| مقـالات
يقرر علماء النفس أن الدعاية غير المباشرة أبلغ تأثيراً وأقوى أثراً من الدعاية المباشرة. كما يقررون ان الشخص عندما يجد مادة الدعاية غير المباشرة أمامه في كثير من الأمكنة التي يرتادها وفي كثير من الأزمنة التي يعيشها فإنه يألف هذه المادة ويستمرئها بغض النظر عن صلاحيتها أو فسادها حسنها أو قبحها. والمثل الشعبي يؤكد ان السيىء والقبيح يصبح مقبولاً غير منكر عندما يكثر التعامل معه فيقول: «كثرة المساس تميت الإحساس».
الدعاية غير المباشرة ذات أهمية كبرى وتأثير بالغ قوي ولذا فمن الضرورات الملحة ضرورة استخدام الصالحين لها وتحذيرهم لغيرهم من تأثيراتها السلبية عندما يستخدمها الاشرار للتأثير في قناعات الناس بالباطل عبر مداخل لا ينتبه لها كثير من الناس وهي تسري في عقولهم سريان النار في الهشيم.
ومع صور الدعاية غير المباشرة في واقع الناس ومشاهداتهم اليومية وتصلح ان تكون مثالا على قوة تأثير الدعاية غير المباشرة: الدعاية للمارلبورو حيث تصور فارساً مغواراً من الكابووي يقول له صديقه: «بوب لقد أصبحت مدخنا!» أي أنه يريد الإيحاء بأنه بعد أن أصبح مدخناً صار مؤهلاً ليكون رجلاً فارساً مثل صديقه.
وهذه الدعاية حققت تأثيراً قوياً في نفوس جمهور الناس بدليل ان جمعيات مكافحة التدخين لم تجد أفضل من استثمارهذه الدعاية لتحقيق هدفها في مكافحة التدخين بعد عكس المضمون فظهرت في الطرقات اللوحات الدعائية المشابهة للدعاية الأصل ولكن العبارات تغيرت الى: «بوب لقد أصبت بالسرطان» للإيحاء بخطر التدخين على الصحة!!
ويظهر أن التخطيط للدعاية للمارلبورو كان مدروساً الى درجة كبيرة كما يتضح تركيزه على جانب الدعاية غير المباشرة.. فمن بين كل الأنواع المشابهة لم تنتشر بين الناس كراتين مثل كراتين المارلبورو في قوتها وقدرتها على التحمل مما يثير فرضية أن الشركة الصانعة قصدت من ذلك صلاحيتها للاستخدام بعد التفريغ لتكون دعاية غير مباشرة لمنتجها منفقة في سبيل ذلك أموالاً طائلة على إتقان صنع هذه الكراتين بالمواصفات التي تؤهلها لتكون مطلوبة في الاستخدامات الصعبة..
وأؤكد دون تردد أنه ما من مكتبة عامة أو خاصة حتى مكتبات العلماء والصالحين والمكتبات العلمية ذات الصبغة الدينية إلا ودخلتها كراتين مارلبورو معبأ فيها عدد من الكتب وربما احتفظ البعض بها لاستخدامها فيما بعد نظراً لتميزها بالقوة والمتانة.. وكل انسان سيجد هذه الظاهرة حقيقة واقعة عندما يدخل هذه المكتبات وأكاد أجزم أن هذه الظاهرة قد لفتت انتباه كثير من الناس ولا سيما المتعاملون مع الكتب وأهلها!
هنا مكمن التساؤل بل والتعجب كذلك ولكن عندما يثار السؤال فان السبب كما يقول كثير من الفضلاء هو نوعية هذه الكراتين وقدرتها على التحمل مما يجعلها الخيار الأفضل عند الشحن الذي من طبيعته دوما التحريك والنقل وتلاقف الأيدي مما يجعله عرضة للكسر والتمزق فيبحث الشاحن عن أفضل الوسائل لحماية ما يشحنه من هذا الخطر.
من أجل تصحيح الوضع والبحث عن حلول مناسبة لحماية الجيل المسلم من تأثيرات الدعاية السيئة ولا سيما الدعاية غير المباشرة في هذا العصر الذي أصبحت الدعاية فيه موجهة ومؤثرة هناك سؤال جدير بأن يطرح ويعاد ويكرر دوماً هو: ألا يمكن صنع كراتين بمواصفات هذه الكراتين تكون نظيفة من الدعاية السيئة لمثل ما تدعو اليه هذه الكراتين؟
واذا كان الخوف من التكلفة المادية المترفعة فيمكن أن نضيف: ألا يمكن طمس اسم المنتج الذي تشير اليه هذه الكراتين العتيدة؟
وإذا نبت سؤال فحواه: كيف نفعل ذلك؟ قلنا: ألا يمكن مثلاً التشديد على إدارات الجمارك لإجراء عملية الطمس هذه من قبل المورد أو المصدر أو من قبل موظفي الجمارك أنفسهم؟
الدعاية للتدخين نهجت منهجاً غير مباشر فكان أقوى لتأثيرها.. وربما يقال: إن الذي دفعها الى هذا المنهج هو ما تلقاه من محاربة العقلاء في مجتمعاتها لها وبسبب التحذيرات الطبية ونحوها.. ولكن الأرجح - في تصوري - أنها في المقام الأول ثمرة تخطيط محكم من متخصصين في الدعاية المؤثرة.
وهناك دليل قوي على فرضية التخطيط الدعائي لشركات التدخين، ففي غالب الأفلام السينمائية التلفزيونية التي تستقطب متابعة وانتباه كثير من المشاهدين عندما يصاب البطل بالاحباط أو القلق يقوم - فوراً - بإشعال سيجارته ليوحي للمشاهد أن هذه السيجارة تجلب له الهدوء والقدرة على التفكير وفتح مجالات الخيال أمامه.
وهذه دعاية غير مباشرة وهي ذات أثر بليغ جداً.. ولا سيما أن غالب المشاهدين ممن يسهل قودهم الى التقليد بحكم قدراتهم الفكرية الضعيفة أو بحكم سنهم الذي لا يعطيهم القدرة على التمييز أو امكانية النقد الصحيح للأشياء بنظر عاقل.
ولا يمكن تجاهل فرضية قوية تشير الى تأثير شركات التدخين الكبرى - وهي كيانات اقتصادية قوية جداً - في توجيه الأفلام والمسلسلات هذه الوجهة لأن الأفلام والمسلسلات المستوردة من الخارج هي الأساس والموجه في الصناعة السينمائية بعامة، في حين أن الأفلام والمسلسلات العربية ليست سوى مقلد يقاد قيادة القطيع الداجن!!
ومما يؤكد أن شركات التدخين تخطط بخبث للدعاية لبضاعتها ما نشرته احدى الصحف المحلية يوم الثلاثاء 19/4/1422هـ من العثور في أسواق البطحاء بالرياض على ورق لعب يغطي كامل وجه الورقة شعار نوع من انواع الدخان ويظهر خبث الدعاية حين نعرف أن غالب الذين يلعبون الورق من الشباب المهيئين للتدخين أكثر من غيرهم.
وقد حاورت الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان بشأن ما جمعته حول هذا الموضوع فنبهني الى ما نشرته تلك الصحيفة وأطلعني - مشكوراً - على نسخة من كتاب «سبل السلام» للإمام الصنعاني بتعليق الدكتور طه الزيني طبعة دار الشعب بمصر وفي آخر صفحاته دعاية لنوع من الملابس وغيرها ولكن الطامة الكبرى هي الدعاية لنوع من الدخان تشير الى انه سوبر 100% وأصلي!!!
فوجود هذه الدعاية في هذا الكتاب الذي يعد مرجعا في فقه الحديث النبوي الشريف دليل على خطر الدعاية غير المباشرة حين تتغلغل فتجعل المنكر معروفاً أو على الأقل تجعله غير منكر في النفوس.
لعله في ضوء ما سبق بيانه تتضح ضرورة عناية الصالحين بالدعاية غير المباشرة استخداماً لها في الخير ودفعاً لآثارها حين تستخدم في الشر. وقبل ذلك لابد أن نعي ضرورة الاعتناء الشديد بعملية التخطيط المحكم لها كي تحقق الأهداف المرومة منها. وأقسام الإعلام في جامعاتنا ولا سيما ما له صبغة دينية دعوية عليها واجب كبير ومسؤولية مضاعفة في هذا الجانب بحكم التخصص والهدف. لا أعني جانب الدراسة النظرية فحسب - برغم أهميته - وإنما أعني في المقام الأول ضرورة قيام تلك الأقسام بتدريب طلابها على كيفية إعداد خطط الدعاية غير المباشرة القابلة للتطبيق في الواقع بما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع ويشيع الإصلاح والخير في المجتمع ويحميه من السوء والغوائل.
إن وسائل الدعاية غير المباشرة أكثر من أن تحصى ولذا فإن تنفيذ هذه الدعاية يصبح سهلا وميسوراً مع صدق النيات وجدية المثابرة .. فقد تتسرب أهداف الدعاية غير المباشرة من خلال عمل إعلامي هادف مقروء أو مسموع أو مرئي، وقد تنقلها القدوة الحسنة التي يمثلها رجل هذه الدعاية وهكذا..
إن المؤكد في ظل الصراعات الفكرية المعاصرة أن الرسالة النبيلة التي تحملها سواعد رجال الإعلام الإسلامي ورجال التربية ورجال الدعوة تتطلب عملا جاداً يتسم بالتخطيط العلمي الحكيم والعميق وينفذ بصبر وجلد يراعي أهدافه النبيلة ولا يعرض عن مراعاة ظروف العصر ومستجداته مع الحرص الشديد على تنمية وتحديث قدرات وأساليب ومهارات وكفاءة العاملين بما يكون مهيأ لتحقيق الأهداف المرومة من العمل الذي يؤدونه.
في مختتم القيل أقول: إن الأساليب غير المباشرة أقوى أثراً وأعمق تأثيراً من الأساليب المباشرة؛ لأن الأساليب غير المباشرة تتسرب عبر مداخل غير مرئية الى العقل الباطن فيستمرئها فتصبح من مسلماته التي يصعب تغييرها بعد ذلك لأنه لا يتزحزح عنها قيد أنملة.
ومصداقا لهذه الحقيقة فإن تأثير الغزو الفكري أشد وأقوى من تأثير الغزو العسكري وربما حقق الثاني - بل قد حقق - في زمن قياسي ما عجز عنه الأول في قرون طويلة كما هو مشاهد في واقعنا المعاش.
وإذا كان أهل الشر يعرفون أهمية الدعاية غير المباشرة فيصرفون الجهد والفكر والمال للتخطيط المحكم لها فإن أهل الخير أحق أن يحسنوا استخدام هذه الدعاية فيصرفوا لها الجهد والفكر والمال، لانهم أهل الفطرة والخير وداعي الخير أقوى في النفوس من داعي الشر )فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله( سورة الروم آية 30.
وبالله التوفيق،،،،،،
alsmariibrahim@hotmail.com
|
|
|
|
|