| مقـالات
أول مقالة أستاذي الفاضل عبدالفتاح أبو مدين حفظه الله حُكْمٌ على منهجي في الرسم بأنه تعسير، وسياق كلامه يقضي بأن الرسم المعتاد هو اليسر.. مع إجماع ذوي التخصص على أن رسمنا الإملائي عسير ومعقد.. وقبل مناقشة كل ما تفضل به من طرحٍ أود بيان البرهان القاطع بأن ما انتهيتُ إليه هو منتهى اليسر عن خلاصة تقعيد لا تعقيد غير عسيرة ولا متشعِّبة.. والبرهان القاطع لا يعدو شرح الواقع كما هو.. إن واقع الرسم أن يُحقِّق صورة الحرف كما ينطبق، لتظهر دلالة المخطوط على المراد الذي يرمز إليه الخط.. وصورة الحرف كما يُنطق فصلاً، ووصلاً تعلمها الطالب بالتَّهجِّي، ودُرِّبَ على قراءة وكتابة الحرف فصلاً ووصلاً كما يُنطقس مهملاً ومعجماً ومشكلاً ؛ فَيبْدأُ بالتيسيرعند تعليم الطالب القراءة والخط، فلا نكتب له حرفاً ينطق بالألف مثل «علا» بالياء «على » فهذا أول تشويش عليه، ولانهضم الكلمة حقها من صور الحروف، فنكتب له الجزأ هكذا «الجزء».. وهو قد علم أن الألف إما مسهلة هكذا«ا» وإما محققة هكذا «أَ أً أُ أٌ أْ إِ إٍ».. ولا نكتب له «هاذا» هكذا:«هذا»، فنهضم صورة الهاء حقها من المد.. ونعلمه أن الهمزة علامة تحقيق للألف، فتكون ألفاً مهموزة.. وأن الهمزة نفسها ليست حرفاً ... ونعمله أن الشدة«ّّّّ» حرف تعني النطق بالحرف مرتين، وأن الحرف الأول ساكن.. ونعلمه أن حرف القاف هكذا «ق»، فإذا جعلنا له ذيلاً أغنى من الإعجام.. والذيل هكذا:«».. ونعلمه أن الضمتين معاً، والفتحتين، والكسرتين على حرف واحد: يعني نطق نون بعده لا تكتب، لدلالة علامة التنوين عليها.. ونعلمه أن الشكل لما أشكل مثل «عمر» وهو اسمان يُمَيِّزُ بينهما فتحُ الميم وسكونها، فلا نشوش عليه بواو بعد الاسم الذي سُكِّنت ميمه، لأن هذا إضافة مُلْبِسة، ولا حاجة إليها، لقيام الشكل بمهمتها.. ونعلمه أن إهمال الحرف من الشدة والتنوين دلالة على أن الأصل عدم التشديد والتنوين.. ونعلمه أن في الرسم ألا وإلا وإلاّ، فالحرف الدال على الغاية يكتب برسم الهمزة تحت الألف، وآخر الحرف ألف، ولا مسوغ للتغيير بكتابتها «إلى».. وأن تشديد اللام يميز أداة الاستثناء، وأن وضع الهمزة تحت الألف يميزها عن الاستفهامية التي همزتها فوق الألف.
ونحن نرسم له صورة الحرف بعد نضج الخط العربي بعلامات الإعجام والتشديد والتنوين، وعلامات تشكيل المرفوع والمنصوب، والمضموم، والساكن.. ومن مسلَّمات ذلك النضج أن التشكيل لما أشكل.. ولا نخلط الأوراق، فنجمع له مثلاً بين علم الرسم والنحو، فنكتب له ما ينطق بالألف على الياء مثل «سعى »، لأن أصلها الياء بدلالة «سعيت»، بل نكتبها كما تنطق«سعا»، وأما الفقه فيما وراء ذلك فمجاله النحو والصرف، ولا أثر لذلك في الرسم الذي جعل لأداء صورة الحرف كما تنطق.. وإنما نعلمه من اللغة والنحو ما لا يستطيع الرسم بدونه كالمواضع التي تكون فيها الألف مسهلة، والمواضع التي تكون فيها مهموزة.. ونعلمه الأمورالمستثناة اليسيرة التي تنتج قواعد محصورة سهلة غير متشعبة، فنعلمه «ال» الشَّمسية والقمرية، وأن لام الشمسية لا تنطق ولا تشكل، ولهذا تكتب الشمس باللام، ولا نكتبها هكذا:« اشَّمس»، لأن تسهيل الألف، وعدم تشكيل اللام، وتشديد الشين جعلنا في أمنٍ من النطق باللام، ولأننا بينا له الفارق بين الشمسية والقمرية.. ونبين له أن وضع الهمزة من الألف المهموزة على نبرة إذا كانت غير مكسورة لا يسوغ تغيير صورة الألف المهموزة، وأن ما يورده أهل الرسم من تعليل صحيح في ذاته غير مُؤثِّر في تغيير صورة الحرف، لأنه لا علاقة لهذا الصحيح في ذاته بتغيير صورة الألف المهموزة، فلا يكون علة صحيحة.. كما أن توالي ألفين إذا لم تكتب الهمزة على نبرة إن كان مستكرهاً أو غير جميل: لايسوِّغ تغيير صورة الألف المهموزة، لأن التغيير أشد كراهة وقبحاً.. ولكن إذا أُضيف إلى هذا التعليل تعليل آخر وهو جمال اتصال حروف الكلمة ووجد دليل التصحيح وهو كسر الألف المهموزة: فحينئذ تترجع كتابة الهمزة وحدها على نبرة، وتكون النبرة ) وهي حرف ياءٍ غير منقوطة( نائبة عن الألف، لتناوب الحرفين في علم الصرف، ولنيابة الياء عن الكسرة في المثنى والجمع.. مع أن هذا التعليل قلب القاعدة،فجعل الهمزة حرفاً وهي علامة حرف، وجعل الياء التي هي حرف علامة للكسر.. ولعل الحذاق إذا أنسوا لمنهجي في الرسم يجعلون هذا الاستثناء مرحلياً، ويقضون برسم صورة الألف المهموزة على كل حال.. ويعلم المتهجي قاعدة وصل الحروف في كلمة، وفصلها في كلمتين، وحينئذ يكون تعليم التهجي مصاحباً لتعليم الرسم، فإذا شدا البدايات من علم النحو، فعرف مايسهل وما يهمز، وما يفصل وما يوصل: تذكر ما حذقه من التهجي رسماً وقراءة دون أن نفرض عليه حقلاً علمياً جديداً اسمه الرسم الإملائي المتعارض مع ما حذقه من الهجاء، الزائد على ما عرفه بقواعد كثيرة متشعبة بلا نور ولا برهان.. وتكون النتيجة بعد ذلك استحداث مادة لا ضرورة لها. وصعوبة استيعابٍ على عامة المثقفين ينتج عنها أخطاءٌ في النطق وفي الكتابة.. إذن «1» قول أستاذنا عبدالفتاح عن المنهج الذي أسلفته:« الجنوح إلى هذا التعقيد لا يحتمله العصر»: عكس للواقع تماماً، لأن العصر يشكو صعوبة علم الرسم الإملائي، وتشعب قواعده، وتغييره صور الحروف التي حُذِقَتْ في التهجي ابتداءً بتعليلات غير واردة، وبإضافات لا مسوِّغ لها بعد استقرار تشكيل الحروف، وبعد نصوع قاعدة: التشكيل لما أشكل.
وقال حفظه الله عن منهجي:«ولو كان هذا المنطق ظهر في القرن الرابع الهجري زمن التدوين، والازدهار الثقافي لما أُنْكر هذا التوجه»!!.
قال أبو عبدالرحمن: جوابي للوالد الكريم من عدة أمور:
أولها: أن القرن الرابع الهجري هو الأَلَق في دنيا العرب بعد الأمية الثقافية والعلمية والكتابة، وليس هو الغاية في عطاء ما بعده من أجيال عربية وإسلامية وعالمية تتلاقح ثقافاتها.. إلاّ في الثوابت والكيان من أحكام الشرع القطعية، وأحكام اللغة العربية التي بها بيان الشرع ومنها أحد العناصر المهمة من هُوِيَّة العرب وتاريخ المسلمين كما هو، وتركتهم من الرقعة كما هي.
وثانيها: أن أستاذنا الفاضل لو راجع ما كتبته وهو الذي تحدث عنه أستاذنا بقوله عني وعن منهجي:«بعد أن مهد له قبل بضعة أشهر»: لعلم أن عصر الازدهار الثقافي هو الذي نادى بمنهجي على ألسنة الرواد، وأن هذا الرسم الذي نعيشه ليس محل إجماع من السلف في عصور الازدهار.
وثالثها: أن استساغة الأجيال فيما بعد على الرغم من عصور الازدهار: كان بسبب الحرص على القرب من رسم المصحف الإمام، مع الخلط بين علم الرسم وعلم النحو والصرف.
ورابعها: أن رسم المصحف الإمام كان قبل أن ينمو الخط العربي بالإعجام والنقط والتشكيل: فالرسم بدائي.
وخامسها: هذا الرسم البدائي قدر رباني حكيم، لِيُضْبط المصحفُ الشريف وفقه، لأن القرآن الكريم نزل بلغات ولهجات وقراءات تقوم على المحتمل من ذلك الرسم الإملائي، ولهذا كان من شروط صحة القراءة موافقة رسم المصحف الإمام.
وسادسها: القول بأن رسم المصحف توقيفي دعوى بلا برهان ولا سيما أنه لم يوجد الرسم البديل بعد.. أما أن كتابة المصحف يجب أن تكون وفق رسم المصحف الإمام فهذا مما لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، وقد أسلفت بيان ذلك.
وسابعها: أن قضاء الله الكوني بنزول الذكر الحكيم )الرسم الإملائي بذلك المستوى( ظاهرة كمال في رسم المصحف، وليست ظاهرة كمال في رسمنا لغير المصحف، ولهذا تطوَّر الرسم على أيدي العلماء من أمثال الخليل بن أحمد، وعلى أيدي الخطاطين كابن البواب.. ومثال ذلك الأمية الكتابية فهي كمال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها من بيِّناته بين الأميين.. وبعد كمال الدين أصبحت الأمية نقصاً فينا، ولهذا أوجب المسلمون التعلم ابتداء بالكتابة، فكان ذلك من ضرورات الدين، وبهذا تم الانتقال من الأمية إلى التدوين، ومن الجهل إلى العلم.
وثامنها: أن تيسير العلم مطلب شرعي وعقلي، وتسهيل الرسم وفق قاعدة هو المفتاح لتيسير العلم كتابة وقراءة.
ولقد كرر أستاذنا الفاضل ما أسلفت نقاشه بعبارة أخرى، وهي قوله:«أما أن يكون )أي منهجي في الإملاء( في القرن الخامس عشر الهجري: فإنه موضع غرابة.. إنني لا أعترض على تخريجات الشيخ، لإثبات قواعد إملائية صحيحة.. إلا أن الزمن لا يتقبل هذا التعقيد».
قال أبو عبدالرحمن: هذا الرسم غير مستقر، ففي سورية يكتبون «يقرأون»، وفي بلاد ثانية يقرؤون، وفي بلاد ثالثة يقرءون».. القرن الخامس عشر، والتعقيد، مضى نقاشهما في الكلام عن روح العصر، والازدهار في القرن الرابع الهجري.. وأما الغرابة فليست قيمة معيارية كالقيم المشتقة من الحق والخير والجمال وإنما ما تتعلق به الغرابة هو موضوع القيمة، فإن كان المستغرَب )بصفة اسم المفعول( أيسر وأقعد وأبعد عن الفضول وذا حسنٍ على الطرس وفي نظر العين: فالغرابة وحشة من الحق والخير والجمال.. والعكس بالعكس، وقد أسلفت البراهين الساطعة على أن منهجي في الرسم معياري يجب أن نأنس له ولا ننكره باستغراب، حتى لا يكون الاستغراب وحشة من قيمة حق أو.. إلخ.. وبعد هذا كله أقول لأستاذي الفاضل: ليست مهمة منهجي في الرسم إيجاد تخريجات صحيحة.. ولو كانت هذه مهمة منهجي لكان على الشيخ أن يعترض، ولا يسعه أن لا يعترض كما صرح بذلك.. إن مهمة منهجي مترابطة العناصر في التالي:
العنصر الأول: أن مهمة منهجي التخريج الصحيح وفق هجاء الحروف المستقر خطاً «2» ووفق ما يحقق النطق.. وليست مهمتي مطلق تصحيح، فقد يصح للنحوي أن يقول: علامة الفعل الذي أصله الياء أن أرسمه على الياء، فأكتب سعا هكذا «سعى».. فهذا صحيح بالنسبة له، وليس كل صحيح يكون راجحاً «3»، فقد يصح شيئان ويكون أحدهما أرجح، فنقول للنحوي: الصحيح الأرجح أن تَتَّبع قاعدة الرسم في تحرير صورة الحرف كما يُنطق، وتبين قاعدة الواوي واليائي بجمل تقريرية، وبالنقل عن أهل اللغة المدون في معاجمها.
والعنصر الثاني: أنه فهم مما سبق أن من مهمتي بيان الرجحان بعد بيان الصحة، وإقامة البرهان على الصحة والرجحان.
والعنصر الثالث: أنني لا أخلط الرسم الإملائي بعلم آخر كالنحو إلا ما توقفت صحة الرسم عليه كمعرفة القاعدة في تحقيق الألف وتسهيلها.. والرجحان بعد ذلك أن الرسم من أجل القارئ النحوي وغير النحوي، فالنحوي تابع لقاعدة الرسم غير متبوع.. فالرجحان أن الكتابة والقراءة للنحوي وغيره، والصحة أن الحرف تحققت صورته حسب المستقر من علم الخط، وأن الحرف يُؤدَّى كما ينطق.
والعنصر الرابع: أن منهجي يدفع ما لا يصح ولا يرجح مثل: هيئة وبيئة وهذا وأولئك وعمرو ومائة وجزء ورؤوس.. إلخ.. إلخ، فكل هذا إخلال بصورة الحرف كتابة يوقع في الخطأ قراءة.. ومع التغيير يوجد إسقاطاً بلا مسوِّغ مثل«هذا»، فلماذا تُحْرم الهاء حقها في المد.. وتوجد زيادات بلا مسوغ كواو عمرو وواوأولائك.. وما ذُكِر من تسويغٍ غير وارد، لأنه لا يرتبط بالدعوى ارتباط العلة بالمعلول لعلاقة مُؤثِّرة.. وفي التغيير إلغاء لما استقر من التشكيل، فكلمة «رأُوس» يغني تشكيل الألف المهموزة بالضم عن إلغاء الشكل وإقحام الواو عوضاً من الألف، فاجتمع إلغاء وإقحام، وتغيير.
والعنصر الخامس: أن منهجي يَقْصِر القواعد على ما اقتضاه علم الخط من رسم الحروف، وعلى ما اقتضته الضرورة البيانية الرامزة لأن الخط رمز بياني من الكتابة حسب النطق.. كما أنه يقصر القواعد على استثناءات اقتضاها دفع اللبس مع مرجِّح ككتابة اللام الشمسية، فهذا هو التيسير وفق قاعدة حاصرة كافية للمقدار من الحاجة.. أما مراعاة أمن اللبس فلا قيمة له، لأنه نفي لغير محصور محتمل، وإنما العبرة بدفع اللبس الموجود.
والعنصر السادس: أن منهجي ينفي ما لا يحتاجه الرسم وفق قاعدة الخط، وتحقيق النطق من قواعد فضولية متشعبة مرهقة مغيرة للصحة والرجحان، فهذا هو التيسير بالتحلل من قيودٍ جعلت قواعد وهي غير واردة.
وعلل أستاذنا الكريم الغرابة والتعقيد في منهجي )مع استثناءات مِن قِبَله( بقوله: «من اليسير أن أقراء كلمة «علا» بدل «على» التي درجنا عليها، وكذا عبدالرحمان بألف بعد الميم كما يصنع المغاربة.. ولكن من العسير )والعسير جداً( أن أسيغ ويهضم القارىء كلمات مثل أغنا بدل«أغنى» التي شاعت وتداولها الكاتبون، وذالك والوسطا ومضا».
قال أبو عبدالرحمن: هاهنا عدة وقفات:
الوقفة الأولى : أنني لست مع الوالد الكريم على أن قراءة «علا» أيسر من قراءة «أغنا»، لأن «على» الحرف تلتبس ب «علا» الفعل.. و«أغنا» الماضي لا تلتبس ب «أُغني» المضارع «4».
وكل لبسٍ يلتبس ب «علا» الفعل، فإن احتمل ذلك في مثل «علا زيد الهم الجسيم، أو «علا موسى المنتهى من هذه الصعاب»..وكان الكلام مبتدأً بلا قرائن ولا معهود: فإننا في الأول نميز الفعل بنصب زيد هكذا «زيداً»، ونميز الحرف بإهمال تشكيل زيد، وبتشكيله هكذا «زيدٍ».. وفي الثانية نميز الفعل: إما بعلامة التنصيص هكذا: )علا( موسى المنتهى من هذه الصعاب.. كما نميز الاسم الأعجمي «كانت» الفيلسوف الألماني بعلامة التنصيص إذا التبس بالفعل المسند إلا تاء التأنيث «كانت».. وقد نكتفي بتشكيل النون بالسكون.. وإما بإضافة جملة تفسيرية هكذا: على بمعنى صعد موسى المنتهى.. إلخ».. ولا غضاضة في هذا الاستدراك، لأن عدم قبول ما قبل وما بعد «علا»للتشكيل من الصور النادرة.. مع الخلو من سياق ذي قرينة، ومع خلو الحال من معهود ذهني.. وآثرت علامة التنصيص للفعل، لأن استعمال الحرف أكثر.. وهكذا الوضع مع «يحيا» الاسم والفعل لو فرض الالتباس فإننا نميز الاسم بعلامة التنصيص، لأن دلالته ذاتية أخص من معاني الحياة التي فعلها حيا يحيا حياةً.
وبإيجاز فإننا نلجأ عند حدوث اللبس في نوادر الأحوال إلى مميزات غير هدم بناء الخط باستبدال حرف بحرف، وذلك تشويه لصورة الحرف الأصلية.
الوقفة الثانية: كتابة «الرحمان» هكذا «الرحمن» ملبسة باحتمال اسم «رحمنٍ»، وإن ارتجال الأسماء لا قياس له.. ولكننا أمنا اللبس بثلاثة أمور هي : المعهود الشرعي في تعليم الناس أن الرحمان ولاسيما عند التعبيد بإضافة «عبد» من أسماء الله الخاصة به، ولا يجوز إطلاقها على غيره سبحانه، وعادتهم في الرسم، وذلك بإضافة ألف صغيرة بعد الميم في الرحمن.. وطول الالف الذي جعل الرحمن بمعنى الرحمان وإن أهملوا الألف الصغيرة.. ومنهجي كتابتها «الرحمن» في البسملة، لأنها آية، ونحن مقيدون بكتابة الآيات على رسم المصحف الإمام.. وفيما عدا ذلك يجب تحقيق جمال الحرف باستكمال صورته في الخط المطابقة للنطق، وذلك بكتابة الكلمة هكذا «الرحمان».
الوقفة الثالثة: لماذ يكون من العسير جداً على أستاذنا رسم «أغنا» بدل«أغنى» ما دام تنازل عن المألوف هنا بقوله:« التي شاعت، وتداولها الكاتبون»؟.. ولو قال «الكُتَّاب» لكان أبلغ، لأنها أدل على الشيوع.. وتساؤلي هاهنا في محله، لأنه فرق بين مألوفوين بدون ذكر فارق معتبر، ولأن ما رفضه أحق وأولى مما قبله، لأن «أغنا» لا تلتبس بغيرها.
الوقفة الرابعة: لا عسر فيما ذكرت من منهج، لأنه قائم على صورة الحرف الحقيقية في الخط المطابقة للنطق.. بل العسر فيما خالف الأصل بلا مسوغ قاهر، وقلب القاعدة في الخط والنطق، وجعل هذا الهدم بديلاً عن مكملات الرسم من التشكيل والترقيم، وتسويغه بلا مسوغٍ معتبر )وهو تحقيق دلالات نحوية وصرفية(، فهذا غير معتبر لما أسلفته من كون الرسم لعموم القارئ لا لخصوص النحوي.
الوقفة الخامسة: أن العسر تلخَّص في صعوبة الخروج عن المألوف، وهذا أمر أعانيه شخصياً، إذ يكثر الشطب والتحويق في مسوداتي لأنه يغلبني الإِلْف؛ فأكتب حتى وعلى ومتى، ثم أشطب وأكتب حتا وعلى ومتا.. ولكن التخلص من الإلف المعقَّد المخالف للقاعدة الواقعية بقواعد إرادية سهل عليّ و أمثال أستاذنا عبدالفتاح الذين هضموا تلك القواعد على عسرها ومخالفتها للخط المطابق للنطق.. ومنهجي سهل عليَّ وعلى أمثال عبدالفتاح، وأكثر سهولة على الناشئة، لأنهم يتدربون على الكتابة والنطق في المرحلة الأولى المبكرة في تعلم الخط والتهجي، ولا يصادم الرسم المعقد الفهم للخط والنطق وفق صورة الحرفه الخطية.
الوقفة السادسة: أن الإلْفَ ليس قيمة معيارية، بل المألوف موضوع للقيمة، وبمقتضى القيمة المعيارية يُقرُّ أو يرفض.. ألا ترى ايها الوالد الكريم: أننا ألفنا في النحو أن «أفْعل» تأتي للوصف المجرد لا للتفضيل، ويضربون المثال ب «أعجل» في شعر الشنفرى«5»، و«أطول» في شعر الفرزدق.. وهذا خطأ محض، لأن كل ما ذكروه وصفاً هو تفضيل بتقدير مفضول يعود لرفاق الشنفرى وحالتيه في الجوع والشبع، وإلا قوم جرير«6».. وكل صيغة ل «أفعل» هي وصف بلا ريب.. إلا أنه وصف أفضل من وصف آخر.. والكلام عن «أفعل» الوصفية التفضيلية، أما اسم الذات فشيء آخر؟!.. ألا ترى أن النحويين مجمعون على أن فاعَلَ للمشاركة بين طرفين وهم يجدون مثل سافر وليس فيها مشاركة من طرفين، فعُلِم أن أصل الصيغة لمتابعة الفعل سواءٌ أكان من طرف واحد أم من طرفين؟!.. ألا ترى أن النحويين مجمعون على أن للفعل الواحد أكثر من مصدر مع أن بناء الكلام لا يقبل هذه الدعوى، وإنما المصدر واحد، ولكن ينوب عنه ما يُؤدِّي عمله وهو ليس بمصدر حقيقة؟!.. ألا ترى أن الصرفيين مجمعون على أن مثل ضاربٍ مشتق من ضَرَبَ أو الضرب، مع أن هذا وهْمٌ مجرد، وإنما الاشتقاق في المعاني كاشتقاق الشم وهو تحصيل الرائحة من الشمم الذي هو العلو الحسي، لأن أداة الشم أرفع ما في الإنسان معنوياً، ولهذا كان أفضل العبادات إرغامه بالسجود لله؟.. أما ضرب ويضرب وضارب والضِّرْب فلا اشتقاق فيها، وإنما هو تحويل إلى أوزان )أي صيغ بعرف النحويين( موجودة في اللغة ليست من اشتقاق المتكلِّم، وهي دالة على معانٍ زائدة على معنى المادة، فالسفر له معناه لغةً، ولكن «فاعل» ذات مدلول خاص إذا حولتَ إليها السفر فقلت: سافر: زاد معنى المادة بدلالة الصيغة الذي هو تتابع الفعل؟!.. ألا ترى أن النحويين مجمعون على أن الكلام اسم وفعل وحرف«7» مع أن هذه القسمة غير حاصرة إلا من جهة العلامة الشكلية كقبول الاسم للجر والتنوين.. والمصدر بهذه العلامة اسم، ولكن له دلالته المتميزة عن اسم الذات المجردة، فجاء كتاب الدكتور السافي«أقسام الكلام»، فحصرها في سبعة لا ثلاثة لكل قسم معناه ودلالته ووظيفته الخاصة به.. وكان هذا الكتاب بلورة لمحاولات اجتهادية سابقة«8»؟!.. ألا ترى أن الإلف قائم على ما ذهب إليه ابن مالك من جعل القاعدة تحويل الفعيلة إلا فَعَلي مثل ربيعة وربعي، وأن الاستثناء تحويل الفعيلة إلا فعيلي، ثم دل الاستقراء اللغوي على أن العكس هو الصحيح؟!!.. فهل نلغي الأحق والأجمل من أجل طول الإلف ، وبأي برهان تصح هذه الدعوى؟ ألم نلغ بحرية فكرية جمالية، لا بسلوك حر أساليب عبدالحميد الكاتب وابن العميد والجاحظ )وهم من قمم البلاغة في عصور الازدهار( ونأخذ بأساليب طه حسين ومن بعده من الرواد.. وهكذا ألغينا السجع، والبديع المتقصَّد المتكلَّف، وأساليب الرسائل السلطانية والمراسيم المطولة بالاستفتاح والتقديم وطول الصنعة الإنشائية على أساليب الخطب برسائل سلطانية مختصرة مباشرة التعبير عن الغرض.. وكان ذلك الإلف عامراً بقرون كثيرة من تاريخنا، وإلى لقاءٍ آخر إن شاء الله عن الرسم والزيات.
الحواشي
«1» في الرسم المعتاد «إذاً» وقد ذكرتُ في مناسبات عديدة قول المبرد«أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذن إذاً»، لأن الذال غير منونة، بل النون أصلية مثلها في «عن».
«2» لك أن تضع الشدَّة فوق الطاء وفوقها علامة التنوين، ولك أن تضع الشدة وحدها فوق الطاء علامة على تشديدها، وتضع علامة التنوين فوق الألف، دلالة على تنوين الطاء الثانية، وهذا أجمل وأرجح.. وقد جرى أهل الرسم على وضع علامة التنوين فوق طرف الألف من يسارها، ولا أرى ذلك، لأن التنوين للحرف، فتتوسطه العلامة، ولأن ذلك أجمل، ولأن وضعها طرفاً قد يحوج إلى مزيد مسافة حتى لا تشتبك العلامة بما يليها.
«3» دليلا التصحيح والترجيح مما يغفل عنه مثقفو العصر، فيحسبون كل صحيح راجحاً.. مثال ذلك قول الله تعالى:«فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله» )سورة النحل/ 98(، فتقديم القراءة على الاستعاذة صحيح في لغة العرب، لأن ذلك ظاهر النص: من ترتيب الاستعاذة على القراءة، فالاستعاذة تالية للقراءة.. وتقديم الاستعاذة على القراءة صحيح في لغة العرب بدلالة غلبة تقدير«أردتُ» بعد إذا، فهو صحيح لغة، وصحيح شرعاً لكثرة النصوص بهذا المعنى.. والجمع بين الأمرين محال إرادته وإن كان ممكناً في الواقع، لأن تركيب الكلام لايحتمل )بأي دلالة لغوية( هذا الجمع، فلابد من مرجح، فتجعل الاستعاذة بعد التلاوة في الأصل، لأن الأصل الحقيقة وعدم التقدير، فهذا رجحان)أعني دلالة الأصل(.. وتجعل الاستعاذة قبل التلاوة إن قام الدليل على أن ذلك هو مراد الشرع، فهذا الرجحان زائد على دلالة الأصل، فهو أرجح.. وقد قام البرهان الشرعي على إرادة تقديم الاستعاذة، وجرت به السيرة العملية.. وبإيجاز فكل خطاب يحتمل أكثر من معنى، وكل معنى صحيح لغةً وعقلاً: فلا يجوز اختيار أحد المعاني لأنه صحيح، لأن ذلك ترجيح بلا مرجح، بل لا بد من برهان مرجح يدل على إرادتها جميعاً، أو يمنع من إرادتها جميعاً.. وفي الأخير لابد من مرجح لإرادة أحدالمعاني التي لم يقم برهان يمنع منها.
«4» في الرسم المعتاد يكتبون الماضي هكذا «أغنى» ولا ينقطون الياء، للدلالة على أنها نائبة عن الألف.. ولكن الالتباس حاصل من إهمال الشكل والنقط، وهذا كثير في خطوط المعاصرين.. فإن قالوا:«سنحرص على النقط والتشكيل لإزالة اللبس»: قلت إذن بارك الله فيكم ستجدون في ذلك غنى عن تغيير صور الحروف.
«5» لقد انتقدتُ مرةً بنقدٍ لاذع موجع الأستاذ الشاعر حسين سرحان رحمه الله لما قال في التلفاز: الشنفري بالياء.. وذلك من جنايه الرسم الإملائي المعتاد بكتابة الألف ياءً!!.
«6» نشرت بحثي عن «أفعل» في أحد كتبي المطبوعة.
«7» حدثني شيخي أبو تراب الظاهري منذ ثلاثين عاماً تقريباً أنه عاصرظاهرياً يقول: الكلام كله أسماء، لأن الله تعالى قال:«وعلم آدم الأسماء كلها»)سورة البقرة/ 31(، ولم يذكر فعلاً ولا حرفاً!!.. قال أبو عبدالرحمن: كأنه ذهب إلى أن الفعل اسم للحدث مقترناً بإيقاعه في زمان، وأن الحرف اسم للرابطة، فهذه طُرفة ألغت الفوارق بين أنواع الكلام.
«8» انظر عن رأيي في هذا الكتاب تحقيقي لكتيِّب تعليم الصبيان، وهو مختصر في النحو.
|
|
|
|
|