ليس هناك أحد يجهل من هو الصديق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول الخلفاء الراشدين عليهم رضوان الله أجمعين خير من طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء والمرسلين ولكن الأمر الذي يخفى على كثير من الناس ان ذلك الصحابي الجليل شاعر ارتقى بشعره عن السقوط مثلما ارتقت نفسه عن أراذل الأمور. وللصديق قصائد تزخر بها كتب الأدب العربي فقد ورد بعض منها في السيرة النبوية لابن هشام والسيرة النبوية لابن كثير وجمهرة أشعار العرب وطبقات ابن سعد وغيرها وسوف نقف على بعض أشعاره رضي الله عنه. من خلال السياق التالي يقول في أهل الطائف وهم من ثقيف عندما أبوا الدخول في الإسلام وصدوا الرسول صلى الله عليه وسلم متوعداً إياهم بالحرب ان لم يهتدوا:
ولقد عجبت لأهل هذا الطائف
وصدودهم عن ذا النبي الواصفِ
ومن الإله فلا يرى في قوله
خلف وينطق بالكلام العارفِ
فلئن ثقيف لم تعجل توبة
وتصد عن سنن الطريق الجانفِ
لتصبحن غواتهم في دارهم
منا بأرعن ذي زهاء زاحفِ
ولم يقف الصديق عليه رضوان الله على التهديد بالحرب بل توعد القوم بعذاب الله وانه مصيبهم ما أصاب عاداً فيقول مستمداً المعنى من قوله تعالى: )وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية(
أويهلكوا كهلاك عاد قبلهم
بهبوب ريح ذات ساف عاصفِ
وعندما ارجف المرجفون وافترى المنافقون وألصقوا الإفك بأم المؤمنين عائشة عليها وعلى أبيها رضاء الله سنة ست للهجرة بعد غزوة بني المصطلق وجهربه عوف الملقب بمسطح يقول:
ياعوف ويحك هلا قلت عارفة
من الكلام ولم تتبع به طبِعا
أو ادركتك حميَّا معشر أُنف
ولم تكن قاطعاً ياعوف منقطِعا
اما حزنت من الأقوام إذ حسدوا
من ان تقول وقد عاينته قرَعا
لمّا رميت حَصَاناً غير مقرفة
أمينة الجيب لم تعلم به خضعا
فإن اعش أجز عوفاً عن مقالته
شر الجزاء بما ألفيته طلَعا
وحول خبر الإسراء يقول الصديق رضوان الله عليه
عجبت لما أسرى الإله بعبده
من البيت ليلاً نحو بيت مقدّسِ
كلا طلقيه كان منّ ببعضها
ذهابا وإقبالاً ومامن معرَّسِ
فآمنت إيماناً بربي وبينت
لنا كتب من عنده لم تلبَّسِ
وفي غزوة عبيدة بن الحارث وهي السرية التي عقد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أول راية وكان فيها أول سهم رمي به في الإسلام من قوس سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه والقصيدة محل خلاف فقد نسبت للصديق في العمدة وأنكرها ابن هشام في السيرة النبوية:
من طيف سلمى بالبطاح الرمائث
أرقت وأمر في العشيرة حادثِ
ترى من لؤي فرقة لايصدها
عن الكفر تذكير ولا بعث باعثِ
رسول أتاهم صادق فتكذبوا
عليه وقالوا لست فينا بماكثِ
إذا مادعوناهم إلى الحق أدبروا
وهروا هرير المجحِرات اللواهث
ويروي رضي الله عنه هجرته مع خير الورى
وهاجر أرضهم حتى يكون لنا
قوم عليهم ذوو عز وأنصارِ
حتى إذا الليل وارانا جوانبه
وسد من دون ما نخشى بأستارِ
سار الأريقط يهدينا وأينقه
ينعين بالقرم نعيا تحت اكوارِ
والأريقط هو عبدالله بن الاريقط وقيل الارقط الذي استأجره الرسول عليه الصلاة والسلام ليدلهما على الطريق.
وامتدح الصديق من هو أهل لذلك امتدح رجالاً صدقوا ماعاهدوا الله عليه امتدح من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في غزوة أحد عندما تشتت الجمع ثبت مع من ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشلت احدى يديه عندما وقى بها النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يقول الصديق عليه رضوان الله:
حمَى نبي الهدى بالسيف منصلتاً
حتى إذا انكشفوا حامى عن الدينِ
صبراً عن الطعن إذ ولت جماعتنا
والناس من بين محروم ومغبونِ
طلحة بن عبيد الله قد وجبت
لك الجنان وتزويج الدمى العينِ
كما يشيد الصديق رضي الله عنه بالأنصار ويذكر مواقفهم وذبهم عن الإسلام في قصيدة بدأها بتذكر الديار وبعثة الرسول عليه الصلاة والسلام مبينا فضل الإسلام يقول:
وآزره أبناء قيلة فابتنوا
من المجد بنياناً اغر مشهرا
وسماهم الأنصار أنصار دينه
وكان عطاء الله أعلى وأكبرا
وآووا رسول الله إذ حل دارهم
بلا ضجر خلقا سجيحا ميسرا
ولم يمنحوا الأعداء إلا مقوماً
أصم ردينياً وعضباً مذكرا
وأبناء قيلة هم الأنصار نسبة إلى أمهم قيلة بنت الارقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقياء وهي ام للأوس والخزرج. وفي غزوة عبدالله بن جحش حين قالت قريش ان محمداً وأصحابه سفكوا الدماء في الأشهر الحرم والقصة ان الرسول عليه الصلاة والسلام بعث عبدالله على رأس سرية من ثمانية من المهاجرين إلى موضع بين مكة والطائف ليترصدوا قريشاً ويعرفوا أخبارها فمرت عليهم عير تحمل تجارة لقريش فيها أربعة رجال وذلك في آخر شهر رجب الحرام فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتعن منكم به ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام فترددوا ثم شجعوا أنفسهم عليهم فقتلوا واحداً وأسروا اثنين وأفلت واحد فأخذوا العير والأسيرين وقدموا على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فأنكر عليهم ذلك وقالت قريش ان محمداً وأصحابه قد استحلوا الشهر الحرام.. يقول الصديق في ذلك:
تعدون قتلاً في الحرام عظيمةً
وأعظم منه لو يرى الرشد راشدُ
صدودكمُ عما يقول محمدٌ
وكفرٌ به والله ربيَ شاهدُ
واخراجكم من مسجد الله أهله
لئلا يرى في البيت لله ساجدُ
فإنا وإن عيرتمونا بقتله
وارجف بالاسلام باغٍ وحاسدُ
سقينا من ابن الحضرميّ رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقدُ
وواقد هو واقد بن عبدالله التميمي الذي رمى ابن الحضرمي بسهم فقتله ويصف شجاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم حنين حين فر المسلمون ولم يثبت معه الا قليل من المسلمين:
حين ولَّى الناس وانخذلوا
هرباً واحمرت الحدقُ
شدَّ كالليث الهزبر وقد
عظم الاشجان والقلقُ
لم يخب اذ شد جمعهمُ
والقنا إذ ذاك تأتلقُ
وللفخر في حياة الصديق جانب كبير.. يقول في احدى قصائده واصفاً ما حل بالمشركين على أيدي جند الله:
وقالوا: الحرب قلنا الحرب أدنى
لإبراء النفوس من اقتراف
صباحيَّاتنا كنجوم ليلٍ
محددة كأشراف الأشافي
وساقيناهمُ موتا زعافاً
فلم ينجوا من الموت الزعافِ
والصديق يصف كثرة المسلمين وان أسنتهم بعدد النجوم ثم يوضح الفرق بين قتلى الفريقين:
فآب المسلمون إلى جنانٍ
يسقّون العضارس بالسلافِ
وراح المشركون إلى شرابٍ
حميم شيب بالسم المذافِ
وأُبنا غانمين بذا وهذا
حوالي خير منتعل وحافِ
وما أشد فراق الحبيب لحبيبه وما أقسى وداع الصاحب لصاحبه سطر ذلك الصديق في رثائه لسيد الأمم محمد عليه الصلاة والسلام بقوله:
لمَّا رأيت نبينا متجندلاً
ضاقت عليَّ بعرضهن الدورُ
وارتعت روعة مستهامٍ والهٍ
والعظم مِنِّي واهن مكسورُ
أعتيق ويحك ان حِبَّك قد ثوى
وبقيت منفرداً وانت حسيرُ
ياليتني من قبل مهلك صاحبي
غيِّبتُ في جدث عليَّ صحورُ
عتيق هو الاسم الذي سماه به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له: يا أبابكر أنت عتيق الله من النار ويقول أيضاً:
أجِدَّك ما لعينك لاتنامُ
كأن جفونها فيها كلامُ
لأمر مصيبة عظمت وجلت
ودمع العين أهونه انسجامُ
فجعنا بالنبيِّ وكان فينا
إمام كرامة نعم الإمامُ
وكان قوامنا والرأس فينا
فنحن اليوم ليس لنا قِوامُ
نموج ونشتكي ماقد لقينا
ويشكو فقده البلد الحرامُ
ويقول رضي الله عنه راثياً سيد الأنام عليه الصلاة والسلام معبراً عن كرهه في الحياة بعد ان رحل عنها الرسول إلى جوار ربه:
أيا عين جودي ولا تسأمي
وحق البكاء على السيدِ
على خير خندفَ عند البلاءِ
أمسى يُغيَّب في الملحدِ
فصلى المليك وليُّ العبادِ
ورب العباد على أحمدِ
فكيف الحياة لفقد الحبيبِ
وزين المعاشر في المشهدِ
فليت الممات لنا كلِّنا
وكنا جميعاً مع المهتدي
وخندف هو من آباء الرسول الأوائل والمعنى في البيت الثاني خير أبناء خندف. ويبث الصديق أحزانه وحق له ذلك فكيف لا يألم ويئن من كان صاحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى الصديق لو تقوم القيامة حتى لايرى وجه أحد بعد وجه حبيبه وصاحبه وإمام المسلمين يصور عظم بثه وقد هان عليه أي حادث قد يلم به ويصور فاجعته ليست بحادثة انتقال الرسول إلى جوار ربه بل إن هناك أمراً جللاً وهو إذا تذكر انه لايرى الرسول وقصده في الدنيا من خلال القصيدة
مسَّت هموم ثقال قد تأوّبني
مثل الصخور عظام هدت الجسدا
ليت القيامة قامت عند مهلكه
كي لانرى بعده مالاً ولا ولدا
ولست آسى على شيء فجعت به
بعد الرسول إذا امسى ميتا فقدا
كم لي بعدك من هم ينصحني
إذا تذكرت أني لا أراك أبدا
هذا بعض من شعر الصديق رضي الله عنه وارضاه رأيت انه من الضروري نشره والتعريف به.وبالله التوفيق