهما وقد أتى ألبومه رغم نجاح ألبوم راشد الماجد وروعته متفوقاً عليهما كثيراً وأثبت أخيراً بأنه نجم قادم بقوة ليحتل مكانة مرموقة في صفوف العمالقة.
نقطة على السطر
لقد قمت باستقراء سريع لبعض الأغاني التي شدت انتباهي في الألبوم، وهذا لايعنى أن باقي الأغاني سيئة أولا تستحق الاستماع بل جاء البومه كما أسلفت متكاملاً لحناً وكلمات وأداء وتفوق فيه أصيل على نفسه.