أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 13th July,2001 العدد:10515الطبعةالاولـي الجمعة 22 ,ربيع الثاني 1422

شرفات

الكاتب العربي جبار ياسين وشهادة عن المنفى والاغتراب
المثقفون العرب في المنافي يتعايشون بطريقة «أعمى يقود أعمى»
عيناه ممتلئتان بالصمت والحزن، وذاكرته مشدودة الى بغداد الطفولة والحنين. كأن الخروج من بغداد خروج آخر من رحم الأم ورحيل في المنافي والمجهول. تتبقى في الذاكرة اسماء وعناوين ووجوه وأماكن لكن العودة معلقة على شرط المستحيل. من هناك ينسج الكاتب العراقي جبار ياسين كلماته المتوهجة بنار الأسى: «على ضفاف الجنون»، «مديح الماضي»، «ارض النسيان»، «القارئ البغدادي»، «وداعا أيها الطفل». لقد اعتاد كل ليلة ان يسير في شوارع الغربة وهو يشم رائحة الماضي تنبعث من مكان ما. في تلك اللحظة يستحضر روح الشاعر بداخله ويغني لبغداد المدينة التي صارت وطنا في الذاكرة والمتخيل:
الكسل يصنع الشكل
* هل المنفى بالنسبة لك ككاتب ساعدك على احتراف الكتابة؟
لقد تركت العراق منذ ربع قرن أو أكثر. ومنذ ذلك التاريخ أعيش في فرنسا كاتبا وشاعرا ومترجما، وأزعم اني الآن احترف الكتابة وما يرافق الكتابة أي محاضرات، صحافة، ندوات وما شابه ذلك. فأنا متفرغ للكتابة وادير سلسلة فرنسية في إحدى دور النشر الفرنسية تهتم بترجمة الروايات من العربية الى الفرنسية وتصدر 4 روايات في العام. كما ان لي ترجمات الى الفرنسية لكثير من الشعراء العرب ومن ذلك مختارات من أشعار سعدي يوسف.
* من الملاحظ انك تكتب الشعر والقصة والرواية، بجانب القيام بالترجمة، فكيف تجد ذاتك بين هذه الأشكال المختلفة؟
هناك افكار صالحة لان تكتبها في قصيدة او في نص شعري «فأنا لا أدعي اني شاعر ولكني على حافة الشعر» ان كتاباتي في معظم الحالات تحادث الشعر، حينما تفرض الفكرة نفسها في وقت اختمارها تفرض الصيغة اللاحقة لها. من ناحية أخرى انا لا أؤمن بتعدد الأنواع. لا أومن بتخصص الكاتب في المجال الإبداعي. لقد كان هنري ميشو وهو من كبار شعراء فرنسا شاعرا ورساما وحينما تقرأ حياة بلوم مثلا تحس انه يكتب لنا قصصا بإيقاع شعري. الفصل بين الأنواع حالة يفترضها النقاد دائماً لتسهيل العملية النقدية.
نحن نعيش مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة حيث تمتزج الاشكال والصور مع بعضها، كما تمتزج العصور ببعضها في نفس الوقت، فحين نذهب لمشاهدة معرض مكرس لأعمال بيكاسو نذهب في اليوم التالي لمشاهدة معرض لميكلا نجلو او لمشاهدة أعمال فرعونية.. وهكذا.. كما أننا نحلل هذه الأعمال بأفكارنا اليوم، أي بأفكار المرحلة التي نعيشها.
هذا المثال الذي اسوقه يكشف عن حالة رغبة يعيشها العالم الأدبي، هو أنه لم يكن هناك نوع منفصل عن آخر، تستطيع ان تكتب رواية ثم تذكر فيها تدفقاً شعرياً او سيرة ذاتية او تتحدث فيها عن الرسم.
* لكن كيف تتحرك نحو هذا الشكل او ذاك؟
كما قلت، ان الفكرة تفرض نفسها كما ان جرأة الكاتب احيانا تلعب دورها. أي فكرة قابلة للمعالجة في أكثر من شكل. على سبيل المثال لي قصة قصيرة اسمها «خرزة» مكتوبة من اربعة سطور فقط ثم طورتها في موضع آخر ثماني صفحات، وحين سألني روائي فرنسي صديق: لماذا لم تعمل منها رواية؟ ليس هناك اجابة.. احياناً كسل الكتابة، واحياناً ثقافة الكاتب تفرض عليه توجها ما.
الطفولة ورائحة الماضي
* هناك إلحاح دائم في كتاباتك
على ذكريات الطفولة.. ما السر وراء ذلك؟
لقد تركت العراق في المرحلة التي بدأت أعي فيها طفولتي أي في العشرين من العمر، وفجأة وجدت نفسي في مكان بعيد أعيش إيقاع زمن آخر، أصبحت من جديد إنسانا لا ناطق، وكان عليّ مرة أخرى ان اتعلم لغة جديدة حتى اصبح حيوانا ناطقاً. كان عليّ ان احبو لكي اكتشف المكان الجديد وكان عليّ ان ابكي لكي اكتشف الزمان.
الإنسان يبكي احياناً حتى يكتشف الزمان. يبكي حينما يجوع وهنا يكتشف دورات الزمان في اليوم الواحد. كأنني ولدت وفطمت ولادة أخرى وأنا في العشرين. هذه الحالة اعادتني الى الطفولة، حيث كان عليّ ان أبدأ كل شيء من جديد. وهذا أمر من الصعوبة بمكان.. منتهى القسوة.. ولكي اضمن الشعور بأنني لم افقد كل شيء صار هذا التوجه لدي للنظر في طفولتي.
وان للذاكرة شروطها، فالذاكرة حينما تشعر بالقطع فإنها تتوجه وتتوغل بعيدا في الماضي كما أنها تتحصن أمام الحاضر. وأحياناً، وهذه اخطر مشكلة تواجه المنفيين واعني بها: انعدام صورة المستقبل فالمستقبل غير واضح المعالم، وليس فيه من شيء واضح إلا فكرة الموت.
المنفى والإغتراب
* هل يعني هذا ان العودة الى الطفولة في ابداعك ترتبط بفكرة المنفى والاغتراب؟
بالتأكيد معظم اعمالي تتوجه الى حالة القطع، والقيمة الأساسية فيما اكتب هي قيمة الذاكرة، فالمنفى والاغتراب، القسر اليومي، كل هذا يجعلنا نتوجه الى الماضي لكبح قسوة اغتراب الحاضر. من ناحية أخرى لدي قناعة شخصية اعتقد اننا لا نكتب إلا حينما نتوجه الى الماضي، فالكتابة هي توجه للماضي. نشعر اننا قد عشنا او نشعر بالحياة في الماضي. لان صورة الحاضر مفقودة. ما هو الحاضر؟ الحاضر وهم حقيقي ولذا نكتب دائماً بطريقة كان يا ماكان كما يقول سكوت فيتر جران: ان التيار يدفعنا دائماً الى الوراء، الى الماضي في غير انقطاع.
* حالة الاغتراب هذه، كيف يتعايش معها المثقفون العرب في المنفى؟
نتعايش كما يقول المثل «أعمى يقود أعمى» نحن نعيش ايضا هامشيين، حينما تنتقل من بلدك الى مكان آخر تنتقل من لغة. فالكاتب يعيش في اللغة. اللغة هي الأم. كأنه ينتقل من أم الى أم.
وهذا له مخاطره، لأننا نعيش نفس الاضطرابات والهواجس والهموم فصحبة المنفى هي صحبة شيقة وسيئة في نفس الوقت. هي اشكالية مزدوجة. ونحن مضطرون دائماً. ولكن هذا لا يمنع ان الواقع الإنساني من التعقيد والسهولة في نفس الوقت. هناك من جعلت المنافى منهم أشبه بكلاب سائبة وهناك من شذبتهم المنافى وأعادتهم الى الأصل الي حالة النقاء الأولى، حالة البراءة، لان المنفى المعذب بالألم يشعر بآلام العالم وبالتالي يشعر بالضعف ويتسامى اخلاقياً وأدبياً.
آخر الغرقى
* هل النماذج التي تنجح في المنفى وتحقق حضوراً إعلامياً مثل ادونيس او سعدي يوسف. هل يمكن التواصل مع هؤلاء في جهود منظمة؟
كلهم اصدقاء شخصيون منذ سنوات طويلة وبيننا احترام متبادل لكننا غير منظمين بالدرجة التي تتصورها رغم وجود افراد كثيرين يعيشون في المجتمع الغربي. هناك تواجد من الصداقي والروحي ولكن ليس على صعيد مشاريع. نحن نعيش كما لو كنا آخر الغرقى في السفينة، كل يحاول ان ينقذ جلده، هذا من ناحية. كما أن المؤسسات العربية القائمة في الخارج لها فاعلية محدودة ولم تتوفر الى اليوم على ما نتوخاه منها.
* لو تكلمنا عن الآخر الغربي والتكافؤ في العلاقة معه؟
ليس هناك تكافؤ في العلاقة! الغرب لم يتغير ونظرة الغرب الينا لم تتغير. تحسنت قليلا في بعض الأوساط لكنها مازالت كما هي. في الماضي كنا في مستعمرات ونحن اليوم في مستعمرات من نوع آخر «العولمة مثلاً» من جانب آخر للغرب ثقافته واجهزته الإعلامية التي تجعل صورته كما هي. كما أننا لا نساهم بشكل مثالي لتحسين صورتنا لدى الآخر.
المرايا
* وكيف يتأتى الخروج من هذه الدائرة المغلقة؟
اؤمن بفكرة المرايا، والحوار. فكرة الجهد المتبادل والثقة المتبادلة. هذه مسألة تارخية تفرضها احيانا عناصر قوة، وحسب تعبير ماركس «الحرية هي القوة» اعتقد ان حرية الشعوب نابعة من قوتها . فحرية الغرب نابعة من قوته ونحن حين كنا أقوياء أيام العباسيين كانت لدينا حرية أكثر من اليوم. المعادلة صعبة كما يقال. اعتقد ان المسألة تتعلق بأجيال. كما ان علاقتنا بالغرب مازالت حديثة التكوين.. المنافى الباريسية او اللندنية حديثة التكوين. نحن الآن وبشكل ما بدأنا نفهم الغرب.
فأنا على سبيل المثال اعمل في مؤسسات غربية على صعيد ثقافي، وأظن انني افهم الغرب نسبياً واعرف كيف يفكر. لكننا لم نبذل الجهد الكافي من جانبنا. كما أن الغرب لا يريد ان ينظر إلينا كما نحن، الصورة مرتبكة بين إسلام وارهاب. في الماضي كان الغرب ينظر الينا ككائنات ضعيفة ويساعدنا وهو محتل لنا. الآن ينظر الينا الغرب كمشاريع لإرهاب قادم، هذا على صعيد المجتمع. أما على مستوى المثقفين فعلاقتنا بهم فردية شخصية وليست بالمستوى الذي نطمح اليه.
أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved