| شرفات
أنف أفطس.. شفتان غليظتان.. عينان جاحظتان.. ثم قامة قصيرة.. تلك هي ملامح سقراط، وبسببها كان يتشاجر مع الصبية الآخرين الذين يطلقون عليه من قبيل السخرية «وجه الضفدع»! ورغم تأثير قبح الملامح عليه لم يتحرق لأن تغير خلقته بل كان يردد بكبرياء تذوب رقة «فلأكن جميلا في داخلي».
منذ تلك اللحظة البعيدة لم ينشغل سقراط بالاشياء لذاتها و انما كان دائما يبحث عن المعنى الكامن وراءها يلقي السؤال وراء السؤال ويضم الفكرة الى الاخرى حتى يتبين الاتجاه الصحيح تعلم هذا البحث من مهنة ابيه «سفرونسكس» النحّات، كان يقف ويعاونه في عمله، ورآه ذات مرة يضرب الإزميل بعمق كي ينحت وجه اسد، ويقول له: عليك بادي ذي بدء أن ترى الأسد كامنا في الحجر وتحس كأنه رابض هناك تحت السطح وعليك ان تطلق سراحه، وكلما احسنت رؤية الاسد احسنت معرفة الى اين والى اي عمق تشق الحجر، هذا هو سر المهنة الذي قالته امه هي الاخرى، وكانت لها سمعة طيبة في توليد النساء، وعندما سألها سقراط كيف تقوم بهذا العمل: «اجابت انني في الواقع لا افعل شيئاً، وانما اكتفي بان اعين الطفل على الانطلاق».
من هنا تعوّد سقراط ان يبحث في العمق.. فمن ذا الذي يعرف كم فكرة هنا تنتظر الانطلاق؟ ولو تعلم الانسان ان يسأل السؤال الصحيح لاستطاع ان يحررها تماما مثل رؤية الاسد تحت سطح الحجر ينتظر ضربة ازميل كي يخرج الى الحياة.
ولاحظ سقراط ان معظم العلماء يجيبون عن كيف تحدث الاشياء لكنهم لايجيبون عن «لماذا» لان السبب «لماذا» لايتعلق بمادة الاشياء وانما يتعلق بالغرض في الذهن. فالغرض الثابت في الذهن هو مايراه الناس خيرا فيتصرف وفقاله، وليس هناك من يسير وراء الشر وهو عالم بذلك، ثم ما افظع ان يكون المرء جاهلا، وان يُخدع فيما هو خير، لان هذا يعني ان حياته كلها تسير في اتجاه خاطئ!
ان سقراط يقيس المرء بافكاره لا بما يملك من اكياس واموال، وينظر اليه كذات حية مفكرة وراغبة في الخير، لذا تعجب من اهل اثينا الذين يحيون حياة غافلة تتصدر الظلال، والخير يحدث فيها ويحدث، لانه يحدث دون ادراك له، ومن هنا اطلق سقراط مقولته الشهيرة «اعرف نفسك بنفسك».
وكما صدم سقراط في العلماء صُدم كذلك في هؤلاء المعلمين المحترفين او السفسطائيين الذين يبشرون بفن الحياة الناجحة ثم هم في نهاية الامر يوظفون الجدل والبراعة اللغوية في سجال فارغ دون معنى او غرض سوى الشهرة والحصول على مال واحراج الخصوم.. ومن هؤلاء ثراسيماكس الذي تحدى سقراط وكان يفخر بانه يستطيع ان يثبت ان الشر اقوى من الخير!
وهنا اعترض سقراط: هل فكرت مرة ياثراسيماكس فيما يمسك الناس بعضهم الى بعض، وهل تستطيع حتى ثلة من اللصوص ان تبقى قوية موحدة الا ان كان لديهم شيء من الاحساس بالعدالة فيما بينهم؟ فكيف اذن تكون حالة مدينة يقسمها الشر شيعا واحزابا؟ وكيف تكون حال الروح ان اضطربت وعارض جانب منها جانبا اخر؟ ان الضعف دون القوة هو بالتأكيد ماينجم عن الشر.
انه في دفاعه المستميت عن الخير على قناعة تامة بان السفسطائيين او حتى العلماء مهما علموا الخير فهم ليسوا خبراء فيه لان الخبراء في الخير هم من يملكونه لامن يعلمونه فحسب والحق لايبين من الباطل بمجرد عد الانوف كما يفعل السفسطائيون.
آوى سقراط الى معنى الحق والخير رافضا ان ينخرط في السياسة ودهاليزها ومهازلها يعيش كمواطن عادي مطيع لقوانين المدينة وعندما نشبت الحرب العظمى مع اسبرطة كان سقراط في نحو التاسعة والثلاثين وعندما وضعت تلك الحرب اوزارها كان قد بلغ من العمر ستا وستين سنة، خلال هذا القتال الطويل خرج سقراط جنديا مطيعا مع الجيش الاثيني في ثلاث حملات على الاقل.
لم تكن سنة الحرب هذه سهلة مريحة، وبخاصة لرجل في متوسط العمر لايملك سوى موارد قليلة واسرة معلقة برقبته وزوجة حانقة دائما لانه لايتلقى نقوداً عن تعليمه لاصدقائه وفي احدى المعارك انتشر الطاعون ونقص الدفء والطعام واغلقت الاسواق لقلة مايباع وصاحب كل هذا انهيار للقيم والتقاليد وظن الكثيرون ان من يملك القوة يستطيع ان يقوم باي شيء، وان القواعد القديمة المتعلقة بالحق والباطل إنما سنها رجال جبناء في الماضي، ولايمكن لرجل قوي ان يتقيد بها وثمة مبدأ زائف يتردد على الالسنة انجُ بحياتك وخذ ماتريد لنفسك.
ازاء كل هذا شعر سقراط ان عليه رسالة يجب ان تؤدى.. عليه ان يقف بصلابة في وجه الظلم والجهالة قبل ان تهلك المدينة، وذات يوم عقد مجلس الخمسمائة «وهو مجلس يتكون من 501» من المواطنين لمناقشة مشاكل المدينة واصدار الاحكام في القضايا المختلفة، والواحد بقصد الترجيح، كان سقراط قد اختير ضمن مجلس الخمسمائة للحكم في قضية القواد الستة المتهمين بالخيانة وصدرت توصية تحت وطأة غضب الجماهير تدعو للاقتراع المباشر: إما الإدانة والاعدام او التبرئة لهم جميعا، هذا يعني ان احدا من القواد الستة لن يأخذ فرصته في الدفاع عن نفسه وان الاعدام هو ماينتظرهم جميعا بفعل سخط الجماهير لذا تصدى سقراط لهذه التوصية حتى كاد ان يفقد حياته لكنه نجح في اجهاض المخطط الذي يتزي بزي العدالة.
ثم سرعان ماتداعت الاحداث وسقطت الحكومة الديمقراطية وحلت محلها حكومة «الثلاثين» الديكتاتورية الموالية لجنود اسبرطه، وارادت ان تورط الشرفاء في اعمالها الدنيئة حتى لا يوجهوا اليها اية انتقادات. في بداية حكمها وجهت الى سقراط انذاراً كي يكف عن التعليم، ثم كلفته مع اربعة آخرين للقبض على احد خصومهم من الديمقراطيين بغرض محاكمته فامتنع سقراط عن تنفيذ هذا الامر وكانت زوجته زانثب تقضي الليالي الطوال وهي تتوقع وقع اقدام الحرس للامساك بزوجها العجوز ومحاكمته.
اكثر من مرة كاد سقراط ان يفقد حياته من الحكومات المختلفة وكانت النجاة تأتي من حيث لايحتسب الى ان وقعت الطامة والمفارقة المذهلة حين عاد الديمقراطيون الى الحكم وبدلا من ان يحمدوا لسقراط انه امتنع عن القبض على احدهم وهم في صفوف المعارضة اذا بهم يقدمون سقراط للمحاكمة اثر بلاغ من احد الادعياء يتهم سقراط بالتجديف في حق الآلهة.
وفي يوم المحاكمة خرج سقراط مع اصدقائه غير مبال بشيء، لم يفكر في الهرب، ولم يقبل من اصدقائه ان يكلفوا خطيبا مفوها باعداد دفاع عنه امام مجلس الخمسمائة وقال ببساطة لقد كنت في سبيل اعداد هذا الخطاب طوال حياتي كلها.. انه سقراط بن سفرونسكس النحات، عاش يأكل من عمل يده وحارب على الجبهة بشجاعة من اجل مدينته وامضى سبعين عاما، هي كل العمر بحثا عن الحق والخير، ووقف الآن امام مجلس الخمسمائة يقول «مادام في صدري نفس يتردد وفي قلبي قوة فلن اكف عن ممارسة الفلسفة، وسوف اشجع كل رجل الاقي واوجهه الى الحقيقة وسوف اسأله واختبره وافحصه. ولو وجدت انه لا يملك الخير لمته على ذلك.. واذن ايها الاثنيون فانه سواء لدي ان تطلقوا سراحي او لا تطلقوه، ولكن ايا ماتفعلون، فلتفعلوه وانتم تعلمون انني لن اغير مسلكي، حتى لو حكمتم عليّ بالموت عدة مرات»، توقع اصحاب المجلس ان يبدو خائفا او ان يصطحب زوجته واطفاله استدراراً لعطفهم لكن المتهم تحول الى قاض يدين الظلم والجهل ويرفض ان يوقع عليه أي نوع من العقاب لأنه عاش حياته مواطنا شريفا ومخلصا لوطنه وبالتالي فهو يستحق جائزة لانه كان بالنسبة لاثينا مثل الذبابة بالنسبة للحصان تجعله يبقى منتبها ويقظا. وفي النهاية اعلن انه لايهمه في شيء ان يوازن بين فرص الموت وفرص الحياة وانما المهم الا يبرح المرء مكانا ارتآه لنفسه خير الامكنة، ودفاعا عن هذا المبدأ تقبل سقراط بنفس راضية ان يجرع السم في كبرياء لان المبادئ لا يمكن ان يُتنازل عنها والحياة لا تستحق ان تعاش اذا فقد المرء ما يؤمن به.
شريف صالح
|
|
|
|
|